مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

قراءة في نسقية الخطاب الأشعري

 

        موضوع النسقية العامة للخطاب الأشعري هي محور كتاب المفكر المغربي “سعيد بنسعيد العلوي” الموسوم: “الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي والإسلامي”، وقد سعى فيه المؤلف إلى الكشف عن الآليّات المعرفية التي تحكم الخطاب الأشعري في العصر الوسيط – تاريخ ترسيم الأشعرية بالمغرب-، وذلك من خلال البحث في المنهجية العامة للفكر الأشعري، ورصد آليات خطابه وتتبع أدواته المعرفية.
وبداية أشير إلى أن الكتاب اشتمل على قسمين اثنين، ينطوي كل قسم منه على عدة فصول، وقد انطلق الباحث في كتابه للإجابة على تساؤلات وإشكالات طرحها قاصدا تتبع خصائص هذا الخطاب واختيارات المدرسة الأشعرية في بعض القضايا الكلامية موضوع الخلاف بين مختلف الفرق الكلامية الإسلامية.
وقد كانت أهم الإشكالات التي طرحها في هذا الكتاب- محاولا الإجابة عنها-  متعلقة بالقضايا التالية: 
– القسم الأول: نظام المعرفة في الخطاب الأشعري أو حدود المنقول والمعقول، أهل الحق (الفرقة الناجية)، النظر في الذات الإلهية، النظر في النبوة، البيان والتبيين، الاجتهاد والتعليل. 
– القسم الثاني: ترتيب العمل في الخطاب الأشعري، النصيحة والتدبير، التشريع والتدبير. 
وهي مواضيع تستنبط من تتبع شامل لهذا الخطاب ومكوناته، ودراسة تقريرية لتأثيره على التشريع والتدبير؛ وهنا تكمن أهمية هذا العمل.
ثم ختم الكتاب بخلاصات عامة؛ هي التي استأثرت باهتمامي، وجعلتها محورا للعرض في هذا المقال، حسب ما بدا لي:
يقول المؤلف بداية: (فبعد أن رافقنا العقل الأشعري في تكونه خطوا بخطو وشهدنا كيْفَه في التشريع لأحكامه أولا بأول ونظرنا إليه وهو يشرع لذاته ويخطط لقوانينه الحاكمة له فيما يكون هو نفسه مشرعا للمعرفة وشروط صحتها وللعلم وأسباب تحققه..
فكان أن شهدنا العقل الأشعري وهو ينظر في القرآن بحسبانه كتابا في العقيدة ويشرع للنظر في مبادئه وكلياته فيما هو يشرع للمعرفة نظامها وللمعارف تراتبها.
ثم كان أن راقبنا العقل الأشعري وهو ينظر في القرآن باعتباره كتابا في الشريعة، فهو من حيث المعنى العميق يكمل ما بدأه في النظر الأول من عمل ويتمم ما شرع فيه من تأسيس للعقل وآفاقه وضوابطه.
وبعد أن تابعنا العقل الأشعري وهو يختبر ذاته وقد ارتقى في أحضان الوجود فمضى يشرع للسلوك الأخلاقي ما به يكون تحصيل السعادة مع حفظ الشريعة ومراعاة أحكامها والأخذ من درس الثقافات الأخرى حوله مع الحفاظ على الإرث الروحي الإسلامي…)[1]، 
هكذا وجدنا الباحث هنا ومنذ البداية يسعى إلى الوقوف على الإجراءات العملية التي عمل الخطاب الأشعري على تنزيلها على أفعال العباد وسلوكياتهم – وهو ما نلمسه في مختلف مباحث هذا الكتاب- وتلك ميزة كبرى وعلامة فارقة لهذا الخطاب الأشعري المتميز، بقصد فهم العلاقة الجامعة لهذا الخطاب وتطبيقه على أرض الواقع كما جسدها الفقيه عبد الواحد ابن عاشر في بداية منظومة المرشد المعين حين قال: 
                            فِي عَقْدِ الأشْعَرِي وفِقْهِ مَالكٍ                        وَفِي طَريقَةِ الْجُنَيْدِ السَّالِكِ
ليصل المؤلف إلى اعتبار هذا التلازم والترابط ما بين العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وسلوكيات الجنيد مما درج عليه المغاربة في معتقدهم وفقههم وسلوكهم، فلا تجد انفصالا بين الدين والحياة وإنما هو توافق وتكامل، وهي خصيصة التدين في المغرب.
   ثم انطلق العلوي في استخلاص مباحث الكتاب قائلا: (فإن علينا الآن أن نخرج بخلاصات عامة لما يبدو أنه من أوصاف الخطاب الأشعري الغالبة عليه وفي جملة مكوناته القارة ويدخل في عدد سماته الخاصة وعلاماته الواضحة التي تميزه عن الخطابات الأخرى في الزمن الثقافي الذي تنتمي إليه وفي العصر الذي وقفنا عنده بالفحص والمراقبة وخصصناه بالنظر والتأمل…)[2]، وقد مكنه هذا البحث من إجمال خلاصات هي كالتالي: 
1- إشكالية العلاقة بين العقل والنقل: أول إشكالية يستخلصها العلوي في بحثه ويعتبرها إحدى كبريات الإشكاليات التي لازمت ذلك الإنتاج وإحدى قضاياه المحورية هي إشكالية الزوج نقل/عقل وقضية العلاقة التي تربطهما؛ باعتبارهما المعيار الأول في فهم الأشعرية وإدراك معناها، يقول في ذلك: (والأمر في الأشعرية في هذا الصدد بيّن واضح فلا لبس فيه ولا تردد في الحكم في أمر العلاقة بين النقل والعقل؛ فالنقل أول والعقل ثان، والنقل مقدم والعقل تابع.. والمنقول مقدم على المعقول في الأحوال كلها منطقا وترتيبا ولا يكون الابتعاد عن النقل عند الأشعري إذا ما حدث ذلك فعلا إلا لغرض الرجوع إليه.. بل إن النقل هو الذي يعيّن للعقل ماهيته وطبيعته ويعيّن له دوره ويرسم له حدوده، وبالتالي فإن شرح العقل وتبيان معناه يكون في النقل ويتم فيه)[3]، وهذه الإشكالية كانت محط اختلاف كبير بين الباحثين في الفكر الكلامي، لكن الأشاعرة اختاروا الطريق الأسلم لحسم هذا الخلاف. على أن هذه المسألة أو هذه الأفضلية للنقل على العقل – بنظر العلوي- لا يمكن فهمها إلا بالرجوع أساسا إلى ما سينتج عنها؛ وهي اعتماد الأشاعرة على أن مفهوم النقل ذاته ينقسم إلى الشرع واللسان وبالتالي نفهم مكانة اللغة في المنظومة الأشعرية باعتبارها مصدرا، يقول في ذلك: (ولذلك فالرجوع إلى ما يتقرر عند أهل اللغة يكون فيه حسم الاختلاف ودفع التنازع. واللغة العربية هي قطب الرحى في النظر في القرآن والتدبر في أحكامه…)[4]، فأخص ما يميز القرآن عند المتكلم الأشعري هو عربيته، لذلك يقول: (فالخطاب الأشعري هو خطاب تقديس اللغة العربية والإشادة بها، فهو يجد معناه ودلالته في معنى اللغة العربية ومبناها، ويستمد حقيقته من حقيقة بنائها وتركيبها.. وهو الأمر الذي حدا بالأشاعرة لاعتماد التوقيف واعتباره من علامات المذهب المميزة؛ فاللغة عند الأشاعرة توقيف وليست – كما هو الحال عند المعتزلة مواضعة واصطلاحا-، وهي مناط الحسم في الخلافيات، وبالتبع نفهم وسطية وتسامح هذا الخطاب من بين الخطابات الأخرى)[5].
2- الارتكان إلى مبدأ التجويز: وثاني خاصية تميز بها هذا الخطاب كما يراها العلوي بعد البناء الدلالي؛ هي عماده المنطقي الذي يقوم على خصيصة مبدأ التجويز يقول في ذلك: (لو شئنا  أن نرمز إليه بأخص صفاته إشارة لـحُق لنا أن نقرر في سهولة ويسر بأن كبير المفاهيم الأشعرية ورئيسها هو مفهوم التجويز، فالخطاب الأشعري هو خطاب التجويز..)[6]، فبه تفسر القضايا المستعصية على الفهم في الخطاب الديني، وبه نقرر ما تعذرت البرهنة على استحالته؛ فليس حاله العدم والنفي كما ذهبت إليه المعتزلة، ولكن اجتهاد الأشاعرة في استخلاص مبدأ التجويز قد حل العديد من القضايا والإشكاليات، فيجوز على الله سبحانه إمضاء الوعد مع إمكانية إخلافه، ويجوز عليه سبحانه إرسال الرسل كما يجوز له عدم إرسالهم، وما مفهوم الكسب وما تفرع عنه بخصوص القدرة الإلهية والاستطاعة عند الإنسان إلا تطبيق عملي لمفهوم التجويز في الخطاب الأشعري. 
 ومن تفرعات هذا المرتكز خرجت مفاهيم أخرى من المفاهيم الأشعرية – كما أجملها العلوي من خلال هذا المبحث-،  هذه المفاهيم هي: الانفصال، والعادة والكسب، والجواز، كما نوضحها الآن، وهي:
أ- مبدأ الانفصال: يقول العلوي: (القول بمبدأ الانفصال قول يحكم الكلام الأشعري ويعين خلافه مع الخصم الكلامي المعتزلي كما يعلن انفصاله عنه وإبعاده منه. والموجودات تتجاوز فيما بينها وتكون متآنية؛ فلا تكمن في بعضها البعض كما يقول النَّظام وإنما هي ذرات منفصلة أو جواهر أفراد، ولا هي في حال ينتج عن بعضها البعض ويتولد عنه كما تقول أغلب المعتزلة وإنما مرجعها جميعا إلى سلطة تعلو عليها وتعلقها كلها بقدرة تعلو عليها..)[7]. والقول بمبدأ الانفصال كما يتأتى في الكلام الأشعري ينعكس بالتالي على المنحى الأصولي، وبالتالي فأحكام الحظر والإباحة لا تتعلق بالأفعال ذاتها بل هي ترجع إلى المكلفين عكس ما يفعل المعتزلة الذين يمزجون بين الحسن والحلال وبين القبح والحرام، وهنا نفهم العلاقة الجامعة بين أصول الدين وأصول الفقه؛ فما يقول به المتكلم ينعكس تماما على قوله في أصول الفقه وقواعده، فإذا كان الفقه هو مجموع الأحكام الشرعية أمرا ونهيا، وكان مدلول أصول الفقه هو طلب الدليل عليه، فإن النظر الذي يكون عليه في تقرير أصول الدين هو نفسه الذي سينعكس على أصول الفقه كما نجده متجليا في علاقة الحسن والقبح في الأفعال عند الأشاعرة.
ب- مبدأ العادة: يقول العلوي: (والقول بمبدأ العادة يحل للمتكلم الأشعري إشكال التعارض الموجود بين القول بالأخذ بالعلية أو السببية- على نحو ما تفعل المعتزلة- والسكوت عن الشرح والتفسير إلا بما قال به النص الصريح – على نحو ما تذهب إليه الحنبلية-)[8] وهذا القول ينعكس على أخذ الأشاعرة عموما في قراءتهم للتاريخ البشري وجريان سنن الله تعالى في الكون في قيام الحضارات وانتكاسها وجريانه على الأمم والممالك..
ج- مبدأ الجواز: يقول العلوي: (فحيث كان كل ما لا يقدر العقل على إثباته متعذرا في ذاته أصبح الموقف الجديد يقضي، وعلى العكس من ذلك تقريبا، بأن كل ما كان العقل غير قادر على إحالته فهو جائز. فالجواز رتبة ثالثة بين النفي والإيجاب وطريق ثالث بين الاستحالة والوجوب…)[9]، وقد خلص الباحث إلى القول بأن مبدأ الجواز أتى لينقذ المذهب الأشعري من الورطة التي يوقعه فيها القول بالعادة دون الأخذ بالسببية ودون اعتبار الصلات بين الأشياء ردا على قول المعتزلة .
هذه أهم الخاصيات التي انتهى إليها المؤلف في دراسته للخطاب الأشعري قراءة وتتبعا، على أنه وقف قليلا عند مسألتين أخريين لاحظهما في هذا الخطاب ولكن ليس بالتفصيل الذي بسطه في السابق، وهما أن الخطاب الأشعري – كما يقول-: (خطاب تبرير، وهو كذلك لأن جملة المعارك التي خاضها وكان تشكله عنها ومن أسبابها ونتائجها، ثم هو كذلك لأن القول بالتجويز سرعان ما يدفع بصاحبه إلى تعليل الرأي المختار وتبرير الحكم المختار وهذا أشد ما يكون وضوحا وبروزا في القضايا التي ترجع إلى المصلحة ومقتضياتها.. )[10]، ثم أنه يمتاز بالارتكاز على البعد الإيديولوجي، يقول في ذلك: (ولعلنا لو تذكرنا لأدركنا كيف أن الموقف من الخصم الباطني شكل العامل المحرك في تكون المذهب الكلامي الأشعري، ولو رجعنا إلى ما تقرر في ذلك الحين من نتائج لأدركنا دور التحديد في المرتبة العليا الذي يقوم به العمل الايديولوجي. ثم إن أهمية هذا البعد تتجلى – وهذا أمر طبيعي- حين التشريع لأحكام السياسة وحين القول في أحكام المصلحة ومقتضيات الوقت ومستلزمات الدفاع عن الأمة والملة..)[11].
هكذا إذن نجد أن هذا الكتاب ينبني – وبحكم المنهج الذي التزمه المؤلف فيه- على الرصد والتسجيل وتدوين ما يلزم أثناء الوقوف على آليات ومرتكزات الخطاب الأشعري استمدادا واستنباطا، وهو ما مكن الباحث من الوقوف مليا عند بعض نصوص الأشاعرة من المشرق والمغرب لتزكية تلك الآراء التي وقف عندها، وكان نظره في الخطاب الأشعري نظرا من أجل الملاءمة بين أصول الدين وتطبيقاته على مجال العمل، حيث اتخذ من النصوص الأخلاقية والسياسية والصوفية مجالا شاسعا للاشتغال.
الهوامش: 
[1] الخاتمة – ص: 291-كتاب: “الخطاب الأشعري-مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي” – سعيد بنسعيد العلوي – الطبعة الثانية/2010- منتدى المعارف/بيروت
[2] نفس المصدر والصفحة
[3] نفس المصدر – ص: 292
[4] نفس المصدر – ص: 293
[5] نفس المصدر – ص: 293
[6] نفس المصدر – ص: 294
[7] نفس المصدر – ص: 295
[8] نفس المصدر – ص: 295/296
[9] نفس المصدر – ص: 296
[10] نفس المصدر – ص: 297
[11] نفس المصدر – ص: 297/298
إعداد الباحث: منتصر الخطيب

موضوع النسقية العامة للخطاب الأشعري هي محور كتاب المفكر المغربي “سعيد بنسعيد العلوي” الموسوم: “الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي والإسلامي”، وقد سعى فيه المؤلف إلى الكشف عن الآليّات المعرفية التي تحكم الخطاب الأشعري في العصر الوسيط – تاريخ ترسيم الأشعرية بالمغرب-، وذلك من خلال البحث في المنهجية العامة للفكر الأشعري، ورصد آليات خطابه وتتبع أدواته المعرفية.

وبداية أشير إلى أن الكتاب اشتمل على قسمين اثنين، ينطوي كل قسم منه على عدة فصول، وقد انطلق الباحث في كتابه للإجابة على تساؤلات وإشكالات طرحها قاصدا تتبع خصائص هذا الخطاب واختيارات المدرسة الأشعرية في بعض القضايا الكلامية موضوع الخلاف بين مختلف الفرق الكلامية الإسلامية.

وقد كانت أهم الإشكالات التي طرحها في هذا الكتاب- محاولا الإجابة عنها-  متعلقة بالقضايا التالية: 

– القسم الأول: نظام المعرفة في الخطاب الأشعري أو حدود المنقول والمعقول، أهل الحق (الفرقة الناجية)، النظر في الذات الإلهية، النظر في النبوة، البيان والتبيين، الاجتهاد والتعليل. 

– القسم الثاني: ترتيب العمل في الخطاب الأشعري، النصيحة والتدبير، التشريع والتدبير. 

وهي مواضيع تستنبط من تتبع شامل لهذا الخطاب ومكوناته، ودراسة تقريرية لتأثيره على التشريع والتدبير؛ وهنا تكمن أهمية هذا العمل.

ثم ختم الكتاب بخلاصات عامة؛ هي التي استأثرت باهتمامي، وجعلتها محورا للعرض في هذا المقال، حسب ما بدا لي:

يقول المؤلف بداية: (فبعد أن رافقنا العقل الأشعري في تكونه خطوا بخطو وشهدنا كيْفَه في التشريع لأحكامه أولا بأول ونظرنا إليه وهو يشرع لذاته ويخطط لقوانينه الحاكمة له فيما يكون هو نفسه مشرعا للمعرفة وشروط صحتها وللعلم وأسباب تحققه..

فكان أن شهدنا العقل الأشعري وهو ينظر في القرآن بحسبانه كتابا في العقيدة ويشرع للنظر في مبادئه وكلياته فيما هو يشرع للمعرفة نظامها وللمعارف تراتبها.

ثم كان أن راقبنا العقل الأشعري وهو ينظر في القرآن باعتباره كتابا في الشريعة، فهو من حيث المعنى العميق يكمل ما بدأه في النظر الأول من عمل ويتمم ما شرع فيه من تأسيس للعقل وآفاقه وضوابطه.

وبعد أن تابعنا العقل الأشعري وهو يختبر ذاته وقد ارتقى في أحضان الوجود فمضى يشرع للسلوك الأخلاقي ما به يكون تحصيل السعادة مع حفظ الشريعة ومراعاة أحكامها والأخذ من درس الثقافات الأخرى حوله مع الحفاظ على الإرث الروحي الإسلامي…)[1]، 

هكذا وجدنا الباحث هنا ومنذ البداية يسعى إلى الوقوف على الإجراءات العملية التي عمل الخطاب الأشعري على تنزيلها على أفعال العباد وسلوكياتهم – وهو ما نلمسه في مختلف مباحث هذا الكتاب- وتلك ميزة كبرى وعلامة فارقة لهذا الخطاب الأشعري المتميز، بقصد فهم العلاقة الجامعة لهذا الخطاب وتطبيقه على أرض الواقع كما جسدها الفقيه عبد الواحد ابن عاشر في بداية منظومة المرشد المعين حين قال: 

                  فِي عَقْدِ الأشْعَرِي وفِقْهِ مَالكٍ            وَفِي طَريقَةِ الْجُنَيْدِ السَّالِكِ

ليصل المؤلف إلى اعتبار هذا التلازم والترابط ما بين العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وسلوكيات الجنيد مما درج عليه المغاربة في معتقدهم وفقههم وسلوكهم، فلا تجد انفصالا بين الدين والحياة وإنما هو توافق وتكامل، وهي خصيصة التدين في المغرب.

   ثم انطلق العلوي في استخلاص مباحث الكتاب قائلا: (فإن علينا الآن أن نخرج بخلاصات عامة لما يبدو أنه من أوصاف الخطاب الأشعري الغالبة عليه وفي جملة مكوناته القارة ويدخل في عدد سماته الخاصة وعلاماته الواضحة التي تميزه عن الخطابات الأخرى في الزمن الثقافي الذي تنتمي إليه وفي العصر الذي وقفنا عنده بالفحص والمراقبة وخصصناه بالنظر والتأمل…)[2]، وقد مكنه هذا البحث من إجمال خلاصات هي كالتالي: 

1- إشكالية العلاقة بين العقل والنقل: أول إشكالية يستخلصها العلوي في بحثه ويعتبرها إحدى كبريات الإشكاليات التي لازمت ذلك الإنتاج وإحدى قضاياه المحورية هي إشكالية الزوج نقل/عقل وقضية العلاقة التي تربطهما؛ باعتبارهما المعيار الأول في فهم الأشعرية وإدراك معناها، يقول في ذلك: (والأمر في الأشعرية في هذا الصدد بيّن واضح فلا لبس فيه ولا تردد في الحكم في أمر العلاقة بين النقل والعقل؛ فالنقل أول والعقل ثان، والنقل مقدم والعقل تابع.. والمنقول مقدم على المعقول في الأحوال كلها منطقا وترتيبا ولا يكون الابتعاد عن النقل عند الأشعري إذا ما حدث ذلك فعلا إلا لغرض الرجوع إليه.. بل إن النقل هو الذي يعيّن للعقل ماهيته وطبيعته ويعيّن له دوره ويرسم له حدوده، وبالتالي فإن شرح العقل وتبيان معناه يكون في النقل ويتم فيه)[3]، وهذه الإشكالية كانت محط اختلاف كبير بين الباحثين في الفكر الكلامي، لكن الأشاعرة اختاروا الطريق الأسلم لحسم هذا الخلاف. على أن هذه المسألة أو هذه الأفضلية للنقل على العقل – بنظر العلوي- لا يمكن فهمها إلا بالرجوع أساسا إلى ما سينتج عنها؛ وهي اعتماد الأشاعرة على أن مفهوم النقل ذاته ينقسم إلى الشرع واللسان وبالتالي نفهم مكانة اللغة في المنظومة الأشعرية باعتبارها مصدرا، يقول في ذلك: (ولذلك فالرجوع إلى ما يتقرر عند أهل اللغة يكون فيه حسم الاختلاف ودفع التنازع. واللغة العربية هي قطب الرحى في النظر في القرآن والتدبر في أحكامه…)[4]، فأخص ما يميز القرآن عند المتكلم الأشعري هو عربيته، لذلك يقول: (فالخطاب الأشعري هو خطاب تقديس اللغة العربية والإشادة بها، فهو يجد معناه ودلالته في معنى اللغة العربية ومبناها، ويستمد حقيقته من حقيقة بنائها وتركيبها.. وهو الأمر الذي حدا بالأشاعرة لاعتماد التوقيف واعتباره من علامات المذهب المميزة؛ فاللغة عند الأشاعرة توقيف وليست – كما هو الحال عند المعتزلة مواضعة واصطلاحا-، وهي مناط الحسم في الخلافيات، وبالتبع نفهم وسطية وتسامح هذا الخطاب من بين الخطابات الأخرى)[5].

2- الارتكان إلى مبدأ التجويز: وثاني خاصية تميز بها هذا الخطاب كما يراها العلوي بعد البناء الدلالي؛ هي عماده المنطقي الذي يقوم على خصيصة مبدأ التجويز يقول في ذلك: (لو شئنا  أن نرمز إليه بأخص صفاته إشارة لـحُق لنا أن نقرر في سهولة ويسر بأن كبير المفاهيم الأشعرية ورئيسها هو مفهوم التجويز، فالخطاب الأشعري هو خطاب التجويز..)[6]، فبه تفسر القضايا المستعصية على الفهم في الخطاب الديني، وبه نقرر ما تعذرت البرهنة على استحالته؛ فليس حاله العدم والنفي كما ذهبت إليه المعتزلة، ولكن اجتهاد الأشاعرة في استخلاص مبدأ التجويز قد حل العديد من القضايا والإشكاليات، فيجوز على الله سبحانه إمضاء الوعد مع إمكانية إخلافه، ويجوز عليه سبحانه إرسال الرسل كما يجوز له عدم إرسالهم، وما مفهوم الكسب وما تفرع عنه بخصوص القدرة الإلهية والاستطاعة عند الإنسان إلا تطبيق عملي لمفهوم التجويز في الخطاب الأشعري. 

 ومن تفرعات هذا المرتكز خرجت مفاهيم أخرى من المفاهيم الأشعرية – كما أجملها العلوي من خلال هذا المبحث-،  هذه المفاهيم هي: الانفصال، والعادة والكسب، والجواز، كما نوضحها الآن، وهي:

أ- مبدأ الانفصال: يقول العلوي: (القول بمبدأ الانفصال قول يحكم الكلام الأشعري ويعين خلافه مع الخصم الكلامي المعتزلي كما يعلن انفصاله عنه وإبعاده منه. والموجودات تتجاوز فيما بينها وتكون متآنية؛ فلا تكمن في بعضها البعض كما يقول النَّظام وإنما هي ذرات منفصلة أو جواهر أفراد، ولا هي في حال ينتج عن بعضها البعض ويتولد عنه كما تقول أغلب المعتزلة وإنما مرجعها جميعا إلى سلطة تعلو عليها وتعلقها كلها بقدرة تعلو عليها..)[7]. والقول بمبدأ الانفصال كما يتأتى في الكلام الأشعري ينعكس بالتالي على المنحى الأصولي، وبالتالي فأحكام الحظر والإباحة لا تتعلق بالأفعال ذاتها بل هي ترجع إلى المكلفين عكس ما يفعل المعتزلة الذين يمزجون بين الحسن والحلال وبين القبح والحرام، وهنا نفهم العلاقة الجامعة بين أصول الدين وأصول الفقه؛ فما يقول به المتكلم ينعكس تماما على قوله في أصول الفقه وقواعده، فإذا كان الفقه هو مجموع الأحكام الشرعية أمرا ونهيا، وكان مدلول أصول الفقه هو طلب الدليل عليه، فإن النظر الذي يكون عليه في تقرير أصول الدين هو نفسه الذي سينعكس على أصول الفقه كما نجده متجليا في علاقة الحسن والقبح في الأفعال عند الأشاعرة.

ب- مبدأ العادة: يقول العلوي: (والقول بمبدأ العادة يحل للمتكلم الأشعري إشكال التعارض الموجود بين القول بالأخذ بالعلية أو السببية- على نحو ما تفعل المعتزلة- والسكوت عن الشرح والتفسير إلا بما قال به النص الصريح – على نحو ما تذهب إليه الحنبلية-)[8] وهذا القول ينعكس على أخذ الأشاعرة عموما في قراءتهم للتاريخ البشري وجريان سنن الله تعالى في الكون في قيام الحضارات وانتكاسها وجريانه على الأمم والممالك..

ج- مبدأ الجواز: يقول العلوي: (فحيث كان كل ما لا يقدر العقل على إثباته متعذرا في ذاته أصبح الموقف الجديد يقضي، وعلى العكس من ذلك تقريبا، بأن كل ما كان العقل غير قادر على إحالته فهو جائز. فالجواز رتبة ثالثة بين النفي والإيجاب وطريق ثالث بين الاستحالة والوجوب…)[9]، وقد خلص الباحث إلى القول بأن مبدأ الجواز أتى لينقذ المذهب الأشعري من الورطة التي يوقعه فيها القول بالعادة دون الأخذ بالسببية ودون اعتبار الصلات بين الأشياء ردا على قول المعتزلة .

هذه أهم الخاصيات التي انتهى إليها المؤلف في دراسته للخطاب الأشعري قراءة وتتبعا، على أنه وقف قليلا عند مسألتين أخريين لاحظهما في هذا الخطاب ولكن ليس بالتفصيل الذي بسطه في السابق، وهما أن الخطاب الأشعري – كما يقول-: (خطاب تبرير، وهو كذلك لأن جملة المعارك التي خاضها وكان تشكله عنها ومن أسبابها ونتائجها، ثم هو كذلك لأن القول بالتجويز سرعان ما يدفع بصاحبه إلى تعليل الرأي المختار وتبرير الحكم المختار وهذا أشد ما يكون وضوحا وبروزا في القضايا التي ترجع إلى المصلحة ومقتضياتها.. )[10]، ثم أنه يمتاز بالارتكاز على البعد الإيديولوجي، يقول في ذلك: (ولعلنا لو تذكرنا لأدركنا كيف أن الموقف من الخصم الباطني شكل العامل المحرك في تكون المذهب الكلامي الأشعري، ولو رجعنا إلى ما تقرر في ذلك الحين من نتائج لأدركنا دور التحديد في المرتبة العليا الذي يقوم به العمل الايديولوجي. ثم إن أهمية هذا البعد تتجلى – وهذا أمر طبيعي- حين التشريع لأحكام السياسة وحين القول في أحكام المصلحة ومقتضيات الوقت ومستلزمات الدفاع عن الأمة والملة..)[11].

هكذا إذن نجد أن هذا الكتاب ينبني – وبحكم المنهج الذي التزمه المؤلف فيه- على الرصد والتسجيل وتدوين ما يلزم أثناء الوقوف على آليات ومرتكزات الخطاب الأشعري استمدادا واستنباطا، وهو ما مكن الباحث من الوقوف مليا عند بعض نصوص الأشاعرة من المشرق والمغرب لتزكية تلك الآراء التي وقف عندها، وكان نظره في الخطاب الأشعري نظرا من أجل الملاءمة بين أصول الدين وتطبيقاته على مجال العمل، حيث اتخذ من النصوص الأخلاقية والسياسية والصوفية مجالا شاسعا للاشتغال.

 

إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

الهوامش: 

 

[1] الخاتمة – ص: 291-كتاب: “الخطاب الأشعري-مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي” – سعيد بنسعيد العلوي – الطبعة الثانية/2010- منتدى المعارف/بيروت.

[2] نفس المصدر والصفحة.

[3] نفس المصدر – ص: 292.

[4] نفس المصدر – ص: 293.

[5] نفس المصدر – ص: 293.

[6] نفس المصدر – ص: 294.

[7] نفس المصدر – ص: 295.

[8] نفس المصدر – ص: 295/296.

[9] نفس المصدر – ص: 296.

[10] نفس المصدر – ص: 297.

[11] نفس المصدر – ص: 297/298.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق