قراءة في كتاب: “مقدمات المراشد إلى علم العقائد” لابن خمير السبتي (ت614هـ)
تقديم:
سنحاول من خلال هذه القراءة الفاحصة في كتاب "مقدمات المراشد إلى علم العقائد" أن نكشف عن بعض المعالم العقدية التي قدمها ابن خمير السبتي في إغناء وخدمة الدرس العقدي الأشعري، باعتباره أحد أهم أعلام المغرب ومنطقة الغرب الإسلامي بشكل عام خاصة في مجال الدرس العقدي، فهو أحد أبرز أعلام مرحلة التوسع التي عرفها المذهب الأشعري؛ وأحد أهم الأعلام الذين أسهموا في نشر معالم هذا المذهب وخدمته والترويج له على الساحة العلمية والفكرية، خاصة مع منتصف القرن السادس الهجري، وهنا تكمن قيمة هذا الكتاب، لذا ستتركز قراءتنا من خلال العرض التفصيلي لمضامينه؛ عرضا يزاوج بين الوصف والنقد، حتى نكشف عن القيمة العلمية لهذا لكتاب. لكن قبل ذلك وجب التعريف بصاحب الكتاب تعريفا علميا يبرز مكانته العلمية بشكل عام وإسهامه في مجال العقيدة على وجه الخصوص.
أولا: التعريف بالمؤلف
هو أبو الحسن علي بن أحمد بن خمير الأموي السبتي، يعرف بالسبتي نسبة لمدينته سبتة، ففيها ولد وترعرع، وفيها أيضا بزغ نجمه العلمي والديني، ولا يخفى الدور الذي اضطلعت به هذه الحاضرة في التاريخ العلمي والديني للمغرب، فقد عرفت العديد من الأعلام البارزين الذين تركوا بصمات كبيرة في عدد من المجالات العلمية، ومن بين هؤلاء نجد هذا العلم الفذ "ابن خمير". وبالنظر لتاريخ ولادته فلا نجد ضمن المصادر التاريخية من يذكر فترة وزمن ولادته، لكن المرجح "أن يكون ميلاده قد تم في أواسط القرن السادس الهجري، أي في سنة (550هـ/1155م) أو قبلها أو بعدها بقليل"[1]، بمدينة سبة، وهو ما يعني أن ميلاده كان "في ظل حكم الموحدين حيث عاصر دولتهم في مرحلة التأسيس، ثم في طور الأوج والقوة"[2]. وأما نشأته فقد كانت بالمدينة نفسها، حيث تلقى فيها تكوينه العلمي الأولي، وقضى "فترة مهمة من صباه في حفظ كتاب الله وتعهده"، ثم بعد ذلك أخذ في "تلقي العلوم التي كانت تدرس بمدينته من نحو ولغة وشعر وغيرها"[3]، إلى أن توسع تلقيه وتكوينه في مختلف العلوم الشرعية وحصّل فيها درجات عالية من الضبط والتمكن والمعرفة. وكغيره من الطلبة المولعين والمجدين في طلب العلم كانت له رحلات في ذلك، ومنها رحلته للأندلس التي لقي فيها "جملة من شيوخ العلم هناك، ووسع معارفه، وقوى منهجه وشحذ قريحته"[4]، وقد ذكر هو بنفسه خبر هذه الرحلة في كتابه "التنزيه" وأكد أنه ناقش طلبة الأندلس في جملة مسائل علمية هناك[5].
ومن العلوم التي درسها ابن خمير ونبغ فيها نجد كل من؛ الحديث، وعلوم القرآن، والتفسير، واللغة، والنحو، والأدب، وغيرها، هذا إلى جانب علم الكلام، ومن أهم الشيوخ المبرزين الذين تلقى عنهم ابن خمير تكوينه العلمي نجد كل من:
- الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد الحجري المشهور بأبي عبيد (ت591هـ). المحدث الأندلسي الشهير، وثالث ثلاثة من أعلام المغرب في الرواية وعلم الحديث، استقر في سبتة بصفة نهائية بعد دراسته بالأندلس، وخرج بها مدرسة كبيرة تميز فيها وظهر عدد كبير من العلماء الأعلام ومن بينهم ابن خمير[6].
- أبو القاسم عبد الرحمن بن علي المعروف بالقراف والخراز (ت581هـ).
- محمد بن عامر بن محمد بن عبادة الأنصاري الخزرجي (ت بعد 580هـ).
- أبو عبد الله بن زرقون (ت 586هـ) الفقيه المالكي العارف بالحديث.
- أبو العباس العزفي (ت 633هـ)[7].
هؤلاء هم أشهر شيوخه الذين أشتهر بالأخذ عنهم، وبعد رحلة طويلة من التحصيل والتكوين بلغ ابن خمير مكانة علمية مرموقة قليل من يصلها من طلبة العلم، حيث استطاع "أن يتعمق في جملة علوم وتخصصات، وتوفق في شق طريقه وتكوين شخصيته العلمية، مستفيدا من كل العلوم التي درس، مقدما من خلال مواقفه ومؤلفاته صورة ثرية، وعلامة وضاءة للباحث العصامي، والمفكر النحرير، والرجل الثابت الملتزم بمبادئ ما ترسخ لديه في تجربته العلمية والدراسية، المنافح عن عقيدته بكل ما أوتي من علم وشجاعة وثقة بالنفس"[8].
ومن أهم العلوم التي تخصص فيها نجد علم الكلام، وذلك على الرغم من الصعاب الكثيرة والكبيرة التي وجدها في خوضها غمار الدرس العقدي، فعلى عكس ما قد يظن البعض فلم تكن الظروف مهيأة لابن خمير في دراسة وبحث الأشعرية ببساطة ويسر، فبالرجوع إلى الكتاب الذي بين أيدينا وكما نبه إلى ذلك أيضا المحقق "نجد ابن خمير يصف الأحوال الكلامية في عهده بالسيئة، وذلك لما كان سائدا بالمدينة من محاصرة لروح الإبداع الكلامي ومحاربة للتجديد والعطاء"[9]. وذلك على الرغم من التوجه الموحدي في هذا الباب، إلا أن غالبية العلماء كانت لهم مواقف ضد الخوض في غمار هذا العلم وتجديده، بسبب التأثير الذي خلفه التوجه المرابطي بهذا الشأن. بل إن المشتغل بهذا العلم كان يجد الكثير من المضايقات من قبل أهل العلم وطلبته، على الرغم من التطور الذي عرفته سائر العلوم الدينية والدنيوي من طب وهندسة وغر ذلك، وفي هذا يقول ابن خمير نفسه واصفا ما عاناه بهذا الخصوص: "لقد رأينا غير واحد يكون بينهم آمنا وادعا فعندما يبدأ في قراءة هذا العلم يثبون إليه كالأفاعي الصفر ينتصحون إليه ويحذرونه من تعلم هذا العلم ويحضونه على المنطق والتعاليم من خواص الأعداد والهندسة والطب وغير ذلك من أنواع التعليم، وهؤلاء صنف الزنادقة، وصنف آخر من المقلدة الذي سمع فقام يحضه على تعلم العربية والأدب والخط ليكون كاتبا لفلان فينال من دنياه، أو على قراءة كتب الفقه والتوثيق ليكون مسددا في بعض الكور في أكل الرشا ويركب المطايا، أو على قراءة العدد وتعلم الرسوم ليكون عاملا فيستأصل الرعية...."[10]. فمن خلال هذا الكلام لابن خمير يتبين لنا وضع هذا العلم في وقته، هذا من جهة، ثم –من جهة ثانية- يكشف لنا البعد الرسالي والهدف المتسامي الذي كان له من وراء الاشتغال بهذا العلم؛ وهو خدمة العقيدة والمنافحة عنها طلبا لمرضاة الله تعالى. ومن ثم "فليس مستغربا أن يحس ابن خمير ومن تفرغ للدراسات الكلامية مثله بشيء من العزلة والعداء الذي تولى كبره مجموع الناقمين على هذا العلم"[11]. ومع ذلك كافح وخاض الغمار.
أيضا ما يثير انتباهنا في سيرة هذا العلم الفذ، أنه على الرغم من تواجده في عصر الموحدين الذي هيمنت فيه عقيدة ابن تومرت إلا أنه مع ذلك لم يكن على حد تعبير محقق الكتاب الدكتور علال البختي تومرتيا متصلبا، لأنه "رفض الكثير من آراء المهدي ولم يأخذ عنه إلا ما رآه أهلا لتحقيق الإصلاح الفكري والعلمي للبلاد والعباد"[12]، وهذا أمر طبيعي بنظرنا؛ لأنه كان من العلماء المدققين ولم يكن مقلدا. وهذا لا ينفي توافقه الكبير مع الاتجاه الفكري للموحدين فيما رآه نافعا ومفيدا، حيث تعمق في الدراسات والعلوم التأصيلية (قرآنا وسنة وأصولا وعقيدة)، بل كان "أحد الأدوات النافذة في ممارسة وإنجاح المشروع الثوري والإصلاحي لدولة الموحدين"[13]. فقد حصّل مكانة علمية مرموقة أهلته لأن يصبح تأثيره قويا في محيطه العلمي والسياسي، كما أصبح مقصدا لطلبة العلم، وأخذ عنه كثير من التلامذة، من أبرزهم تلميذين مشهورين هما:
- أبو عبد الله الأزدي محمد الأزدي السبتي (ت660هـ).
- وأبو عبد الله محمد بن علي الطراز الغرناطي (ت 645هـ) [14].
كما ترك ابن خمير مجموعة من المؤلفات في عدد من الفنون أشهرها:
- مقدمات المراشد إلى علم العقائد.
- تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء. تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية.
- كتاب الوصية: خصصه لمنتحلي طريق التصوف من الباطنية، ممن تشبهوا بطريق القوم ظاهرا لخداع الناس وتضليلهم، هذا مما ورد وصفه لدى العلماء، وإلا فالكتاب مفقود.
- شرح سورة الكهف؛ وهو مفقود.
وبعد حياة حافلة بالعطاء والجهاد والعلم توفي ابن خمير سنة 614هـ وقال ابن الأبار توفي بعد الستمائة بيسير.
وبشكل عام فابن خمير يعتبر من أهم العلماء المغاربة الذين خدموا الدرس العقدي الأشعري، ويبدو هذا الفكر العقدي جليا في كتابه " مقدمات المراشد" الذي هو محل هذه القراءة.