وحدة الإحياءدراسات عامة

قيمة الوعي بالمستقبل.. في فقه النهضة

الزمن بالنسبة للإنسان هو وعاؤه المعنوي الذي يحوي لحظاته ويضبط أيامه، وفي فلك الزمن تدور ساعات أعمارنا بصمت يكبت صراخ الإحياء وضجيج الأشياء كونه ساحق متعجل، أنه يلتهم الحياة دون التفات، فما مضى لن يعود، والحاضر قريب الفوات لا يسع وقته وظروفه للتحكم والتغيير، وأما الفعل الممكن فلا يكون إلا في المستقبل.

إن المستقبل هو رهان النهضة ومجال الفعل، ومن غير التفكير فيه والاستعداد لاحتمالاته، فإن واقع الضعف والتخلف لن يتحول بغتةً إلى نهضة وتقدم من غير تخطيطٍ لماضٍ ذهب صار واقعا اليوم وأملا متجددا في المستقبل.

الأمر الذي تصبح معه الحاجة آكد لفقهٍ نهضوي يصنع الريادة والشهود الحضاري للأمة، من خلال مدرج الوعي بالمستقبل ومتطلباته النظرية.

وقد قسمت هذا البحث إلى مسائل على النحو التالي:

أولا: الوعي بالمستقبل، وهلامية القبض على المعنى

زمن المستقبل يعتبر من الغيب الذي لم يطلع عليه بشر، والوعي كمصطلح، هو من العبارات الشائكة المعقدة المحمّلة بالغموض بالرغم من كثرة الاستعمال. فالمستقبل والوعي من ألغاز عصرنا الحاضر، والمحيرة والمتبادرة أيضا إلى كل ذهن في آنٍ واحد؟!

 يقول القديس أوغسطين: “عندما لا يطرح المرء السؤال: (ما هو الزمان)؟ فإنه يعرف ما عساه أن يكون الزمان، ولكنه إذا طرح السؤال فإنه لا يعرف عن الزمان شيئا[1]“، والوعي كذلك من حيث الاستعمال لا إشكال في توافق الأذهان على المراد العام منه، ولكن عند تحليل معناه وتوضيح مبناه المصطلحي فإن فضاءً واسعاً من النجوم البعيدة تراه أمامك في حيرةٍ وذهول.

ففي هذا القرن طرحت أسئلة عدة حول الوعي وماهيته، ليس من الفلاسفة فحسب، بل من علماء النفس والأعصاب والإدراك وحتى من بعض الفيزيائيين، كلها تدل على وجود لغز محير في ظلام دامس[2].

يقول دانيال دينيت في تفسير هذا المصطلح من الناحية المادية: “إن الوعي الإنساني هو تقريباً اللغز الأخير المتبقي… ثم يكمل بعدما سرد بعض الألغاز الكونية والطبيعية: ومع ذلك فإننا لا نزال مع الوعي في لبس شديد؛ فالوعي يقف اليوم بمفرده باعتباره الموضوع الذي يترك حتى المفكرين العظام وقد عقدت ألسنتهم وأخذتهم الحيرة من كل جانب.”

وبالتالي خرجت عدة مناهج واتجاهات تحليلية للتعامل مع لغز الوعي أو ما يسمونه الفلاسفة “الفجوة التفسيرية”، وأغلب فلاسفة هذه الاتجاهات هم من الغربيين؛ فأصحاب النزعة الاستبعادية ينكرون وجوده بوصفه ظاهرة حقيقية، وأصحاب التصور الإعجازي ينظرون إلى الوعي على أنه لغز وسر يتجاوز الطبيعة، وهناك اتجاه يسمى “نزعة صاحب اللغز الجديدة” ويرون أن الوعي ظاهرة طبيعية ولكن تفسيرها النظري مستحيل، وهناك أصحاب المذهب الطبيعي والذين يعتبرون الوعي ظاهرة حقيقية يمكن تفسيرها في حدود طبيعية. فهذا الاتجاه الأخير هو اختيار عدد من الفلاسفة المعاصرين مثل: تشيرشلاند ودنييت وفلاناجان وجون سيرل، ولعل الأخير أكثر من كتب في هذا الموضوع الذي أزال اللثام عن حقيقته في عدة مؤلفات، قام بدراستها الدكتور صلاح إسماعيل في كتابه “فلسفة العقل[3].”

  • نلحظ مما مضى أن هناك ملامح نظرية علمية للوعي متروكة لمستقبل التطور البحثي في علوم النفس والعقل والأعصاب يتنبأ بها عدد من الفلاسفة المعاصرين. وهذا يفتح الباب للسؤال المعتاد؛ عن مدى قيام المفكرين والمثقفين المسلمين لاكتشاف لغز الوعي؟ وأعتقد أن الوعي الإسلامي لا يعاني من مشكلة إثبات الوجود، فهو حاضر في المكوّنات الرئيسة للدين من نصوص القرآن والسنة الواضحة في دلالاتها وثبوتها، ولكن المشكلة المركبة لدينا هي في اكتشاف نظرية الوعي في بطون هذا الإرث العظيم، فغيابها أو تغيبيها ناتج عن انحرافات الجهل والأهواء التي تلبست بها الأمة في عصورها المتأخرة؛ على حسب رأي الإمام الشاطبي في دوافع الفرقة والانحراف في تاريخ الأمة. يقول رحمه الله: “إن الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة[4].”

ويمكن تقريب النظر في أهم ملامح الوعي الديني لدى المسلمين، من خلال القضايا الأربع التالية:

  1. (الفهم البياني) الصحيح لدلالات النصوص على معانيها كمطلب للوعي..
  2. (التأصيل الاستدلالي) المعرِّف بأحكام النوازل الجديدة وفق قواعد التنزيل المحكم كمنظم وممنهج للوعي..
  3. (الشهود الاستخلافي) القائم بواجب عمارة الدنيا ونهضة معاش الناس كمنتج للوعي..
  4. (التلازم المقاصدي) بجمع النصوص لتتوافق مع حقائق المقاصد الكلية للشريعة وتحقق المنافع من عبودية الخلق لله تعالى كخلاصة وصورة تامة للوعي. فهذه الملامح الأربعة هي أشبه بمقاربة اجتهادية، لعلها أن تفتح الباب لرصد الجوانب العقليّة من نظرية الوعي الديني في الشريعة الإسلامية.

ثانيا: الوعي بالمستقبل كحاجة للنهوض

الدراسات المستقبلية أو علم المستقبل أو المستقبليات أصبحت في الألفية الثالثة مفتاح التغيير والاستجابة الراشدة لتحديات المستقبل ومفاجآته المحمومة والمتسارعة في حياة المجتمعات المعاصرة. والمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لم تعد متدرجة في اتساقها وانسيابيتها في بنى المجتمع الفكرية والثقافية، بل اكتسبت صفة العصر الحاضر في سرعتها واندفاعها اللاواعي نحو التغيير الحتمي الذي فرضته عولمة السوق المفتوحة وشبكات التلفزة الفضائية ومجريات الساحة السياسية تحت وطأة مرتزقة الحروب الإرهابية، وأصبحنا نندفع مع ذلك السيل العرم بكل غثائيته نحو المصير المجهول المنحدر نحو قيعان التبعية والغواية الاستهلاكية أو الترفيهية كما هي سمة العصر القادم للمجتمعات العربية والحاضر للمجتمعات الغربية.

فمجتمعات تعيش تحت هذه الهيمنة الناعمة لا يمكن لها أن تحدد مصيرها ومستقبلها القادم وأدوات التغيير والتفعيل مازالت ملكًا لغيرها.

من هنا كان التحدي للخروج من هذه المآزق بإشعال الشمعة التي تزيل ظلمة الليل الطويل ورؤية الطريق الذي يجب أن نسير فيه وليس الطريق الذي نجبر على السير فيه.

إن الرؤية المستقبلية هي الشمعة التي تحدث عنها (فرانسيس بيكون) والتي قصد بها طريق التجربة الحقيقية، التي لابد أن نشعلها أولاً حتى نرى الطريق بوضوحه المحسوس[5]. فالوعي بتحديات الحاضر واستشراف العمل المستقبلي لمدافعتها والتفاعل الايجابي معها خطوة نحو المخرج الصحيح لأزماتنا المتكررة، ولا يكفي الاستنفار الخطابي لها أو المراوحة الوعظية بجدواها، بل لابد من رسم التجربة العلمية والتخطيط المنهجي لمقاومتها بالتي هي أحسن.

والفكر الإسلامي المعاصر لم تغب عنه أهمية استشراف المستقبل مع محدودية هذا الطرح في الساحة الثقافية، ولكن الذي يشكّل غياباً ملحوظًا في برامجنا الثقافية عدم وجود المنهجية العلمية التي تحول استشراف المستقبل إلى منهجية علمية لها أساساتها المعرفية وتقنياتها الإستراتيجية، ولعل ندرة المراكز المتخصصة في الدراسات المستقبلية في بلادنا العربية شاهد على ضعف العمل بالدراسات والنظريات المستقبلية في مقابل التكاثر الهائل لتلك المراكز في الغرب المعاصر، ومثالٌ على ذلك؛ بلغ عدد أعضاء (جمعية مستقبل العالم) الأمريكية أكثر من ثلاثين ألف عضو منهم ما يزيد على الألف عضو من العلماء الذين يعتبرون أنفسهم متخصصين فعلاً في هذا المجال الجديد ويمارسون العمل فيه حسب قواعد ومناهج معينة تضفي عليه كثيراً من الموضوعية[6].

فالخطوة الأولى التي يجب البدء بها، مع تأخرها، هو معالجة أمّية الوعي المستقبلي بنشر ثقافة علوم المستقبل في الأوساط العلمية والمراكز البحثية وحتى عموم الناس من القراء والمهتمين.

يقول الدكتور هادي الهيتي: “الوعي بالمستقبل هو مستوى فهم المجتمع لصورته القادمة، وإدراكه لدوره في الإسهام في تفاعله مع مواقف الحاضر وصولاً إلى إدراك ما يقتضيه تفاعله مع مواقف المستقبل[7].”

فبما أن المستقبل يتطلب عملاً جادًا للتفاعل معه؛ كانت الحاجة أهم لبناء وعي فردي ومجتمعي يضمن تحقيق المقصود وينجح في الوصول إلى المطلوب من التخطيط والاحتياطات والدفاعات اللازمة لتغيير المستقبل.

فمهمة الوعي بالمستقبل تتركز على تحويل علم المستقبل من تخرّصات وظنون ونبؤات خرافية إلى علم له أساساته المنهجية، وتكوين إرادة التغيير والمدافعة الذاتية لتحديات المستقبل.

كما تبرز أهمية الوعي المستقبلي في فهم وإدراك طبائع السنن التغييرية والتحولات الإنسانية وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن المستقبل وإهمال التعامل مع تحدياته.

وهذا التحفيز الذهني لاستشراف المستقبل سيدعو للمشاركات الجماهيرية في عمليات التغيير وتكوين فرص التأهب الاجتماعي استعدادًا للمستقبل بدل ترقب وقوع المشكلات بصورة مفاجئة.

هذه بعض البنى الهامة في الوعي المستقبلي ينبغي أن تتحقق كأرضية صلبة لأي مشروع إستراتيجي يراد له النجاح في واقع حياة الناس، وهي لاشك رؤية فكرية وثقافية تنطبع تلقائيًا في سلوك الفرد الواعي باستشراف المستقبل، عندما يفكر في دراسته وتكوين أسرته وتأمين كفايته المادية وأحلامه الحياتية، وبالتالي تتشكّل لنا نخباً واعية ترفض العودة إلى تجارب الماضي ما لم تثبت معطيات الحاضر جدواها وتحليلات المستقبل فاعليتها، ولا أظن مشروعًا تنجزه تلك النخب إلا وهو صمام أمانٍ للمجتمع من تداعيات المستقبل وتحدياته.

ثالثا: اعتبارية الرؤية المستقبلية في الاجتهاد الأصولي

لست بصدد إثبات مشروعية النظر المستقبلي؛ فالأصل العام في الشريعة جاء مقررا إثبات المصالح للمكلفين في الحاضر والمستقبل، كما يقول الشاطبي: أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً[8].”

وكون مصالح الآجل من أهم مقاصد الشريعة يعطى للمسلم انطباعا ذهنيا راسخا بضرورة النظر المستقبلي وتجاوز المعاش الدنيوي إلى ما بعد حياة الإنسان من المعاد الأخروي، فنصوص العمل للآخرة تؤكد ضرورة الوعي بالعمل لمستقبل الإنسان دون خضوعه للحياة المعاصرة والحاضر المؤقت، وهذا التوجّه الشرعي يعتبر أقوى وثيقة تاريخية تبني الوعي المستقبلي في سلوك الأفراد بل وتشدّهم نحو عمارة الدنيا بالعمل للآخرة.

ومن تأمل سنن الحياة فإنه يدرك قوانينها الثابتة التي لا تنخرم عند تكامل مواجباتها السببية، لذا وجب على المسلم أن يدافع القدر بالقدر من خلال فهم تلك النواميس الثابتة والعمل على مقتضاها الشرعي، فشيوع الظلم مثلا مؤذنٌ بخراب المجتمعات ونزوعها للثورات؛ ومن أجل تفادي وقوع هذا القانون الإنساني وجب على أهل الحل والعقد المحافظة على موازين الحق والعدل من باب دفع الأقدار بالأقدار، وهي لاشك استلهام عملي لتفادي توقعات المستقبل. وسير الأنبياء وشرائعهم نماذج حيّة مليئة بالشواهد الاستشرافية للمستقبل الذي كانوا يتصورون وقوعه، فهذا نوح عليه السلام أمضى ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو قومه، وحين رأى بحكمته ونفاذ بصيرته أن لا فائدة ترجى منهم، دعا على قومه قائلاً: ﴿إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا﴾ (نوح: 29). فكانت الرؤية المستقبلية واضحة عند نوح عليه السلام لذا كان القرار بالدعاء عليهم حكيماً لعدم توقع الإيمان منهم ولعِظم الضرر من وجودهم، واستجاب الله، عز وجل، لدعائه. والمثل المشابه والمعاكس هو قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، لملك الجبال الذي أراد أن يطبق الأخشبين على أهل الطائف: “بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً” نظرا لتوقع الإيمان من ذراريهم في قادم الأيام.

وهذا يوسف، عليه السلام، عندما فسر رؤيا العزيز بوجود كارثة اقتصادية في البلاد وحصول المجاعة، قام بالتخطيط المستقبلي للخروج من هذه الأزمة بخطة محكمة لمدة خمسة عشر عاما تنجو فيها البلاد كارثة المجاعة. وقد قصّ القرآن الكريم وقائعها في سورة يوسف عليه السلام.

والشواهد من حياة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، أكثر من أن تحصر في مثل هذه الورقة، سواء في خياراته لمن يحمل هموم الدعوة السرية في بداياتها، أومن خلال إرساله بعض أصحابه إلى الحبشة كخيار إستراتيجي يحفظ الدعوة من الاجتثاث في مكة ويوفر مناخ جديد لنشر الإسلام، أو في تركه غزو المشركين في ديارهم حتى استقرت له الدولة بعد غزوة الأحزاب واستقرت مصادر التمويل بعد فتح خيبر كأساسات مهمة في بناء الدولة وإعداد الجيوش. ولم تتوقف جهود العلماء من العمل به؛ ربما أكثر من تأصيله والتعريف البياني له، ولعل من أهم الأسس الأصولية المؤكدة لرعاية الشريعة للمستقبل؛ أنها ألزمت المفتي وهو الموقع عن رب العالمين والقائم بأخطر وظيفة في المجتمع الديني؛ أن يكون على دراية واسعة بمآلات الفتوى وذرائعها المفضية إليها، وهذه القاعدة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام؛ كما في قوله تعالى: ﴿ولا تاكلوا أموالكم بينكم بِالباطِلِ وتدلوا بِها إِلى الحكّامِ لِتاكلوا فرِيقًا مِن اَموالِ النّاسِ بِالاِثمِ﴾ (البقرة: 187)؛ وقوله تعالى: ﴿ولا تسبّوا الذِين يدعون مِن دونِ اللّهِ فيسبّوا اللّه عدوًا بِغيرِ عِلمٍ﴾ (الأنعام: 109).

وما جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، حين أشير إليه بقتل من ظهر نفاقه قوله: أخاف أن يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه[9]“، وقوله: “لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم[10].” إلى غيرها من النصوص المتواترة في اعتبار الذرائع والمآلات واستشراف مستقبل وقوعها[11].

يقول الإمام الشاطبي، رحمه الله، في أهمية اعتبار هذه القاعدة عند النظر والاجتهاد: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون؛ مشروعاً لمصلحة قد تستجلب أو لمفسدة قد تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحه تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من انطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة[12].”

إن تخمينات المستقبل ليس عهده قريب، بل بعيد بعد بداية الإنسان على وجه الأرض، ولكنه كان تخرصات وخداعات يمارسه الكهان والسحرة ليأكلوا أموال الناس بالباطل ويدفعوا عن الناس قلقهم الفطري من المستقبل، ولكن تأصيل اعتبار المستقبل من خلال منهجية علمية تحليلية تحاول الضبط والتحديد والوصول إلى الدقة العلمية، هو التحدي الحقيقي أمام العمل لمستقبل أفضل للبشرية، ولهذا حرّمت الشريعة الإسلامية تصديق العرافين والكهان لما فيه من ادعاء الغيب والتخرص من خلال كذب الجن والشياطين، وأظن أن كلمات الشاطبي السابقة حول اعتبار المآلات، وغيره من علماء أصول الفقه الذين تحدثوا عن قاعدة سد الذرائع وفتحها؛ تتمحور حول تلك المنهجية العلمية في تحويل النظر المستقبلي إلى أدوات علمية قادرة على القياس و التحليل.

وللإمام ابن القيم تقسيم لطيف في أنواع الذرائع ما يسد منها وما يفتح يقول فيه رحمه الله: “والذرائع تنقسم إلى أربعة أقسام:

  1. أن تكون وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر مفضٍ إلى مفسدة السكر، والزنا مفضٍ إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، وهذا النوع جاءت الشريعة بمنعه.
  2. أن تكون وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة، كعقد النكاح بقصد التحليل أو عقد البيع بقصد الربا، وهذا ممنوع.
  3. أن تكون وسيلة موضوعة للمباح ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، مثل الصلاة في أوقات النهي، وسب آلهة المشركين، وتزيين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة. وهذا ممنوع.
  4. أن تكون وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، كالنظر إلى المخطوبة أو المشهود عليها، والصلاة ذات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند سلطان جائر، وهذا مشروع في الجملة[13].”

هذا المثال السابق لمجرد توضيح المنهجية الشرعية التي يمتد نظرها إلى ما بعد الحاضر نحو مآلات الفعل واستباق المآل بحكم الحال إما من باب المنع من الأسوء أو من باب الدفع بالتي هي أحسن.

ويمكن معرفة مسالك الكشف عن مآلات الأفعال والأحوال من خلال الطرائق التالية وبإيجاز:

  • مسلك الاستقراء الواقعي.
  • مسلك الاستبصار المستقبلي.
  • مسلك الاسترشاد بالعادة الطبيعية.
  • مسلك الاسترشاد بالعادة العرفية.

ﻫ. مسلك الاسترشاد بقصد الفاعل[14].

ويؤكد عالم المستقبليات العربي الأستاذ مهدي المنجرة على أهمية المنهج العلمي في دراسة المستقبل، فيقول: “لا يكمن دور الاستشراف في إصدار التنبؤات؛ إذ يتجلى هدفه في تحديات الاتجاهات، وتخيل مستقبل مرغوب فيه، واقتراح إستراتيجيات تحويله على مستقبل ممكن، وهكذا فإن الأمر يتعلق بتسليط الأضواء على الاختيارات قصد مساعدة صانعي القرارات للتوجه نحو الأهداف بعيدة المدى، مع إطلاعهم على التدابير الواجب اتخاذها في الحين، قصد الوصول إليها[15].”

فعلماء أصول الفقه قد قدموا رؤية مستقبلية وفق ضوابطهم الأصولية، وأظن أن لهم قدم السبق في صناعة علوم المستقبل، مع حاجة هذا الإطلاق إلى دقة علمية وجهد استقرائي، وليس ما ذكره المؤرخون الأوروبيون كما يشاع الحديث عندهم من أن أحد رجال الدين في بريطانيا في القرن الثامن عشر ويدعى (صامويل مادن) في كتابه “ذكريات القرن العشرين” هو البداية الحقيقية لظهور (علم المستقبل)، مع العلم أن ما ذكره كان مجرد توقعات وليست تحليلات منهجية لهذه التوقعات المستقبلية، ومثله كتاب أصدره الأسقف الفيلسوف (جوزيف جلانفيل) وهو أحد مؤسسي الجمعية الملكية البريطانية، حول توقعاته لمجتمعات القرون القادمة. ولكن يجب أن نعترف ونقر بالفضل أن محددات هذا العلم ونشأته الحقيقية والفضل في نشره وتعليمه كانت في الغرب المعاصر، فأول من استعمل مصطلح Miloontologie (أحداث المستقبل) هو عالم الاجتماع (جليفان) في سنة 1907، وأول من استعمل كلمة (علم المستقبل) هو الأمريكي ذو الأصل الألماني (اوسيب فليختايم) تحت اسم futurologie كما أن أول من استخدم كلمة (استشراف) Prospective هو العالم المستقبلي (جاستون)، وهذا الجهد الكبير في خدمة هذا العلم استثمر في كثير من صور الحياة المعاصرة والعلوم الإنسانية والطبيعية، فنجد في فرنسا أن العالم (غاستون برجيه) في سنة 1951 أنشأ مركزا دوليا للاستشراف نشر في بداياته الأولى ما عرف (بكراسات الاستشراف). كما تعد السويد في هذا المجال هي البلد الأكثر اهتماما بهذه الدراسات حيث أسست لذلك كتابة للدولة للدراسات المستقبلية؛ كان من مهامها بحث البدائل المستقبلية للمجتمع السويدي وإجراء دراسات حول تعميق الحالة الديمقراطية بها، وعموما فكل الدول المتقدمة لها مراكز للدراسات المستقبلية، وأصبح بالتالي علما له خصائصه ومتخصصيه؛ يكفي أن نعرف أن (جمعية مستقبل العالم) الأمريكية بلغ عدد أعضاءها أكثر من ثلاثين ألف عضو منهم ما يزيد على الألف عضو من العلماء الذين يعتبرون أنفسهم متخصصين فعلا في هذا المجال الجديد ويمارسون العمل فيه حسب قواعد ومناهج معينة تضفي عليه كثيرا من الموضوعية، في حين أن تلك المراكز المستقبلية لا تتعدى العشرين في جميع الدول العربية مع ضعفها وقلة إنتاجها، كما أن تدريس هذا العلم ونشر ثقافته في الجامعات العربية مازال محدودا وهامشيا؛ ولا غرابة في ذلك فحضورها الواقعي والتفاعلي مع القضايا الراهنة مغيب عن الشهود، فكيف نطلب منها القفز نحو المستقبل البعيد؟!

رابعا: ملامح الوعي المستقبلي في خطة التحضر

مما سبق يمكن أن نلخص أهم ملامح الوعي المستقبلي الخاص بخطة التحضر. من خلال التأكيد على المفاهيم التالية:

  1. يؤكد الدكتور هادي الهيتي في بيان المراد بالوعي المستقبلي كحاجة مجتمعية للنهوض والتغيير: “الوعي بالمستقبل هو مستوى فهم المجتمع لصورته القادمة، وإدراكه لدوره في الإسهام في تفاعله مع مواقف الحاضر وصولا إلى إدراك ما يقتضيه تفاعله مع مواقف المستقبل[16].”

فبما أن المستقبل يتطلب عملا جادا للتفاعل معه؛ كانت الحاجة أهم لبناء وعي فردي ومجتمعي يضمن تحقيق المقصود وينجح في الوصول إلى المطلوب من التخطيط والاحتياطات والدفاعات اللازمة لتغيير المستقبل.

فمهمة الوعي بالمستقبل تتركز على الغايات التالية:

  • تحويل علم المستقبل من تخرصات وظنون ونبؤات خرافية إلى علم له أساساته المنهجية.
  • تكوين إرادة التغيير والمدافعة الذاتية لتحديات المستقبل.
  • فهم وإدراك طبائع السنن التغييرية والتحولات الإنسانية.
  • تصحيح المفاهيم الخاطئة عن المستقبل والتعامل مع تحدياته.

ﻫ. التحفيز الذهني للمشاركات الجماهيرية في عمليات التغيير وتكوين فرص التأهب الاجتماعي استعدادا للمستقبل بدل ترقب وقوع المشكلات بصورة مفاجئة.

  1. الوعي بالمستقبل هو نوع من إثارة الفكر نحو طلب التغيير في الممكن من الزمان والمكان، ولا يتم التغيير مالم تنعش الذاكرة الجماعية فهي المستهدف من المستقبلية، وأس ذلك يكمن في الإيمان والعمل، ومحاربة التآكل المعرفي، والحيلولة دون تآكل الذاكرة، هما المقصد الأسمى من الاهتمام بعلوم المستقبل، وأس ذلك العلم والتواصي بالثبات على الحق، والصبر على مواصلة السير، لبلوغ الأهداف المرسومة لازدهار الأمة ودوام السؤدد لها[17].

فما لم يكن هناك شعور جماعي بضرورة العمل على الحد من الأخطار ومقاومة الفساد وإصلاح الأحوال فإن الجهد المستقبلي يبقى أوراقا مصفوفة لا تسعف محتاجا أو تنقذ مبتلى.

  1.  يقول الدكتور محمد بريش: “المستقبلية في منهجها السليم تقتضي نظرتين متكاملتين: نظرة إلى الأفق البعيد، ونظرة إلى الحاضر من بعيد؛ نظرة إلى الأفق البعيد لتكهن مآلات القرارات المتخذة الآن، ليس بقصد استغراق الذهن في التحديد الدقيق لتفاصيل مضمونها، ولا الاستمتاع ببراعة تخيل أشكالها، ولكن بهدف معرفة مجال المراجعة حاضرًا، وفسحة إمكانية المبادرة حالاً، لتغيير المسار نحو الأفضل، وتوجيه الواقع نحو الأمثل.

وتلك نظرة تقتضي بدورها كشف الجينات المولِّدة للاتجاهات الثقيلة التي تجر الأحداث بجاذبيتها، وتشد الواقع والوقائع تحت مفعولها، وهو أمر صعب دون نظرة أخرى من بعيد للواقع المدروس، نظرة تنطلق من زمن موغل في التاريخ بشكل كافٍ لاستيعاب المسار التاريخي للأحداث وفِقهِ أشكال تطوره، ومعرفة غلبة الصورة منه التي تحققت على صورة أخرى لم يكتب لها أن ترى النور، وإن كانت لها حظوظ افتراض الوقوع والتحليل الإبستيمولوجي الناقد بين النظرتين من شرفة الماضي الذي انطلقت منه النظرة الأولى، إلى أفق المستقبل الذي بلغته النظرة الثانية، هو الزبدة المرتجاة من البحث والتحليل، وهو المانع من أن يرجع بصر البحث المستقبلي خاسئًا وهو حسير، وما أمره على الدارس المستغرق الجهد بيسير[18].”

  1. المستقبل للإسلام؛ رفع كشعار يؤيده النص الشرعي والحاضر المشهود، ولكن المستقبل المنشود لا يتحقق وينمو نحو التطور والفاعلية استشعارا لمعنى مستقبلية الدين الحاسمة في آخر الزمان، فالدين هو قادح شرارة الإقلاع الحضاري عند الأمم التي حققت شهوداً حضارياً؛ فهو يحيي الروح، ومن ثم تقوم السياسة بعد ذلك بتنظيم الطور الثاني، ويتولى الاقتصاد الطور الثالث، وهذا يحدث شيء منه اليوم في العالم الإسلامي، فهناك رقي في الروح، وبصيرة في الدين، وتدفق في القوة البشرية. وهناك اليوم هاجس فاعل ومؤثر يغمر المخيلة بالتفاؤل، لم يوجد بهذه الكفاءة ولا بهذا العمق، فكثير من المسلمين اليوم يعمل وفق فكرة السيادة المستقبلية للإسلام. وهنا تكمن مفارقة غائبة عن الأنظار في فكرة المستقبل. فإذا كان المسلمون يملكون هذا الحس فإن خصوم الإسلام لدى حكوماتهم أفكار بعيدة المدى للتخطيط المستقبلي، لكن المخيال الشعبي يفقد الأمل كلما ازداد غرور القوة. هذه الحالة تخرج الإنسان من حيز اللحظة التاريخية، لتصبح عقيدة تصنع الطريق لبلوغ الغاية، وحين تصبح هذه الفكرة ثقافة مشاعة بين الناس، يجد خصومها أنفسهم محاطين بها؛ فينتقلون من حال العداء إلى حال التبني اللاشعوري لها، ويعملون على انتصار الحق بعيداً عن الحرص على امتلاك الحقيقة[19].
  2.  الوعي بالذات هو الخطوة الأولى لأي محاولة للنهوض بالحاضر واستشراف المستقبل، والمسلمون اليوم يمارسون نوعاً من محاربة الضعف الداخلي، وقد حققوا في هذا الطريق الكثير من التأسيس، وإن كان هناك هنات وعثرات فإنها زلاّت تصحب أية بداية، لكنها عثرات لا تسقط، بل تدعو لمزيد من الحذر. إن أقوى الأسلحة تدميراً هو شعور الفرد بالإحباط، وحين ينجح الأعداء في زراعة ثقافة اليأس في قلوب المسلمين، ويشعرونهم بانعدام الأمل، وانسداد آفاق المستقبل، فإن الضربة تكون قاتلة. لهذا يجب التنبّه لهذه القضية، وزرع ثقافة الثقة و التفاؤل في نفوس الناس، وتذكيرهم بالسنن الكونية التي تثبت أن المآسي كثيراً ما تكون فاتحة الخلاص. ومعرفة رأي الآخر في الذات يمنحها المزيد من القوة والدعم و الهداية، والعلاج من ثقافة اليأس. فمثلاً: الكاتب الفرنسي (توكفيل)، الذي تنبّأ قبل أربعين عاماً باقتسام العالم بين أمريكا وروسيا ووراثة أوروبا، يقول: إن الإسلام معدٌّ ليسود في هذه القرون وفي غيرها. و المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان يرى أن المعاصرة والإسلام يتنافسان على الفوز بقلوب الغربيين، ولا يوجد هناك خيارات أخرى منظورة. وهو ما يراه (أرنيست جيلنر) ويؤكده، من طريق آخر، (فوكوياما) حين يجعل الإسلام عصيًّا على الترويض. هذا الوعي يقضي بإخراج المسلمين مما يسميه (خداع المواجهات) الذي يضع الآخر كله في حزمة واحدة، وفي موقف واحد. فليس من الحكمة أن نجعل العالم معادياً لنا، ونرسم صورة خاطئة عن أنفسنا، نبدو فيها في صورة المتوتر المقاتل الذي يخيف ولا يرحم. فالإسلام دين المظلومين، وأمل المضطهدين، من غير ضعف أو تبعية لأحد. وهذه هي إستراتيجية الفقه المكي التي ينبغي القبول بها في هذه المرحلة. لا ينبغي للمسلمين أن تسحرهم قوة الغرب وعتاده، وتفقدهم الثقة في أنفسهم؛ فما نجده لديهم من وسائل التدمير لم يكن غريباً على الأمة في صراعها القديم على ما يورده، على سبيل المثال، أسامة بن منقذ عن الحروب الصليبية. واليوم على الرغم من الجراح التي تنزف من الجسد الإسلامي ظل عصياً على التطويع والإذلال، ويبدو اليوم أكثر تحدياً وتماسكاً وثقة، هذا الحال يفرض على التفكير المرن إدراك السنن الكونية التي تحكم حركة الكون، وهي سنن لا يمكن أن يعيها العقل المتصلب الذي يجاهد ضد حركة الحياة وجوهر الكون. إن الإنسان هو أعظم مخلوقات الله التي هيّأها لصناعة التحوّلات دون وعي بتفصيلاتها، فلم يكن يدرك أصحاب تلك الزوارق التي غادرت شواطئ اليمن الجنوبية باتجاه الشرق أنها ستغيّر مجرى التاريخ، وأنه سيكون في حملة واحدة من حملاته أكثر من (200) مليون إندونيسي. كما لم يكن يزيد دخل دولة واحدة يعلم (كولومبس) بأن دينه وجنسه سيكون لهم من غنائم رحلته ما يزيد دخل دولة واحدة من دوله عن (10) تريليونات من الدولارات.

إن الله يمنح الإنسان قدرة أكبر من تقديره، وهو أقل تقديراً لقدراته ومواهبه، وبخاصة في زمن الخمول، الذي يحقر الإنسان فيه نفسه، لكن سنن الله في الكون تجعل أثر الإنسان أكبر من تقديره، قال الله تعالى: ﴿والسّماء بنيناها بِأييدٍ، وإِنّا لموسِعون﴾ (الذاريات: 47). لكن الإشكال يكمن في أن الوعي بسنة التحول في المجتمعات يأتي متأخراً في وقت تضعف فيه القدرات عند الأشخاص، فحين يكون النشاط والعمل يعجز المرء عن الفهم، وحين يفهم يعجز عن العمل. لذلك لابد من كسر هذا الحاجز بين العمرين ليتحقق النهوض الحضاري، هذا الوعي يدفع بالتفكير إلى المرونة التي تعدّ من أهم ركائز القوة، لكنها مرونة لا تفضي بصاحبها إلى الضعف. إنها قوة الفكرة التي تجد لها طريقها كما يجد البرعم طريقه من تحت الركام، فيلتف بمرونة ليصعد إلى عنان السماء. أما القوة حين تفتقد الفكرة فإنها تسقط في أول لقاء مع فكرة مضادة. لقد التهم المسلمون المغول، ودمر المجاهدون الأفغان قوة الاتحاد السوفيتي، وسقطت تركيا في لجة فكرة الطورانية. إن رؤية المسلم رؤية منصفة لنفسه وللكون من حوله، وهذه الرؤية كفيلة بنقله إلى عالم الأمل، والخروج من عوالم اليأس[20].

  1. “القيم إلى أين؟[21]” هذا التساؤل الكبير كان محط اهتمام أكثر من خمسين مفكرا جمعتهم اليونسكو عام 2004 من كل أنحاء العالم للتباحث حول مستقبل القيم في ظل التطورات الهائلة التي أصابت عدة قطاعات حيوية جاءت بها ثورة التقنية والأسواق المفتوحة وعممتها وسائل الإعلام والاتصال، وكان هناك شبه إجماع حسب قراءتي لمقالاتهم ومناقشاتهم لهذه القضايا؛ أن التهديدات هي أعظم من المبشرات ودواعي التشاؤم تحكم معطياتها اشراقات التفاؤل.

 لقد رصدت هذه المجموعة من الباحثين والفلاسفة خطورة المستقبل القادم للقيم الإنسانية لا بدعوى التنبؤ بإرهاصاته ولكن من أجل الحماية من تداعياته الكارثية وبالخصوص على مستوى القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية وحتى الدينية، فقد بدأت تخضع هذه القيم لمنطق العرض والطلب وحاجات السوق الكبير الذي ساحت به العولمة في كل أودية العالم، وأصبحت المساومات المادية هي لغة التفاهم بين الدهاقنة أصحاب التمويل وعابري البحار من الشركات المتعددة الجنسية وبين أفراد ومؤسسات الثقافة ومصانع الفكر، وهنا مكمن الخلل الذي يتعدى سوء الاستغلال للتراث الإنساني والقيم النبيلة التي حفرتها مسلّة المجتمعات البشرية، وهذا ينذر بكساد قيمي قد يحطم المجتمع ويلاشيه ويصبح الناس كالمسامير المتحركة في تلك المجتمعات الميكانيكية أو سلعا رخيصة لاستهلاك الأقوياء وإلهاء الضعفاء.

هذه المقدمة السابقة هي رؤيتي الواضحة لمستقبل القيم في كثير من أنحاء العالم بعيدة عن أي نظارة تختزل الواقع في وردة صغيرة، صحيح أن المجتمعات ليست قالبا واحدا في حجم التأثر، بل هناك تفاوتا في القوة والضعف بينها قد يكون مرده إلى العامل الزمني الذي تحدده العولمة في خطتها للانتشار، وفي منطقتنا العربية القطار قد وصل المحطة والركاب ينتظرون الدخول فيه لحجز مقاعدهم في رحلتهم نحو المجهول!

أعلم أن هذا التشاؤم لا يليق بالمسلم الذي يصنع الخير من معامل الشر ويحطم قيود اليأس بالعمل المثمر ويغرس النخلة ولو قامت الساعة، لكن الفأل المفرط لا يمنع دق نواقيس الخطر القادم من تحولنا إلى سوق كبير يباع فيه كل شي، نعم كل شي حتى الفكر والقيم والإنسان، والمتأمل في اقتصاديات العولمة وأسواقها الحرة رأى كيف تذوب اللغات وتهمش الثقافات ويباع الإنسان أو يدفن حيا تحت ركام الديون أو البحث عن فتات العيش في مزابل الأغنياء والمترفين. لذلك خرجت صيحات فلاسفة الغرب كهابرماس وبيار وريفكي وتشومسكي وكنيدي وغيرهم بالدفاع عن القيم ولو كانت ناقصة التأثير؛ فالحداثة الغربية بمفاهيمها العلمانية قد ماتت في نفوس الكثير وسقطت في براثن فيروسات الغطرسة والتعالي وازدواجية المبادئ، وورثتها الحاليين ناقمين عابثين محطمين بناء الأسلاف مهما كان جماله في أعينهم. لهذا يدعو هابرماس إلى ما أسماه بـ”الكلية الأخلاقية” من خلال التوصل إلى معايير أخلاقية ينطبق على جميع البشر بشتى مشاربهم وأنماط حياتهم[22].

إنني أشاهد في مجتمعي تلك الصورة المتكررة للاستبداد والاستغلال، وتلك البدايات التي انتهت منها شعوب وذاقت مرارتها ثقافات تريد بسط نفوذها تحت هيمنة الإعلام المؤدلج، ووطئت المنتديات الاقتصادية، التي يجلب لها متحدثون من العالم يعيدون تنميط الثقافة وإنتاج القيم للناس كما يريدون لا كما نؤمن ونعتقد، لقد اضطروا المثقف والكاتب والعالم لأن يتوقف عن الإبداع والبحث والتأليف حتى يرتفع الطلب أو يبيع ما عنده وفق احتياج السوق وأهواء الناس، وعليه دائما إذا لم يكن له صديق أو معرّف في هذا السوق أن يعدّ الجواب لأسئلة الناشرين كم سيجلب من مال أو يشتري بضاعته الفكرية من أناس ولو بالإثارة التافهة أو الدوس على القيم السامية؟! هذه الحالة المؤسفة خيوط بداياتها تتفاقم في مجتمعنا وملامحها بدأت تظهر في معارضنا للكتاب وبرامجنا الإعلامية في تحقير العظيم وتعظيم الحقير وتحطيم الوعاة وقراءة سورة يس على مشهدنا الفكري الأصيل؟!

  1. ولتوضيح عملية تحويل التنبؤ بالمستقبل إلى آليات منهجية وعلمية، نأخذ هذا المثال الذي أدى إلى تحول كبير في مناهج البحث في الدراسات المستقبلية،من خلال الربط بين التقني والاجتماعي والتفاعل بينهما، فأصبحت بالتالي تقنيات الدراسات المستقبلية تركز على كيفية إيجاد طرائق بحثية تربط بين التطور التقني والتطور الاجتماعي المستقبلي والذي تجلى بشكل كبير في بعض التقنيات المعروفة مثل تقنية دلفي Delphi Technique أو مصفوفة التأثير المتبادل Cross Impact Matrix.
    كما أن التركيز في التحليل المستقبلي على الآثار البعيدة وعلى الاتجاهات Trends وليس على الأحداث Events طورا كبيرا في مجال دراسات المستقبل، وقد نجم عن ذلك تداول تصنيف مينوسوتا (نسبة للولاية الأمريكية) في المدى الزمني للدراسات المستقبلية الذي يقوم على خمسة أبعاد:
    أ. المستقبل المباشر: ويمتد لعامين.

ب. المستقبل القريب: ويمتد من عامين إلى خمسة.

 ج. المستقبل المتوسط: ويمتد ما بين خمسة إلى عشرين عاما.

 د. المستقبل البعيد: ومدته بين عشرين إلى خمسين عاما.

 ﻫ. المستقبل غير المنظور: أكثر من خمسين عاما.

 على أن الدراسات المستقبلية عرفت نقلة نوعية في العام الذي أنشا فيه بيرغر مركزه من خلال الجهود التي شرع فيها العالم الفرنسي بيرتراند دو جوفنيل Bertrand de Jouvenel بالتعاون مع مؤسسة فورد الأمريكية،وتمكن من إنجاز مشروع المستقبلات الممكنة Futuribles الذي يؤكد فيه أن المستقبل ليس قدرا، بل مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم باتجاه “المفضل”، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى المستقبل على أنه متعدد لا مفرد كما هو حال الماضي من خلال فكرة تعدد الاحتمالات. وشكلّ كتابه الشهير فن التنبؤ The Art of Conjecture نقلة كبيرة في مجال الدراسات المستقبلية،حيث شرح فيه كيفية عمل ما اسماه هيئات التنبؤ Forum Provisionnel التي تقوم بعمليات انجاز الدراسات المستقبلية لدولة معينة.

 وقد أكد جوفنيل على ثلاثة جوانب عند إنجاز الدراسة المستقبلية:

 أ. الاتجاهات السائدة لظاهرة معينة،وحدد كيفية رصد هذه الاتجاهات.

 ب. سرعة الاتجاهات: بمعنى قياس كمية التغير في ظاهرة معينة خلال زمن معين من ناحية والتسارع في هذا التغير، وهو الأمر الذي تطور في الدراسات المستقبلية باستخدام قوانين رياضية للتسارع ودمجها في التحليل.

 ج. العلاقة بين الظواهر: وتعني توفر إطار نظري يقوم على إدراك التفاعل المتبادل بين الظواهر مهما بدت غير مترابطة، ورفض المنهج التجزيئي Reductionism والتركيز على المنهج “الكلي” Holism (وهو المنهج الذي يعني أن الكل أكبر من مجموع أجزائه)، وقد تنبهت المؤسسة العسكرية الأمريكية لجدوى الدراسات المستقبلية، وركزت على توظيفه لصالح الأمن القومي، وكانت القوات الجوية الأمريكية هي الأكثر اهتماما بهذا الموضوع، ولعبت مؤسسة راند Rand من خلال جهود عالم الرياضيات الأمريكي أولاف هلمر Olaf Helmer دورا بارزا لاسيما في التوسع في استخدام تقنية دلفي التي أشرت لها سابقا، وكان للعالم الأمريكي هيرمان كان Herman Kahn الدور الريادي في تطوير تقنية السيناريو التي تقوم على فكرة محددة هي: إذا –فإن If-Then وهي من أكثر التقنيات رواجا لكن القلة من الباحثين يتعامل معها بالعلمية التي افترضها هيرمان كان. وإلى جانب فرنسا والولايات المتحدة، برزت جهود علماء أوروبيين مثل الهولندي فرد بولاك الذي أصدر كتابا معروفا لدى باحثي الدراسات المستقبلية هو The Image of the Future عام 1961 ثم كتابه الهام Prognostics عام 1971، مما ترك أثرا على الحكومة الهولندية تمثل في تأسيس وحدة الدراسات المستقبلية عام 1974، على غرار تلك التي سبق وأنشأتها الحكومة السويدية عام 1973 بمبادرة من رئيس الوزراء “أولاف بالمه” تحت اسم سكرتارية الدراسات المستقبلية التابعة لرئاسة الوزراء[23].

وختاما: أجد من المهم بعد هذه المقدمات التنظيرية أن نقرر حاجاتنا للوعي المستقبلي في تغيير الوضع الراهن الذي يحتاج إلى إنقاذ جاد لثروات والمكتسبات بل لمجموع المجتمعات.

فهناك أسئلة حول الفعل المستقبلي لتغييرها، مثل:

ـ التفاقم السكاني في مجتمعاتنا الإسلامية وانعدام الطبقة الوسطى الفاعلة في أي مجتمع..

ـ الهيمنة الفضائية للمنتج الأجنبي وانعكاسه على أفكار وعادات المجتمع في مقابل تغول وتوحد التأثير الفضائي على عقل المجتمع ومحدودية المؤثرات الأخرى..

ـ التحول في بعض المجتمعات العربية إلى خيار السلاح والمواجهة بقوة عند أي اختلاف وشرعنة التعامل بالقوة في التغيير مهما كانت النتائج مريرة مثل (الصومال، فلسطين، العراق، لبنان، أفغانستان)..

ـ اختراقات ما بعد الحداثة لمجتمعاتنا وتهديد الثوابت والقيم المشتركة الدينية والخلقية..

ـ قصور التعليم العالي عن مواكبة احتياج المجتمعات العربية..

ـ تفكك الروابط الاجتماعية وتحول المجتمعات إلى أسواق استهلاكية وجزر متباعدة..

ـ التطورات النووية في المنطقة وبداية عصر التهديدات الحربية والصفقات العسكرية..

ـ بدايات تحالفات سياسية واقتصادية تستهدف اقتسام المنطقة والسيطرة على الطاقة..

ـ تنامي الصراعات الطائفية وتحولها من خلافات فكرية ومذهبية إلى مشاريع سياسية استقلالية..

ـ المواجهة مع البيئة من خلال العدوان على الطبيعة، مما أثر في المناخ العام للأرض، وهذا تحدي معاصر ولا يدري ما يترتب على هذه المتغيرات من مستقبل للأرض..

ـ التبعية الصناعية والزراعية والبنكية للمجتمعات الصناعية الغربية والشرقية، ومدى تأثيره على اقتصادياتنا المحلية.

إلى غيرها من تساؤلات عديدة لا تحتاج إلى بلاغة خطابية في الجواب بقدر ما تضطرنا إلى التخطيط المستقبلي لاحتواها وتغير مسارها وصياغة البدائل الصالحة لمعالجتها بدلا من الاستسلام الصامت لتأثيراتها.

الهوامش

  1.  صلاح إسماعيل، فلسفة العقل، القاهرة: دار قباء الحديثة، 2006م، ص65.
  2.  المرجع نفسه، ص65–98 .
  3. المرجع نفسه، ص70 .
  4.  الشاطبي، الاعتصام، دار ابن عفان دار الكتب العلمية، ط1، 1408ﻫ، 2/493.
  5.  انظر: ول د يورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله المشعشع، مكتبة المعارف، ط1، 2004م، ص98.
  6.  انظر: زكي الميلاد، المسألة الحضارية، كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير، المركز الثقافي العربي، ط1، 1999م، ص103-114.
  7. هادي الهيتي، إشكالية المستقبل في الوعي العربي، ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص21.
  8.  الشاطبي، الموافقات، تعليق دراز، طبعة دار الكتب العلمية، 2/9.
  9. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب: ما ينهى عن دعوة الجاهلية رقمه (3257)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، رقمه (4682).
  10.  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، رقمه (126).
  11.  انظر: السيوطي، الأشباه والنظائر، ص322-325 ؛ إعلام الموقعين، 3/108-110. وانظر: حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، ص193.
  12.  الموافقات، 5 /178، تحقيق مشهور حسن، طبعة دار ابن عفان 2003م.
  13.  ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، بتصرف، دار الكتب العلمية 1978م، 3/109.
  14.  انظر للتفصيل: عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي، ط2، 2008م، ص275-282.
  15.  انظر: المنجرة، الحرب الحضارية الأولى، طبعة المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء. فقد استوعب الكثير من هذه القضايا الهامة في دراسة المستقبل.
  16.  الهيتي، إشكالية المستقبل في الوعي العربي، المركز الثقافي العربي، ص21.
  17.  انظر: مقال محمد بريش، (المستقبل مجال الفعل) موقعه في alukah.net.
  18.  المرجع السابق.
  19. انظر: محمد حامد الأحمري، ملامح المستقبل، طبعة دار العبيكان، ص40 وما بعدها.
  20. انظر: المرجع السابق ص29 وما بعدها .
  21.  الكتاب (القيم إلى أين) بإشراف جيروم بيندي، ترجمة زهيدة وجان جبور، طبعة دار النهار بالتعاون مع اليونسكو، ط1، 2005م .
  22.  انظر: الحداثة وخطابها السياسي، يورغن هابرماس، ترجمة جورج تامر، ص 184 وما بعدها، طبعة دار النهار 2002م.
  23.  انظر: وليد عبد الحي، مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية، نشر المركز العلمي للدراسات السياسية 2002م.
الوسوم

د. مسفر بن علي القحطاني

أستاذ مشارك بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
المملكة العربية السعودية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق