مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

قراءة في كتاب الوسيلة الأدبية للعلوم العربية للشيخ حسين المرصفي – الحلقة الأولى –

نقدم في الحلقة الأولى من هذه القراءة تعريفا بكتاب من أهم الكتب في مجال النقد والدراسة الأدبية، وهو كتاب «الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية» لمؤلفه حسين أحمد المرصفي.
وقبل أن نشرع في الحديث عن كتاب الوسيلة الأدبية  لا بد لنا من  التعريف بحسين المرصفي الذي كان له أثر كبير في حركة البعث الأدبي، بإتقانه العربية وتبحره في علومها، وتعلمه الفرنسية وترجمته عنها في مجالات متعددة في البحث والدرس رغم عاهته البصرية.   

 

 

نقدم في الحلقة الأولى من هذه القراءة تعريفا بكتاب من أهم الكتب في مجال النقد والدراسة الأدبية، وهو كتاب «الوسيلة الأدبية للعلوم العربية» لمؤلفه حسين أحمد المرصفي.

وقبل أن نشرع في الحديث عن كتاب الوسيلة الأدبية  لا بد لنا من  التعريف بحسين المرصفي الذي كان له أثر كبير في حركة البعث الأدبي، بإتقانه العربية وتبحره في علومها، وتعلمه الفرنسية وترجمته عنها في مجالات متعددة في البحث والدرس رغم عاهته البصرية.   

حياته ومصادر ثقافته:

يبدو أن العاهة كان لها تأثير في مزاج هذا المفكر المرهف الحس المتواضع النفس، فانطوى على نفسه وعزف عن الشهرة وارتياد المجتمعات وعكف على عمله وتأليف الكتب، ولهذا لفَّ الظلام تفاصيل حياته وسيرته، فلا نعرف على وجه التحديد متى ولد، ولا نعرف كثيرا الظروف التي أحاطت به ولولا بضعة سطور كتبها عنه علي مبارك في «الخطط التوفيقية» لما اهتم به أحد من معاصريه، ولم يكتب عنه أحد بعد ذلك، حتى التفت إليه الباحث الشاعر الأديب الأستاذ محمد عبد الغني حسن، فكتب عنه فصلا ممتازا في كتابه «أعلام من الشرق والغرب» الذي صدر في أواخر الأربعينيات، وكتب عنه المرحوم الدكتور محمد منذور فصلا من الفصول التي كان ينشرها في أواخر الخمسينيات عن«النقد والنقاد المعاصرين» ثم جمعها في كتاب بعد ذلك(1).

وقد عجب الأستاذ محمد عبد الغني حسن من إغفال مؤرخي الأدب تقديم ترجمة كاملة عن الشيخ حسين المرصفي؛ قال: « وعلى ما أسنده الشيخ حسين المرصفي إلى دراسة تاريخ الأدب الحديث فإن نصيبه من كتب التاريخ الأدبي والتراجم هو نصيب المجاهدين المتواضعين… فلم يظفر بترجمة واحدة مطولة مفصلة كما ظفر كثيرون من أقرانه في الفضل وأنداده في العلم، ولم نجد له إلا بضعة أسطر في كتاب الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك وهو يتحدث عن قرية المرصفي في الجزء الخامس عشر من هذا الكنز التاريخي الثمين  » (2) . 

ويبدو أن الترجمة للشيخ حسين المرصفي  كانت شاقة لمن جاؤوا بعد علي باشا مبارك، والحق أن الشيخ حسين المرصفي لم يترك لنا ترجمة تفي بحاجات المؤرخ أو تلقي ضوءاً قويا على كيانه. 

منذ أن اختير المترجم له ليكون الرائد الأدبي الأول في دار العلوم، أخذ يعد العدة ليجعل من تدريس الأدب العربي والبلاغة العربية منهجا جديدا لم يجر على غراره قبل ذلك، فأخذ يلقي دروسه مبتدئا ببيان فضيلة العلم ومعرفا بعلوم اللغة والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي والإنشاء والكتابة والتاريخ، ثم مضى بقية الأعوام شارحا لكل علم من هذه العلوم لأنها الأدوات التي يصل بها الأديب إلى مكانة في الأدب، ولذلك أطال المرصفي في عرض هذه الآلات الأدبية فخرجت في كتاب ضخم تزيد صفحاته على تسعمائة صفحة في جزئين أسماهما الوسيلة الأدبية، وكان الشيخ المرصفي من الأدباء الذين فقدوا بصرهم، وليس لدينا مصدر عن الشيخ هل ولد أكمه أم أصيب بفقد البصر بعد مولده، إلا أن ذلك لم يمنعه كزملائه الخالدين من أن يحتل مكانه في بناة النهضة الأدبية لمصر الحديثة، وقد حفظ مجموعة كثيرة من المتون حتى التي لم تكن موضعا للحفظ، وكان رحمه الله يقرأ الخط العربي على طريقة تعليم غير المبصرين عن طريقة الحبس باليد، وهي الطريقة التي تعلمها في مدرسة العميان والخرس التي أنشأها الخديوي إسماعيل العظيم في 12 فبراير سنة 1870تحت نظارة المرحوم محمد أنسي بك، وكان الطلبة يتعلمون فيها القراءة والكتابة على طريقة «بريل» لأول مرة في تاريخ التعليم في مصر  .(3) 

وقد رأى الشيخ الفرصة مناسبة ليتعلم الفرنسية على الطريقة نفسها، فأتقن الفرنسية كتابة وقراءة وكلاما، ولعل عاملا نفسيا من الغيرة هو الذي دفعه إلى تعلمها ، وقد اشتغل مدرسا للغة العربية في مدرسة العميان والخرس بجانب تدريسه للأدب العربي في دار العلوم (4).

أبواب الكتاب ومضمونه:

لابد من الإشارة إلى أن الأصل في كتاب الوسيلة الأدبية، هي المحاضرات التي كان يلقيها المرصفي على طلبته في دار العلوم، وهي نفسها الفصول التي نشرت في روضة المدارس، وتلك الطبيعة الخاصة للكتاب هي التي أملت على المرصفي أن يجعل المجلد الأول بمثابة تمهيد للأفكار التي يريد أن يتحدث عنها، أو كالمدخل للفنون الأدبية التي تناولها بعد ذلك في المجلد الثاني، ولذلك اهتم بالقواعد وتعريفات العلوم ، واهتم بالحديث عن بعض المسائل النظرية التي تتصل بالأدب، ولا تدخل في مباحثه، واهتم بالتأصيل النظري للمعارف الإنسانية(5). 

الجزء الأول من المجلد الأول:

ففي بداية المجلد الأول يحدثنا حديثا نظريا عن العلم، وكيف أنه صفة واحدة لها تعلقات كثيرة، كل جملة منها متناسبة بوحدة موضوع وغاية ورسم، ومن هنا تعددت العلوم المدونة، وميزت بالأسماء وهي قسمان: عقلية: براهينها من جهة العقل، ونقلية: براهينها من جهة النقل(6).

ثم يواصل المرصفي بعد هذا المدخل النظري تحديد العلوم التي سيتحدث عنها ووضع تعريفات لها:

–  اللغة عنده: علم يبين صور الألفاظ وتعيينها للأشياء، التي يفهمها العالم بوضعها لها.

–  والصرف:علم يبين صيغ الألفاظ وكونها أصولا وزوائد ومتبادلة الحروف وكيفية النطق بها. 

–  والاشتقاق: علم يبين جعل بعض الألفاظ أصولا وتفريع بعض آخر عنها.

–  والنحو: علم يبين أحوال أواخر الكلمات عند تركيبها، وتقديم بعض الكلمات عنده على بعض، وجوبا أو جوازا.

–  والمعاني: علم يبين الأغراض المترتبة على إيراد التراكيب في صور مختلفة، وأن لكل صورة غرضا. 

–  والبيان: علم يبين المجاز والكناية .

– والبديع: علم يبين أحوالا تعرض للفظ فتكسوه حسنا ورونقة.

– والعروض: علم يبين الأوزان التي وزنت بها العرب شعرها، كيفية وكمية.

– والقوافي: علم يبين أحوالا تعرض لأواخر الأبيات منها ما يكون لازما، ومنها ما يكون زينة، ومنها ما يكون عيبا.

– والإنشاء: علم يبين كيفية تأليف الخطب ورسائل المخاطبات، وما أشبه ذلك ويسمى «فن الكتابة والنثر»وصاحبه الكاتب والناثر. 

– والنظم: ويقال له القريض، وقرض الشعر، وهو علم يبين كيفية النظم في الأغراض المختلفة من حكم ووعظ ونسيب ومدح وعتب وتعطيف وتأديب وغير ذلك.

– والكتابة: ويقال لها فن الرسم والخط وهو علم يبين رسم الحروف على هيئات مخصوصة حسب ما عليه الاصطلاح.

– والتاريخ:علم يبين أسماء مشاهير الناس، وأزمنتهم وأمكنتهم، وأعمارهم، وأعمالهم، ولعل للتاريخ الإسلامي خصوصية أوجبت عدة من العلوم العربية، ولذلك أبدله بعضهم بالمحاضرات وهي النوادر في الفنون المختلفة التي يحاضر بها بعض الناس بعضا في مسامراتهم وموضوع ما قبل علم الخط اللفظ.

ولعل للتاريخ الإسلامي خصوصية أوجبت عدة من العلوم العربية، ولذلك أبدله بعضهم بالمحاضرات، وهي النوادر في الفنون المختلفة التي يحاضر بها بعض الناس بعضا في مسامراتهم(7) .

وقد نقلت هذه التعريفات وتلك المصطلحات بنص عبارة المرصفي؛ لنتعرف على منهجه في تحديد العلوم ووضع تعريفاتها وضوابطها بهذا الوضوح، بعيدا عن التعقيدات والاستطرادات، التي كانت شائعة في التأليف، في تلك الحقبة من الزمان.

وقد اهتم أيضا في بداية المجلد الأول بتحديد معنى كلمة «أدب» فهي تعني عنده«معرفة الأحوال التي يكون الإنسان المتخلق بها محبوبا عند أولي الألباب ، الذين هم أمناء الله على أهل أرضه، من القول في موضعه المناسب له، فإن لكل قول موضعا يخصه، بحيث يكون وضع غيره فيه خروجا عن الأدب.»(8)

وقد وضح  المؤلف  تفاوت الناس في الأدب بقوله:«والناس في الأدب متفاوتون تفاوتا عظيما فمن قرأ العلوم وطاف في البلاد وعاشر طوائف الناس بعقل حاضر وتنبه قائم وضبط جيد، حتى عرف العوائد المختلفة، والأهواء المتشعبة، فيجب على الإنسان لأجل أن يكون محبوبا عند الناس حاصلا على أغراضه منهم، أن يطلب الأخلاق المحمودة عند أولي النهى ليتحلى بها». (9) 

من خلال هذا النص يتبين أن المرصفي يقصد بهذا القول تعريف الأخلاق، وأدب النفس الذي يمكن أن ينطبق على التجربة الأدبية بمعناها الاصطلاحي الخاص، باعتبار هذا المعيار الذي وضعه للأخلاق يمكن أن يشمل الأدب بصفة عامة.

على أن المرصفي لم يترك هذا الأمر للاجتهاد الخاص، فذكر بعض التفصيلات حول هذا المعيار، وذكر من بين هذه التفصيلات الشعر وبين أثره في النفوس، وقدرته على التأثير البالغ إذا وضع الكلام في موضعه المناسب، وروي أنه «صناعة من الصناعات يجود بدقة معناه، وملاحة لفظه، وإحكام بنائه، ويردأ بخلاف ذلك لكنه متغير الأمر والحال بتغيير العوائد تغييرا عظيما  »(10) 

  وخلص إلى أن مدارسة الأشعار العربية لما فيها من الفوائد العلمية المتعلقة بأوضاع اللغة العربية أمر لازم لكونه معرفا لمقاصد القرآن، وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من الدين كما قيل:

حِفظُ اللغَاتِ عَلَيْنَا   =   فَرْض كَفَرْضِ الصَّلَاةِ

فَلَيْسَ يُحْفَظُ دِيــــنٌ   =   إلَّا بِحِـفْظِ اللُّغَـاتِ  (11) 

وقد تناول المؤلف كذلك  بالتفصيل أدق مباحث علم الصرف بتقسيماته وتفريعاته واشتقاقاته وأبوابه، وتحدث عن علم النحو.

وأنهى المجلد الأول بخاتمة تحدث فيها عن أحسن الطرق لتحصيل علوم العربية، واختلافه بحسب العصور، وفي هذه الخاتمة تتجلى ثقافة المرصفي الغزيرة، ومواهبه الجيدة في تحصيل العلوم.

كما حدثنا عن كيفية تحصيل المعاني الأصلية التي تفيدها أنفس التراكيب، وذلك بمعرفة ما قبل علوم البلاغة ومقاصدها من علوم العربية، وكان العمل في تعليم تلك الفنون وتعلمها في صدر الإسلام أن ينتخب الشيخ بعض الأشعار والخطب والمحاورات، ويلقيها لتلامذته يحفظونها ويتصورون هيآتها الإفرادية والتركيبية عملا مستمرا حتى يحصل للتلميذ صورة خيالية تكون له معياراً وقانونا بما تقتضيهن، يتكلم حكاية وإنشاء وإنشاداً ولم يكن ذلك كافيا للضبط المطلوب لما فيه من الاعتماد على الحافظة التي هي عرضة لتغييرات حوادث الأيام، فجهدوا في وضع القواعد.(12) 

ويؤكد أن الناس إذا اقتصروا على معرفة القواعد دون استعمال، ونظروا إلى الآلات نظر المقاصد، واقفين عند ذلك الحد، فصارت علومهم بمنزلة حبوب تخزن في أماكن صالحة لذلك أو غير صالحة حتى تصير ترابا، وينقلب بعضها حشرات، وهوام بشعة، هؤلاء الناس يستحقون منه اللوم والتعنيف والمقت من الله  .(13) 

وهو من أجل ذلك يرى أننا بحاجة إلى تطوير علومنا ومناهجنا وتجديدها؛ لنواكب تطور العصور وتغير الأحوال، ويقدر أن الطريقة المثلى في مجال الأدب واللغة أن يبتدئ الطالب بتحصيل الفنون، صافية نقية من الشبهات والاعتراضات، وإيراد العبارات المنقوضة تحفظا لها، وعملا بها، فيما يرد عليه أثناء ذلك من الكتب التي يتعلم بها، والأشعار المضمنة فيها. فإذا أتقن ذلك واعتاد لسانه أن ينطق بالكلم العربية كما كانت العرب تنطق بها، انتقل إلى معرفة الفنون البلاغية التي يستفيد بها دقائق المعاني الإشارية الملحوظة وراء المعاني الأصلية؛ ليبلغ بذلك درجة إتقان الإنشاء، حسب اقتضاء الأحوال، فارقا بين كل مقام وغيره، فخطبة المنبر غير خطبة عقد الصلح، وهما غير خطبة رفع المهادنة، ونبذ العهد وهي غير خطبة الأملاك، والعبارات عن صيغ العقود والشهادات والمشارطات، غير عبارات التعزيات، وطريق الوصول إلى ذلك، معرفة الفنون البلاغية، وكثرة القراءة في منشآت المتقدمين على اختلاف أنواعها بتعقل لسياقاتها ومسالكها ومباديها وأوساطها وغاياتها، مع الصبر على ذلك والتأني في تعلقه كما قيل:(14) 

لاَ تَحْسِب المجْدَ تَمْرا أَنْتَ آكِلُه  =   لَنْ تَبْلُغَ المجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرا (15) 

وختم المجلد الأول بقوله:«وزمن التحصيل هو زمن أنفس العمر، حيث تكون الشبيبة مشبوبة والقوى مستكملة والروح فرحا بامتثال أمره ونهيه، وذلك يوجب الإعراض عن الشهوات، والإغماض عن كثير من اللذات كما كان يقول أحد شيخي الحديث مسلم بن الحجاج النيسابوري بعد كتبه ما يتحصل له من نتائج أعماله وفرائد مكابداته :«لا ينال العلم براحة الجسم؛ فيحصل الطالب المجتهد على ذلك الحد على أمر قلما يكون في حسابه وتحت نظره، وهو أنه إذا مسه بعض الضعف اللازم لخلقةِ الحيوان، واحتاج إلى سكون راحة، وتحفظ من آلام أمور لم تكن تؤثر فيه أيام التهاب شبيبته تأثيرها فيه أيام تخامدها، واستيلاء ضدها عليه من يابس البرد  وبلة الرطوبة، وجد مأوى كافيا وملبسا واقيا وخدمة مريحة، وما يعينه على عبادة ربه وسداد رأيه، الذي يكون إذ ذاك وظيفته المرادة منه بها، ينتفِع وينفع أمته، ويكون في تلك الحالة مستقرا في الرتبة النبوية التي ليس وراءها رتبة شرف  »(16) 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1)   مقدمة كتاب الوسيلة الأدبية ص:7.

(2) أعلام الشرق والغرب ص:67

(3) أعلام الشرق والغرب ص: 69

(4) أعلام الشرق والغرب ص: 80-81

(5).الوسيلة الأدبية 1/16

(6) نفسه 1/16.

(7) نفسه 1/18

(8) نفسه 1/36

(9) نفسه 1/37

(10) نفسه 1/45

(11) نفسه 1/46-47

(12) نفسه 1/416

(13) نفسه 1/417  

 (14) نفسه 1/418

(15) نفسه 1/418

(16) نفسه 1/419

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق