مركز الدراسات القرآنيةقراءة في كتاب

قراءة في كتاب تطوردلالة المفاهيم بين الشعرالجاهلي والقرآن الكريم

صدرسنة 2017م عن مركز الدراسات القرآنية التابع للرابطة المحمدية للعلماء، كتاب للدكتور البشير فالح، بعنوان (تطور دلالة المفاهيم بين الشعر الجاهلي والقرآن الكريم الحقل المعرفي نموذجا) وهو في الأصل أطروحة جامعية، لنيل درجة الدكتوراه، ويتكون الكتاب من 408 صفحة.
وقد خصص هذا البحث لدراسة المفاهيم المعرفية، وتطورها بين الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، ولا يخفى علينا ما يتميز به الشعر الجاهلي من جمال الذوق الفني ورفعة الإحساس العربي القديم، فمكانته رفيعة لدى العرب، وقد جعلوه أعلى منزلة من منازل الخطابة. ولأن دلالة الألفاظ لها أهمية في تأسيس الوعي وبناء التصورات، نبه القرآن الكريم إلى خطورة استعمال المفاهيم بدلالات متناقضة، ونموذج ذلك «النهي عن استعمال “راعنا ” وأرشد إلى استعمال “انظرنا ” لما في الأول من همز ولمز خفي ، فخطورة تحديد دلالات الألفاظ والمفاهيم تكمن في استعمالاتها الدنيئة والخسيسة لقوم يفسدون اللغة»[1].
فكان الهدف من هذا البحث نظم المفاهيم والمصطلحات لتأسيس رؤية معرفية متكاملة، من خلال القرآن الكريم الذي يحتوي على رؤية كونية وحياتية شاملة. ولتحقيق هذا القصد، لا بد من الوقوف عند هذه المفاهيم والمصطلحات وصقلها وسبر أغوارها، وقد كان الدافع لخوض غمار هذا البحث بالنسبة للدكتور البشير فالح ثلاثة موجبات، والتي أجملها في:
موجب ذاتي : يقول الكاتب: «الذي يؤول إلى سنوات الطلب الأولى أيام الدراسة الثانوية، حينما كنا ندرس نصوص الشعراء الجاهليين، وكان المرجع في فهم تلك النصوص كتاب شرح المعلقات للزوزني، وقد لا حظت آنذاك أن دلالة الألفاظ في الشعر الجاهلي، هي غير ما في القرآن الكريم»[2].
وموجب معرفي : يقول: «ويتلخص في ندرة البحوث التي تناولت التطور الدلالي بين الشعر الجاهلي والقرآن، فهي في حدود اطلاعي معدودة على رؤوس الأصابع، وكلها لم تعتمد منهج الدراسة المصطلحية، من إحصاء ودراسة معجمية ودراسة نصية، فدراسة مفهومية، ثم عرض مصطلحي.
– أهمية البحث في المفاهيم والمصطلحات، لأنها مفاتيح العلوم، ومداخل المعرفة، وهذه الأهمية تقتضي أن يكون لعلم المصطلح مكانته اللائقة في الدرس الجامعي العربي.
– إثارة موضوع نظرية المعرفة في كل من الشعر الجاهلي والقرآن»[3].
وموجب حضاري: يكمن في أن المسألة المصطلحية هي قلب الإشكال، ومفتاح الإقلاع، ومحرك التجديد، (…) هي محور الصراع، وجوهر النزاع، ومركز الدفاع، ذلك بأن عليها المدار، منذ استخلاف آدم عليه السلام حتى قيام الساعة، ولأهمية المسألة المصطلحية عامة، ودلالة المصطلحات خاصة، يقتضي إيلاؤها الأولوية في الدراسات الإنسانية ليحدث التواصل السليم، بين مكونات الأمة المذهبية والفكرية… [4] إيمانا منه بأن دراسة المفاهيم، وسيرتها وتاريخها وتطور دلالتها، خاصة المفاهيم القرآنية، سيجبر كسرا طالما عانت منه ثقافتنا، وفكرنا، وسيجعل الدراسات المصطلحية واللغوية موصولة بالقرآن الكريم .[5] يحتوي الكتاب على مقدمة ومدخل وستة فصول وخاتمة، وقد اشتملت المقدمة على موضوع البحث، ودوافعه، ومنهجه، ومحتواه، وصعوباته. وأما المدخل فيتكون من ستة مباحث، تناول فيها الكاتب التعاريف المؤطرة للدراسة، (كعلم المصطلح ، والتطور الدلالي، والحقول الدلالية، ونظرية المعرفة، والمعجم التاريخي، وختمه بنماذج من الدراسات السابقة التي تناولت الموضوع.
ففي الفصل الأول عرض فيه الكاتب مفاهيم المنع واللزوم ، العقل واللب والنهية، والتي تطرق إليها من الجانب المصطلحي، وفي الاستعمال المعجمي، وفي الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، وعند المفسرين، والأصوليين، والفلاسفة، وفي التداول العربي الحديث، وكذا التطور الدلالي لهذه المفاهيم، والعلاقة بينها في الضمائم.
وهنا يقول الدكتور بشير فالح : «تطور مفهوم العقل بطريقة متدرجة، فارتقى من الدلالة الحسية والمادية إلى الوظيفة الإدراكية»[6].
مضيفا بقوله : «دلالة مفهوم العقل تطورت بطريقة متدرجة، من الأداة المادية، وهي الحبل، إلى أشياء عينية، تتصف بصفة المنع من الشيء، (الحبل ، الحصن ، السيف، والدية) ثم إلى صفة خلقية محمودة، هي الحلم والرزانة، فوظيفة إدراكية فهذه الدلالات التي جاءت في الشعر الجاهلي، تطورت إلى معنى أرقى في القرآن الكريم.[7] وتكمن العلاقة بين هذه المفاهيم التي تلتقي أصولها الدلالية في معاني «الربط ، والمنع، والحبس ، والانتهاء»، وهي : «العقل واللب والنهيا والحجر» بنوع من القرابة الدلالية، كما جاء على لسان الكاتب ، وتتداخل فيها الأخلاق المعرفية ، فتصبح المعرفة أساسا خلقيا…[8] وخصص الفصل الثاني ، لمفاهيم الجمع والحفظ ، وهي : “القراءة ، الوعي ، والتذكر” وقد أشار الكاتب، إلى أن الغالب في أصول المفاهيم المعرفية، وضوح الأصل الحسي للجذور اللغوية ، إلا في مفهوم التذكر، فالأصل الحسي والطبيعي لجذره الدلالي، غير واضح بشكل جلي…[9] ونجد أن دلالة هذه المفاهيم تطورت واتسعت في القرآن ، بعد أن كانت خاصة وضيقة في الشعر الجاهلي.
وتطرق في الفصل الثالث إلى مفاهيم التعيين والتحديث، وهي : “النظر، البصر، الرأي”، وفيه سار الكاتب على نفس المنهج المتبع في باقي الفصول، فعرج في تعريف هذه المفاهيم على المعنى اللغوي والاصطلاحي واستعمال الشعراء، وفي القرآن الكريم، والتطور الدلالي، والذي تطورت فيه المفاهيم من المعنى الحسي إلى معاني مجردة، مثاله في استعمال الشعراء الجاهليون، استعمل “النظر”، ” بغزارة في أشعارهم، لكنه لم يرقى إلى مستوى الاصطلاح، بل إنه استعمل بدلالته اللفظية، إلا في حالة واحدة، استعمل مفهومه الاصطلاحي. والدلالات اللغوية للنظر، لا تخرج عن ما ذكره اللغويون لمعانيه، ومنها : البصر ، قال طرفة بن العبد _متغزلا بامرأة من الطويل _ :
واذهب مثل الرئم صيد غزالها ** لها نظر ساج إليك تواغله
النظر الحسي، قال عمرو بن شأس الأسدي من الكامل:
فانظر خليلي هل ترى ضغن ** كالدوم أو أشبالها الأفل [10] وهكذا انحسرت دلالة النظر في الشعر الجاهلي في الحس والتأمل، وقد اعتبرهما الكاتب معنيين ضيقين، إلا أن القرآن الكريم توسع فيهما إلى نوعين من الدلالة، الأول هو “النظر التأملي” الذي تمتزج فيه الرؤيا الحسية بالتأمل، والنوع الثاني هو “النظر الكيفي” وهو التفكر والاعتبار في الآيات الكونية والنفسية، والسنن الاجتماعية، والتاريخية. وغالبا ما يقترن النظر بهذا المعنى في القرآن، بالأداة، “كيف”، و نادرا ب “ما ذا”[11] ويأتي الفصل الرابع ليحدثنا عن مفاهيم الفكر والتعهد والفتح، وهي: “التفكر، الدراسة، الفقه”، ومثال ذلك ما جاء في استعمال الشعراء لمفهوم الفقه، فقد أشار الكاتب أن له معنيين: المعنى الأول، وهو السمع والفهم، والمعنى الثاني وهو الشق والفتح.
أما في القرآن الكريم ، فقد ورد الفقه بمعنى التدبر العميق للأمور لكي ينفتح الفهم والبصيرة، فيكون الإدراك شاملا وعميقا للأشياء.[12] وهنا يشير الكاتب إلى موانع الفقه وحدوثه وانتفائه، ما دامت القلوب هي محل الفقه وأداته، وأجمل الموانع في : «الأكنة على القلوب، الطبع على القلوب، صرف القلوب»[13]، كما فند ذلك بأدلة من القرآن الكريم.
أما ما تعلق بحدوث الفقه وانتفائه، فأغلب ما ورد في صيغ مفاهيم الفقه في القرآن، تفيد سلب الفقه عن طائفة من البشر وهم المنافقون والذين كفروا، والذين في قلوبهم مرض، فهؤلاء ما دامت أفعالهم واعتقاداتهم مناقضة لمنهج الله، فهم لا يفقهون»[14].
وقد ارتقت دلالة الفقه في الشعر الجاهلي، من الدلالة الحسية وهي “الشق والفتح” إلى “الفهم”، ثم اتخذت في القرآن دلالة أرقى من الأولى والثانية، وهي التدبر العميق للأمور لكي ينفتح الفهم والبصيرة، فيكون الإدراك شاملا وعميقا للأشياء.[15] وتحدث في الفصل الخامس عن مفاهيم القصد والاتباع، وهي : “الحجة، المنهج، التلاوة”، وفي هذا الفصل نجد أن استعمالات هذه المفاهيم عند الشعراء الجاهليين قليلة ونادرة، ولا ترد إلا اسما في الغالب، في حين نجدها في القرآن وردت اثنان وعشرون مرة، وترد فعلا أو مصدرا. وهذا ما جاء على لسان الكاتب، وهو يتحدث عن مفهوم الحجة: «نادرا ما استعمل الشعراء الجاهليون مفهوم الحجة، ولا يبعد مفهومه لديهم عن مفهومه لدى اللغويين، ولم أحصي سوى أربعة نصوص ورد بها هذا المفهوم في عملية استقرائية للشعر الجاهلي» مضيفا استعمال مفهوم الحجة في الشعر الجاهلي بدلالة “البرهان والدليل، الذي يقصد به اقناع الخصوم، عند الخصومة والمحاججة، «واستعمل في القرآن بهذه الدلالة أو بما يقاربها، ومعناه فيه هو «الدليل الذي يقصد عند إقناع الخصم، وتتحول الحجة إلى خصومة، حينما يكون الطرفان يستعملان حججا متنافية»[16].
وندور استعمال هذه المفاهيم في الشعر الجاهلي واضحة بالأدلة والبراهين، التي قدمها الكاتب، محاولا أن يثبت الدلالتين الجاهلية والقرآنية، وجعل الفاصل التطور الحاصل بينهما، وهذا يدل عن الضبط المحكم، والقصد الواضح، الذي تتصف به هذه الدراسة.
وجاء في الفصل السادس والأخير الحديث عن مفاهيم العبور والانتقال، وهي “الاعتبار والتدبر”، وفيه يتبين لنا أن هذه المفاهيم – مثلها مثل المفاهيم التي مرت في الفصول السابقة- فعل قلبي يقوم بها القلب مثل: “التعقل ، والفقه والتذكر ، والبصر ، والتدبر”.[17] ويرد الاعتبار في القرآن بمعنى التفكر في السنن الكونية والتاريخية، والانتقال منها للاستدلال على حقائق مثل عظمة الخالق، واستنباط قوانين وسنن تهدي الإنسان وترشده.[18] وقد اقترنت مجموعة من المفاهيم بالاعتبار، وهي: البصر والتعقل والتفكر واللب، التي تؤسس معه نسيجا مفهوميا، أو شجرة مفهومية، ملتفة الأغصان، وهذا دليل على أن المفاهيم المعرفية في القرآن تشكل رؤيا وتصورا معرفيا للكون والانسان والوجود بصفة عامة.[19] وبخصوص المنهج المعتمد، فقد استعمل الكاتب المنهج الوصفي والمنهج التاريخي، وعبر عنه بقوله : «أحصيت المفاهيم في ديوان الشعر الجاهلي، كيفما وردت شكلا وحجما واشتقاقا وتركيبا، والإحصاء هو استقراء متون الشعر الجاهلي المتنوعة والمتعددة، وقد عدت في هذا الصدد إلى أزيد من مئة ديوان، بما فيها الدواوين المفردة، ودواوين القبائل، وكتب الاختيارات والمجموعات الشعرية، وشروح الشعر…، وراعت في ذلك اعتماد على النصوص الموثقة، فالأقل توثيقا…»[20].
أما المنهج التاريخي ، فعبر عنه بقوله : «وفيه قارنت الحصيلة الدراسة المفاهيمية في كل من الشعر الجاهلي، والقرآن الكريم، فحاولت أن أتلمس وجوه التطور الدلالي، للمفاهيم المعرفية، وماهية مظاهر هذا التطور، وما طبيعته…»[21].
وقد اعتمد الدكتور فالح البشير منهجا عمليا، موضوعيا، وصفيا، تحليليا، نقديا، من شأنه تيسير سبر أغوار الكتب في هذا الباب، والوقوف على مكامن الخلل ومرابط الزلل، وذلك وفق خطة ذات نهج قويم، ونسج سليم، مصاغ بلغة علمية فصيحة ، دقيقة بعيدة عن التركيب والتعقيد.
وتعتبر هذه الدراسة إضافة نوعية فريدة، سدت ثلمة في صرح المكتبة الإسلامية، موسومة بطابع الإجازة والإفادة.
والناظر في ثنايا هذه الدراسة يجد أن الدكتور فالح البشير قد بين بالأدلة والبراهين، أن جل ما أتت به الدراسات السابقة، وإن كانت تقترب من موضوع هذه الدراسة، إلا أنها تكتسي إما خللا منهجيا، أو الاشتغال على كم هائل من المصطلحات، التي يصعب معها التدقيق، أو اختلاف المناهج في منهج واحد.

الهوامش :

[1] ص 9 _ 10 بتصرف
[2] ص 12.
[3] ص 12 / 13.
[4] ص 13 / 14
[5] ص 14.
[6] ص 131.
[7] ص 132.
[8] ص 160 / 161.
[9] ص 199
[10] ص 204.
[11] ص 109.
[12] ص 257 / 258.
[13] ص 161.
[14] ص 262.
[15] ص 264.
[16] ص273.
[17] ص 307.
[18] ص 298.
[19] ص 300.
[20] ص 15.
[21] ص 16.

Science

ذة. مريم الدويك

باحثة بمركز الدراسات القرآنية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق