مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

قطوف لغوية من كتاب التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور «2»

إن الإشارات الدقيقة للإمام الطاهر ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) كثيرة جدا، وقد سبق أن تحدثت عن لطيفة من لطائفه في حلقة سابقة، ومفادها أن الله عز وجل جعل في القرآن الكريم الإشارة بالضمير «هؤلاء» معبرة عن المشركين من أهل مكة في سياقات مخصوصة، وقد عرضت لهذه السياقات مع بيان شروط ورودها على هذا الوجه.

قلت: وها هنا مسألة أخرى وقفت عليها في كلام الإمام الطاهر ابن عاشور، وهي في تفسير قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون: 99] يقول: «وضمير الجمع في «ارجعون» تعظيم للمخاطب. والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها: أنتم. ولا يقال أنتن. قال العرجي:

فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ *** وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدَا(1)

فقال: سواكم. وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة:

فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ *** لِشَيْءٍ وَلَا أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ(2)

فقال: بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقف عليه»(3).

وقد استدلت كتب التفسير ببيت العرجي كثيرا في باب تعظيم المخاطب المفرد بلفظ الجمع، أما تعظيمُ العربِ المخاطبَ المؤنثَ خاصة بلفظ جمع المذكر -وهذا هو الشق الثاني من كلام الإمام الطاهر ابن عاشور في النص المنقول-، فلم أجد من وقف عليه ممن سبقوه، وإنما هو من لطائفه التي خَصَّ تفسيره بكثير منها.

وقول ابن عاشور: «وهو يلزم صيغة التذكير»؛ يعني أن المخاطب ذكرا كان أم أنثى إذا قصدَت العرب تعظيمه تخاطبه بصيغة التذكير.

ولهذه الطريقة العربية شواهد كثيرة منها ما استدل به الطاهر ابن عاشور في كلامه، ومنها أيضا قول العرجي نفسه أو الحارث بن خالد المخزومي:

أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلًا *** أَهْدَى السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ

حيث خاطب الشاعر (ظلوم) وهو اسم امرأة بالتعظيم بصيغة المذكر فقال «مصابكم».

هذا وسنقف في حلقة مقبلة إن شاء الله تعالى على لطيفة أخرى من لطائف الإمام ابن عاشور في تفسيره والتي لم يُسْبَقْ إليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- ديوان العرجي ص: 109.

2- شرح ديوان الحماسة 1/43.

3- التحرير والتنوير 18/123.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق