مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قبسات من درر العارفين

صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.

     كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.

     ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.

 12) إمام المحققين وقدوة السالكين: سيدي محمد الحراق (1186-1261ﮬ)

من كلامه رحمة الله عليه:

–  واطرحوا من عقولكم الخواطر كلها ليحصل الصفاء المؤدي إلى مكاشفة الأنوار، وظهور المعارف والأسرار؛ وذلك يتأتى بملاحظة الانقطاع إلى الله سبحانه بترك التفكير فيما سواه؛ وذلك لأن الناس غالبا يفتنهم عن الله ملاحظة الثواب. وأنتم لا تعتمدوا شيئا من ذلك؛ لأن أكثر الناس طلبا للثواب أشدهم زهدا في الله؛ إذ لو كان يحبه سبحانه ما طلب سواه، ولم يطلب إلا إياه، ولم يقنع منه إلا به، ولا أقبل إلا عليه، ولا لهج إلا بذكره؛ ولذلك قال عليه السلام في الحديث القدسي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين). وذلك المعطى –فيما نفهم والله أعلم الذي هو أفضل ما يعطى- هو مكاشفة أنوار ذاته؛ لأن المريد في ابتداء سيره يكون قوله «لا إله إلا الله» نفيا للألوهية عن كل ما سوى الله تعالى، وفي وسط سيره يكون قوله «لا إله إلا الله» استعظاما لله مما يشاهده من أوائل أنوار عظمته سبحانه…[1].

– فأُعْلِمُكُم أعْلَمَكُم الله خيرا، ووقاكم شرا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث أخا في الله أحدث الله له درجة في الجنة). ولا تجدون الشارع يرتب ثوابا إلا على ما يقرب من الله سبحانه؛ لأن الأعمال ليست مرادة لذاتها؛ فكل ما لا يقرب من الله، وإن كان في الظاهر طاعة، فلا عبرة به. وهذا الذي لا يقرب من الله إن نظرتم فيه، وجدتم فيه ما يعود عليه بالإبطال عند الشارع أيضا. وأما عند أهل الذوق الذين وقفوا بتوفيق الله لهم على حقائق الأمور، فالأمر عندهم في الإخوان ظاهر؛ لأن الأخ في الله، -وهو الذي يؤاخيك في الله، لا لغرض سواه؛ وإن كان شيء آخر فبحسب التبع لا بحسب الأصالة في الأخوة والقصد الأول-، رحمة كله لأخيه: فَلَقْيُهُ رحمة، وكلامه رحمة، والنظر إليه رحمة، والانبساط معه رحمة، والأكل معه والسفر معه رحمة، والجلوس معه رحمة، والتفكر فيه بعد فراقه رحمة؛ لأنه يدل بأحواله كلها على الله. فهو إعانة للسائر، وزيادة للواصل. والتجريب الصادق يصدق إن شاء الله ما ذكرناه[2].

– فشدوا أيديكم بصدق العزائم على ذكر ربكم والاجتماع عليه؛ ولا يخفى عليكم أنه سبحانه ذاكركم عند ذكركم إياه، ومقبل عليكم عند إقبالكم عليه. فما ذكرتموه حتى ذكركم بذكركم له، وما أقبلتم عليه حتى أقبل عليكم بإقبالكم عليه. وكل أمر تتركونه لأجل الاشتغال به يأتيكم الله بخير منه؛ لأن يده العليا. وما كان في الله تلفه، كان على الله خلفه. واعلموا أن ذلك إنما يكون لمن لا غرض له بفعله إلا الله تجريدا من الحظوظ؛ وأما من يقصد بعمله جزاء، فعمله معلول بعلة الجزاء والعوض. والله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا له وحده. فخذوا حذركم –بارك الله فيكم- أن يراكم الحق سبحانه قاصدين سواه، أو ناظرين بعقولكم إليه؛ فإن الحق سبحانه غيور. وأخلصوا بأفكاركم إليه تروا من بهاء نوره سبحانه ما يزهدكم في كل شيء سواه؛ بل لا تروا شيئا سواه، ويصير الطبع بحكم الطوع والاختيار خارجا من الكون وهو ساكن فيه[3].

– وقد كان الناس فيما سلف يترقون في نوافل الخيرات، والمشايخ أهل التربية ينظرون في أحوالهم على حسب ما يرون نفوسهم مائلة إليه، إذ لا يحجب الإنسان إلا ما تميل نفسه إليه، فيأمرون بعض أصحابهم بالذكر، وبعضهم بالصلاة، وبعضهم بالصدقة، وبعضهم بالصيام، وبعضهم بترك الأسباب، وبعضهم بتعاطيها، إلى غير ذلك من الأحوال؛ لئلا يعلق بالمريد ما يصده عن الله[4].

– واعلموا يا إخواننا أن من خواص الغفلة عن الله أن صاحبها يزداد في المضايق دهشا في لبه، وأن من خواص ذكر الله تعالى أن صاحبه يزداد في الشدائد قربا من ربه. ومن تعرف لله في الرخاء عرفه في الشدة. وتأملوا ما وقع لسيدنا إبراهيم عليه السلام في مضيق اندفاعه إلى النار من الغنى بالله عن جبريل عليه السلام، وعن سؤال الله النجاة اكتفاء بعلم الله. واعتبروا بقول سيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في مضيق الغار: ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾ [سورة التوبة، آية 40]، وانظروا لحاله عليه السلام في مضيق حنين، إذ عظم به الشهود والحضور حتى سرى ذلك في الحصباء، فسبحت في كفه؛ قال الله في ذلك: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ [سورة الأنفال، آية 17]، وقوله عليه الصلاة والسلام لمن اخترط عليه سيفه ، إذ قال: (من يمنعك مني؟ فقال: الله)، فسقط السيف من يده لشهود هيبة الربوبية[5].

– لا يجتمع لأحد الوصول إلى الله تعالى وعدم الصدق مع الله تعالى أبدا، ولا يصدق الإنسان مع الله حتى يكون لله وبالله في جميع الأحوال قبل الوصول كرها، وبعد الوصول طوعا…، واعلموا أن من لم يصدق مع الإخوان لم يصدق مع الشيخ، ومن لم يصدق مع الشيخ لم يصدق مع الرسول عليه السلام، ومن لم يصدق مع الرسول عليه السلام لم يصدق مع الله، ومن لم يصدق مع الله لم يفلح أبدا[6].

– الفَارُّ إلى الله تعالى يلزمه أن يفِرَّ من ماله وولده وزوجته، وعزه وذله، وفقره وغناه، وقدرته وضعفه، وجميع ما شمّ عليه رائحة العدوى بالقلب أيّا ما كان؛ حتى يكون قلبه مزلقة الأكوان، كلما وقع عليه شيء من الكون زلق وسقط. فالسائر لا بلد له، ولا ولد له، ولا زوجة له، ولا مال له، ولا حال له، ولا عمل له، ولا صاحب له، ولا أنيس له؛ وهذا هو المتوجه إلى الله بصدق العناية، وهمُّه مجموع على الله وحده، ﴿قل هو الله أحد﴾ [سورة الإخلاص، آية 1]؛ خارجا عن أعماله وأحواله ونفسه وجميع الأكوان والوسائط، ويكون انقطاعه إلى ربه. ولا أعني بما ذُكر فرار الجسم، بل فرار القلب؛ إلا إذا لم يكن فرار القلب إلا بفرار الجسم، فيفعله السالك ومثله الواصل إذا خشي شيئا من ذلك على قلبه[7].

–  كامل العقل من الناس هو الذي لا يزول حضوره مع الله، ولو ملك العالم بأسره فضلا عن رتبة الإمارة أو الوزارة، وأنبئك بكامل العقل أنه الذي تم سيره إلى الله سبحانه، فلم يبق للوجود لفظِه ومعناه بقلبه تعلق؛ لأن نقصان العقل على قدر تعلق الأكوان به. فإذا تناهى تعلق الأكوان به، انقلع من أصله حتى تحسب الإنسان عاقلا وهو غير عاقل؛ قال الله سبحانه: ﴿وتحسبهم أيقاظا وهم رقود﴾ [سورة الكهف، آية 18][8].

الهوامش

[1] رسائل الشيخ محمد الحراق في التصوف، دراسة وتحقيق: محمد رشيد اكديرة، مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة، وجدة، المغرب، ط1،  1433ﮬ/2012م، ص ص: 201-202.

[2] المصدر السابق، ص ص: 216-217.

[3] نفسه، ص ص: 218-219.

[4] نفسه، ص: 235.

[5] نفسه، ص ص: 239-240.

[6] نفسه، ص ص: 244-245.

[7] نفسه، ص ص: 262-263.

[8] نفسه، ص: 299.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق