مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه:

         

         “سلك الشافعي سبيله وبسط مأخذه في الفقه وأصوله، لكن خالفه في أشياء أداه إليها اجتهاده، وثقوب فطنته، ولم يخلصه من دركها عدم استقلاله بعلم الحديث والأثر، وتزحزحه عن الانتهاء في معرفته، ثم ما جرى بينه وبين بعض المالكية بمصر، وحمله عليه، حتى تميز عنهم بعد أن كان معدوداً فيهم، وواحداً من جملتهم، فبان بأصحابه و تلاميذه، وصرح حينئذ بالخلاف والرد على أكبر أسانيده كما سنذكر في أخباره بعد هذا – إن شاء الله تعالى – من قصته مع فتيان ابن أبي السمح، وتعصبه عليه، وامتحان ذلك الآخر بعد، ودخول التنافر بينه وبين جماعتهم منذ ذلك بسببه.

         وأما أبو حنيفة فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار، فترك نصوص الأصول، وتمسك بالمعقول، وآثر الرأي والقياس و الاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس فأبعد ما شاء، وحد بعضهم الاستحسان أنه الميل إلى القول بغير حجة، وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحدث في الدين والبدعة، حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع في الدين.

               وهذا ما خالفه صاحباه: محمد وأبو يوسف في نحو ثلث مذهبه، إذ وجدوا السنن تخالفهم  فيما تركه لما ذكرناه عن قصد لتغليبه القياس وتقديمه، أو لم تبلغه ولم يعرفها، إذ لم يكن من مثقف علومه، وبها شنع المشنعون عليه، وتهافت الجُرآء على دم البرآء بالطعن إليه، ثم ما تمسك به من السنن فغير مجمع عليه، وأحاديث ضعيفة و متروكة، وبسبب هذا تحزبت طائفة أهل الحديث على أهل الرأي وأساءوا فيهم القول والرأي، قال أحمد بن حنبل: ما زلنا نلعن أهل الرأي ويعلنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا، يريد أنه تمسك بصحيح الآثار واستعملها. ثم أراهم أن من الرأي ما يحتاج إليه وتنبني أحكام الشرع عليه، وأنه قياس على أصولها ومنتزع منها، وأراهم كيفية انتزاعها، والتعلق بعللها وتنبيهاتها.

فعلم أصحاب الحديث أن صحيح الرأي فرع الأصل، وعلم أصحاب الرأي أنه لا فرع إلا بعد أصل، وأنه لا غنى عن تقديم السنن وصحيح الآثار أولاً. ونحو هذا في هذا الفصل قول ابن وهب: الحديث مضلة إلا للعلماء، ولولا مالك والليث لضللنا.

        وأما أحمد وداود فإنهما سلكا إتباع الآثار، ونكبا عن طريق الاعتبار، ولكن داود غلا في ذلك فترك القياس جملة، فأحدث هو وأصحابه من القول بالظاهر ما خالف فيه أئمة الأمة، فخانه التمسك بربع أدلة الشريعة، وأعرض مما مضت عليه من الاجتهاد والاعتبار، وسمّى ما لم يجد فيه نصاً ظاهراً عفواً، وأطلق على بعضه الإباحة، واضطربت أقوال أصحابه في ذلك لضيق المسلك فيه، فتهافت مذهبه، واختل نظره، وجاء من أتباع الظاهر بمقالات يمج الكثير منها السمع وينكره العقل، وقال أحمد: الخبر الضعيف عندي خير من القياس، وبديهة العقل تنكر هذا، فلا خير في بناء غير أساس. وهذا أكرمكم الله – اعتبار في التفضيل نبيل، يدل المنصف على السالك منه نهج السبيل.”

    ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض،    تحقيق: د. علي عمر، الطبعة الأولى 1430هـ- 2009، دار الأمان، 1/80.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق