مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

قاعدة الأصل في العبادات التعبُّد، وفي العادات التعقُّل

          في هذه  القاعدة يبين الإمام أبو إسحاق الشاطبي المجال الذي يمكن أن يُبْحَث فيه عن المعاني، والعلل، وبالتالي استخدام القياس؛ فقرر أن ذلك محله العادات، وهو الأصل فيها.

          أما العبادات، فالأصل فيها التعبد، وعدم التعليل؛ لأن الشارع الحكيم لم يضعها على محض عقولنا، وقد دلل الشاطبي على هذا بأمور؛ منها[1]:

1       – الاستقراء: بدليل أن الشارع فرض الغسل من المني، وأبطل الصوم بإزالته عمدا، وهو طاهر دون البول، والمني وهو النجس، فطهارة الحدث تتعدى محل موجبها، بخلاف طهارة البدن، والثوب، والمكان من الأخباث؛ فإنها لا تتعدى.

          وأوجب الشارع قضاء الصوم على الحائض، والنفساء، دون الصلاة، وسائر أركان العبادات المفروضة من أركان الإسلام؛ أي أن الموجبات متحدة مع اختلاف الموجبات، والدعاء يُطلَبُ في السجود لا في الركوع، والنوافل تطلب في أوقات، وتمنع في أوقات أخرى، وجمع الشارع بين الماء والتيمم والتطهير، ومع أن التيمم ليس فيه نظافة حسية[2].

           وهكذا سائر العبادات؛ كالصوم، والحج، وغيرهما؛ على اعتبار أن الحكمة العامة الانقياد لأوامر الله – تعالى-، والحصول على مرضاته، وهذا لا يتأتى معه علل خاصة، يُفهَمُ منها حكم خاص، ولو كان الأمر على هذه الشاكلة، لما حُدَّ لنا أمر مخصوص، ولما حصل لوم من خالف هذه الأوامر؛ فتبين أن ما حُدَّ هو المقصود الشرعي الأول للتعبد، وأن غيره غير مقصود شرعا.

          2- إن عدم، وضع الشارع الأدلة على التوسع في العبادات كما هو الشأن في العادات، يفيد التقيد بالعبادات، دون الالتفات إلى معانيها، فضلا على أن المناسب في العبادات عده الأصوليون وغيرهم مما لا نظير له، ومثاله رخصة المسافر، وإفطاره، وقصر الصلاة، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك، دون المقيم المجهود؛ مما يوضح أن علل العبادات غير مفهومة الخصوص.

         3- انطلاقا من قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) الإسراء: 15، وقوله: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء: 165.

          يرى الإمام الشاطبي أن الشريعة هي التي بينت ما يجب التعبد به، ورفعت تكليف ما لا يطاق، مبينا أن أزمنة الفترات لم يهتد العقلاء فيها إلى وجوه التعبدات، واهتدائهم لوجوه معاني العادات، ومن ثم كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب، وأجرى على طريقة السلف الصالح، وهو رأي مالك – رحمه الله -.

          * حيث لم يلتفت في تحقيق رفع الأحداث إلا مع وجود النية، والماء المطلق، وإن حصلت النظافة[3].

          * وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه، والتسليم كذلك[4]، كما أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها في الصلاة عند الشافعية؛ لاحتمال التعبد بالإعجاز اللفظي، والمعنوي، وعند أبي حنيفة يقوم مقامها تعويلا على المعنى[5].

          * واقتصر الإمام مالك على مجرد العدد في الكفارات.

          * ومنع من إخراج القيم في الزكاة[6].

كما أن الصلاة معللة بنصوص: قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) طه: 14، وقوله: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت 45.

         والإمام الشاطبي نفسه يقر بهذا؛ حيث يقول: (إن أصل مشروعيتها – الصلاة- الخضوع لله – سبحانه- بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة، والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له …، ثم إن هناك مقاصد تابعة؛ كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا في الخبر: “أرحنا بها يا بلال”[7]… ، وطلب الرزق بها …، وإنجاح الحاجات ….، وطلب الفوز بالجنة، والنجاة من النار …، وكون المصلي في خفارة الله … ، ونيل أشرف المنازل …”[8].

          وفي الصيام قال تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 183، ويعلل الإمام الشاطبي الصيام: “بسد مسالك الشيطان، والدخول من باب الريان، والاستعانة على التحصين في العزبة …”[9].

          وفي الزكاة قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) التوبة 103، وفي الحديث: ” تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم”[10].

          وفي الحج قال تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) الحج 27- 28.

           ونفس الشيء بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) البقرة: 193.

            والشاطبي نفسه لا ينكر تعليل العبادات جملة، وإن كان يرى أن التفاصيل الأصل عدم التعليل؛ حيث قال: “وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا، أو في الآخرة على الجملة، وإن لم يعلم ذلك  على التفصيل”[11].

            ويقول الزنجاني في إطار هذه القاعدة عن الإمام الشافعي، وأبي حنيفة – رضي الله عنهما- أنه رأى التعبد في الأحكام هو الأصل، غلب احتمال التعبد، وبنى مسائله في الفروع عليه. وأبو حنيفة رضي الله عنه، حيث رأى أن التعليل هو الأصل، بنى مسائله في الفروع عليه[12].

           ويقول العز بن عبد السلام: المشروعات ضربان:

            أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة، أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى.

            الضرب الثاني: ما لم ظهر لنا جلبه لمصلحة، أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد، وفي التعبد من الطواعية، والإذغان مما لم تعرف حكمته، وفي التعبد من الطواعية، والإذعان مما لم تعرف حكمته، ولا تعرف حكمته، ولا تعرف علته، ما ليس مما ظهرت علته، وفهمت حكمته، فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته، وفائدته، والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالا للرب، وانقيادا إلى طاعته، ويجوز أن تجرد التعبدات عن جلب المصالح، ودرء المفاسد، ثم يقع الثواب عليهما؛ بناءً على الطاعة، والإذعان من غير جلب المصالح غير مصلحة الثواب، ودرء مفسدة غير مفسدة العصيان، فيحصل من هذا أن الثواب قد يكون على مجرد الطواعية، من غير أن تحصل تلك  الطواعية جلب مصلحة، أو درء مفسدة، سوى مصلحة أجر الطواعية[13].

          ويتفرع عن العمل بهذه القاعدة، أو عدم العمل بها مسائل، أذكر البعض مما ذكره الزنجاني:

          * إن الماء يتعين لإزالة النجاسة عند العاملين بهذه القاعدة، كمالك، والشافعي، ولا يلحقه غيره به تغليبا للتعبد، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه، والذي يرى أن التعليل هو الأصل، يلحق به كل مائع طاهر  مزيل للعين والأثر تغليبا للتعليل.

          * ومنها أن الماء المتغير بالطهارات؛ كالزعفران، والأشنان، إذا تفاحش تغيره، لم يجز التوضي به (عند الشافعي)؛ بناء على الأصل المذكور؛ فإنه تعبد استعمال الماء و بالاتفاق، و الميع اسم الماء، وهذا يندرج تحت اسم المطلق.

           ومنها أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ ( عند الشافعي) رضي الله عنه؛ تغليبا للتعبد بترجيح الاجتناب على الاقتراب؛ وعندهم – الحنفية – يُطهَّر تشوفا إلى التعليل.

           ومنها أن ذكاة ما لا يؤكل لحمه لا تفيد طهارة الجلد عند الذين أخذوا بهذه القاعدة؛ مراعاة للتعبد، كما في ذكاة المجوس، ونجاسة اللحم من هذا الذبيح.

وعندهم – الحنفية – يُطَهَّر؛ تشوفا إلى تعليل الطهارة بسفح الدم، والرطوبات المتعفنة.

           ومنها أن تخليل الخمر حرام، والخل الحاصل منه نجس عند الآخذين بهذه القاعدة، تغليظا للأمر فيها.

وعندهم – الحنفية – جائز، والخل الحاصل منه طاهر؛ تعليلا بزوال علة النجاسة، كما في الدباغ[14].

القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي من خلال كتابه “الموافقات”

للدكتور الجيلالي المريني

الطبعة الأولى 1423هـ -2002م.

دار ابن القيم  للنشر والتوزيع- الدمام.

ص:307 .


[1] – الموافقات 2/300، ما بعدا.

[2] –  هذه الأمور، ومثلها جعلها ابن القيم الجوزية معللة؛ انظر: القياس في الشرع الإسلامي، ابن تيمية، ابن قيم الجوزية من ص67: 191.

[3] – أنظر الكافي في فقه المدينة المالكي، لابن عبد البر،ص :19-20.

[4] – أنظر الكافي في فقه المدينة المالكي، لابن عبد البر،ص: 39 بالنسبة للدخول في الصلاة.

[5] – أنظر: تخريج الفروع على اأصول، للزنجاني، ص44.

[6] – مسألة إخراج القيم في الزكاة اختلف فيها فقهاء المذهب؛ فوافق بعضهم الإمام فيما ذهب إليه، وخالفه البعض الآخر، قال ابن رشد الجد: “وجه تفرقة ابن القاسم بين أن يخرِج عن العين حَبا، أو عن الحَبِّ عينا، هو أن العين أعم نفعا؛ لأنه يقدر أن يشتري به ما شاء من جميع الأشياء، والحب قد يتعذر عليه أن يشتري به شيئا آخر، حتى يبيعه بعين، فيعني من ذلك، ولعله يُبخس فيه”، وقال ابن حبيب إنه لايجزيه في الوجهين جميعا إلا أن يجب عليه عين، فيخرج حبا إرادة الرفق بالمساكين عند حاجة الناس إلى الطعام إذا كان عزيزا غير موجود. وقال ابن أبي حازم، وأبي دينار، وابن وهب، وأصبغ:” لا أحب له ان يفعل ذلك أبدا؛ فإن فعل، وكان فيه وفاء، وجب أي ذلك كان أجزاه”، وهذا القول أظهر الأقوال ” البيان والتحصيل”، لابن رشد الجد: 2/512.

[7] – أخرجه أحمد بن حنبل في المسند.

[8] – الموافقات 2/399 و340.

[9] – الموافقات 400.

[10] – أخرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي؛  كل منهم في كتاب الزكاة، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب “المغازي” واخرجه أحمد بن حنبل في  المسند.

[11] – الموافقات 1/201.

[12] – تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني ص: 41.

[13]– قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، 1/22.

[14]– أنظر: تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني من ص41 إلى 46.

د. الجيلالي المريني

كلية الآداب فاس، سايس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق