“كتاب في الهيئة” لنور الدين البطروجي

العنوان : "كتاب في الهيئة" لنور الدين البطروجي : شرح وتكملة لنماذجه الفلكية بواسطة الحاسوب
تأليف : الأستاذ محمد بن بوطيب حيلوط
الناشر : دار الأمان، 2025.
أصدرت دار الأمان للنشر بالرباط ”كتاب في الهيئة“ لنور الدين البطروجي الذي يحتوي على وصف للنماذج الفلكية التي أبدعها هذا المهندس الأندلسي وأودعها بنصه الوحيد الذي وصلنا على شكل مخطوطتين بالعربية ومخطوطتين بالعبرية ومخطوطتين باللاتينية. لقد قام برنار رفائيل چولدشتاين Bernard R. Goldstein في بداية السبعينات من القرن الماضي بتحقيق الكتاب ونقله إلى الإنجليزية انطلاقا من أصله العربي ومن ترجمته العبرية. لأول مرة يمكن لقراء العربية مطالعة هذا الكتاب بلغته الأصلية مرفقا بشرح لكل فقراته وبتحليل هندسي لنماذجه. إضافة إلى ذلك، سيجد كل من يهتم بدراسة وتدريس تاريخ علم الفلك روابط لمعاينة نتائج هاته النماذج الفلكية التي يعود عهدها لنهاية القرن الثاني عشر الميلادي، ليس فقط على شكل جداول حسابية، بل كذلك على شكل حركات فعلية للكواكب على شاشة الكمبيوتر.
لاستيعاب محتوى كتاب البطروجي في الهيئة وفهم ما أضافه هذا المهندس لنماذج سابقيه، يبدأ المؤلف بتقديم النماذج الفلكية التي ينتقدها البطروجي فيقدم لها بديلا. وهاته النماذج هي خلاصة ما كانت قد تمخضت عنه تخمينات المهندسين الإغريق فيما بين القرن السادس قبل الميلاد ونهاية القرن الثاني بعده. فاسكتشاف ”كتاب في الهيئة“ يسوق القارئ إلى الاطلاع على محاولات كل السابقين الذين راموا فهم وشرح ومحاكاة الظواهر السماوية.
خُصِّص الفصل الثاني من الكتاب لتقديم الانتقادات التي قام بها مهندسون مرموقون مثل ابن الهيثم وما أنتجته المدرسة المشائية بالأندلس (ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد، ابن ميمون) من ملاحظات قبل أن تتوجها مجهودات البطروجي الهندسية، والذي لم يكتف بالنقد بل تجرأ على تقديم البديل انطلاقا من مبادئ أرسطو الفيزيائية والفلكية. لقد شاركت مجهوداته في مسيرة البحث العلمي الشاقة والمتعثرة لإيجاد حل لمعضلة علم الفلك؛ مسيرة كانت وما زالت عبارة عن مغامرة ملؤها التجارب التي لا نعلم مسبقا هل ستكلل بالنجاح أم لا. وتقع على عاتق أجيالنا الحالية مهمة الوقوف على ما خلفه له لنا التاريخ من نجاحات ومن إخفاقات إنسانية سواء كانت إغريقية أم عربية أم فارسية أم لاتينية، تجارب تنتمي كلها لتاريخ الإنسانية وبالتالي لتاريخنا جميعا.
بعد هاته التوطئة في فصلين، يمكن للقارئ أن يفهم بشكل أفضل ما خطه البطروجي بلغة عصره قبل الاطلاع على شرح لفقراته ثم تحليل هندسي لنماذجه بلغتنا وبأدواتنا الرياضية العصرية. بهذا يمكن لكل مهتم بتفاصيل تاريخ علم الفلك أن يعاين التوتر الذي ظل قائما بين مقولات أرسطو في الفلسفة الطبيعية (الفيزياء) ومقولات أفلاطون الفلكية. لقد كلف هذا الأخير مهندسين من تلاميذه بإيجاد حل يحاكي حركات الكواكب السماوية - التي تبدو لنا معقدة - مع التقيد بدوران لا تتغير سرعته ولا وجهته. قدر أفلاطون أن كمال الأجرام السماوية، المسماة بـ"الإلهية" في زمانه، يقتضي ألا تهرول حينا قبل أن تخفف السير حينا آخر. إلا أن الظواهر الطبيعية ظلت عنيدة، لا تمتثل لمقولات هندسية مثالية. فالكواكب السيارة متسارعة حينا من الدهر ومتباطئة بعد ذلك إلى حد أن خمسة منها تتوقف ثم تعود القهقري فتلتوي لتتابع مسيرتها الأولى، حركات تبرر تسميتها بالكواكب المتحيرة. ولقد أضاف أرسطو لنظريات أفلاطون مقولات أخرى كانت محفزة للبطروجي ولأعضاء المدرسة الأرسطية بالأندلس على مبادراتهم الفلسفية والهندسية.
بعدما كان بطلميوس الإسكندراني قد أوجد حلولا هندسية لا تتقيد كلية لا بمبادئ أرسطو الفيزيائية ولا بمثالية أفلاطون، اعتبرها فلاسفة ومهندسون بالمشرق وبالأندلس خارجةً عن القياس. هذا ما نقرأه مثلا في كتاب نقدي رصين ومفصل ألفه ابن الهيثم في بداية القرن الحادي عشر للميلاد عَنْوَنَه بـ "الشكوك على بطلميوس". بعد هذا الوعي الواضح لـمعالم القصورِ بالنماذج البطلمية، سنصادف فلاسفة ومهندسين يرومون احترام المقولات الأرسطية بينما فضل جل المهندسين المشارقة منح الأسبقية لاحترام المقولات الأفلاطونية.
فـ"التمرد الأندلسي The andalusian revolt"، كما سماه عبد الحميد صبره، المؤرخ لعلم الفلك، هو الذي تمخضت عنه نماذج البطروجي الهندسية. وفعلا عاد هذا الفلكي لمراعاة فيزياء أرسطو التي تنطلق من المبادئ التالية :
- كل الأجرام السماوية تدور حول مركز واحد ومشترك هو وسط أرضنا؛ شرط لم تحترمه نماذج بطلميوس ولم تحترمه نماذج المهندسين المشارقة الذين نهضوا لإصلاحها.
- المحرك الأول هو المسؤول عن الحركة اليومية لكل ما بالسماء من المشرق نحو المغرب.
- كل متحرك في حاجة لمن أو لما يرافقه طوال مدة حركته.
انطلاقا من هاته المبادئ، يصف البطروجي أفلاكا كروية متطابقة مرصعة بالأجرام السماوية. هاته الأفلاك هي المرافقة للكواكب وهي المتشوقة للحاق بالمحرك الأول دون أن تتمكن من تحقيق ذلك. يعتبر البطروجي أن أقطاب هاته الأفلاك مقصرة في اللحاق بالمحرك الأعلى وأن هذا التقصير ضئيل بالأفلاك العليا بينما نراه بشكل ملحوظ لما نرصد منازل القمر المحمول على متن أدنى الأفلاك من أرضنا، وبالتالي أبعدها عن المحرك الأول. هذا التقصير لقطبي الفلك هو ما يحفز الأفلاك بنماذج البطروجي على بذل جهود إضافية لتقليص مدى تأخرها، فتدور بتلقاء نفسها مسابقة بذلك لقطبيها. هاته الحركة الإضافية، التي سماها البطروجي حركة الاستيفاء، هي من إبداعه ولا نصادفها عند غيره من الفلكيين. وهنالك تجديدات أخرى أتى بها البطروجي سيقف القارئ عليها في كتابه في الهيئة.
وفي الفصل الرابع والأخير يجد القارئ فحصا هندسيا مفصلا لحركات الأفلاك حول أقطاب متعددة كان ابن رشد قد نبه إليها بمتن شروحاته لأرسطو. يلي ذلك تحليل لمفعول كل نوع من أنواع الحركات على حدة بما فيها حركة الاستيفاء. وأخيرا، يمكن للقارئ أن يرى نتائج كل الحركات المتداخلة التي وصفها البطروجي على شكل رسومات بيانية ملونة وفي حلة أنيقة بعدما ظلت نماذج البطروجي، مثلها مثل أغلبية علماء الفلك، وصفية فحسب.
فاستغلال الإمكانيات التي تتيحها الحواسيب لأجيالنا الحالية هو ما ساعد المؤلف أولا على فهم واستيعاب نماذج البطروجي الهندسية قبل أن يقوم بتعميمها لتطال كل النماذج الفلكية القديمة، خاصة منها نماذج بطلميوس التي ينتقدها البطروجي ويقدم لها بديلا.
في نهاية الكتاب، يخصص المؤلف ملحقا وجيزا لتقديم منهجيته التي من شأنها أن تفتح المجال لاعتماد طرق جديدة وناجعة لدراسة وتدريس تاريخ النماذج الفلكية بواسطة الحاسوب وبرمجته.
(نشكر الأستاذ محمد حيلوط على تفضله بكتابة هذا العرض الموجز للكتاب لأجل نشره على الموقع الإلكتروني لمركز ابن البنا المراكشي)