مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

التفسير الصوفي الإشاري من خلال نموذج لطائف الإشارات للقشيري (22)

  

ذ. عبد الرحيم السوني.

باحث بمركز دراس بن إسماعيل.      

3ـ الأحكام والعبادات:

عندما يفسر القشيري الآيات التي تتضمن العبادات والأحكام والمعاملات، فإنه يخرج بها عن ظاهرها، ليخوض في طلب معاني دقيقة ولطيفة لا تظهر إلا لأرباب التصوف كفن يؤهل الإنسان السالك إلى مقام تلقي المعاني اللامتناهية للآيات القرآنية، وإذا أردنا أن نقدم الدليل على ذلك، فإن الأمر سيكون عسيرا، ولكن حسبنا بعض الشواهد الدالة على طبيعة التعامل وطريقة استقراء بواطن الآيات، فكل الآيات التي تتحدث عن أمور شرعية ظاهرية مثل الغنيمة، القتال، الأسر، الكيل، الميزان، الصلاة، الصوم، الزكاة. نجده يستخرج منها أصول التصوف التربوية التي لها علاقة بباطن الإنسان وقلبه. ومما نستشهد به هنا في هذا الباب تفسيره للآية: ﴿واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه﴾[1]، حيث يقول: «الغنيمة ما يحصل عليه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند الجهاد والقتال. ولما كان الجهاد قسمين: جهاد الظاهر مع الكفار وجهاد الباطن مع النفس والشيطان، وكما أن الجهاد الأصغر غنيمة عند الظفر، كذلك للجهاد الأكبر غنيمة وهو أن يملك نفسه التي كانت في يدي عدويه: الهوى والشيطان، وبعد أن كان ظاهره مقرا للأعمال الذميمة وباطنه مستقرا للأحوال الدنيئة يصير محل الهوى مسكن الرضا، ومقر الشهوات والمنى محل لما يرد عليه من مطالبات المولى، وتصير النفس مستلبة من أسرار الشهوات، والقلب مختطفا من وصف الغفلات، والروح منزوعة من أيدي العلاقات الخمس، فهو غنيمة ـ على لسان الإشارة ـ سهم خالص لله، وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب لا من كرائم العقبى ولا من ثمرات التقريب ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبد عند ذلك محررا عن رق كل نصيب، خالصا لله وبالله، بمحو ما سوى الله»[2].

وفي حديثه عن استقبال القبلة يقول: «لتكن القبلة مقصود نفسك، وسبحانه مقصود مشهود قلبك، لا تعلق قلبك بأحجار وآثار، وأفرد قلبك لي»[3]. أما في قوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾[4] فيقول: «إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيأته، وإراقة الدماء التي تجب فيه، وعلى لسان أهل الإشارة الحج هو القصد، فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص، وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صحيح ثم يتجرد على لباس مخالفاته وشهواته ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى وإطلاق خواطر المنى، وما في هذا المعنى، ثم الحاج أشعت أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع والتلبية، وأفضل الحج الشج والعج، فالشج صب الدم والعج رفع الصوت بالتلبية فكذلك سفك دم النفس بسكاكين مخالفتها، ورفع أصوات السر بدوام الاستغاثة وحسن الالتجاء والوقوف بساحات القربى باستكمال أوصاف الهيبة. ومواقف الحاج عرفات وموقف النفوس الأسامي والصفات (=أسماء الله الحسنى وصفاته)، وطواف القلوب حول مشاهد العز، والسعي بالأسرار بين صفى كشف الجلال ولطف الجمال، ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيار والمنى والمعارضات بكل وجه)[5].

وعند  قوله تعالى: ﴿كتب عليكم الصيام… ﴾[6] يقول: «الصوم على ضربين: صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون الروح عن الملاحظات… ونهاية الصوم إذا هجم الليل، ولمن أمسك عن الأغيار فصومه نهايته أن يشهد الحق، والصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته كما يقول عليه السلام فالرؤية عائدة على الهلال، وعند أهل التحقيق فالرؤية عائدة إلى الحق، فصومهم لله حتى شهوده، وفطرهم لله، وإقبالهم لله، والغالب عليهم الله).[7]

 

 


[1]  سورة الأنفال الآية 41.

[2]  ـ لطائف الإشارات، ج2ص321

[3]  ـ اللطائف ج1ص146

[4] ـ البقرة، 196

[5]  ـ لطائف الإشارات ج1، ص175ـ 176

[6]  ـ البقرة، 183

[7]  ـ لطائف الإشارات، ج1، ص 164ـ 165

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق