مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

في سبيل الوسطية ونبذ التطرف

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فليكن المفتتح من قوله تعالى: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ ليتبدى على سبيل من اليقين أن رب العالمين تولى أمره تشريعا وتنظيما، كما تولى خلقه تصويرا وتقويما ﴿فتبارك الله رب العالمين﴾، خلقا وملكا وعبيدا، إيجادا وتربية وإنعاما، فكلاهما موضوع بالقسطاس على السبيل الأوسط الأعدل، بالعلم الأفيح المطلق، وبينهما من التلازم ما به ينفعل الآخر بالفعل في أحدهما سلبا وإيجابا، ولذلك وقع النكير والتحذير،  بعد الإحكام والتقدير، من الاعتداء في «الأمر» ابتداعا واعتسافا، والإفساد في «الخلق» تبذيرا وإسرافا، فقيل: ﴿إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾  إنما السبيل فيهما توقف عما حد بمقدار في مجالهما ﴿تلك حدود الله فلا تعتدوها﴾([1])

فالخلق بمقدار يتراءى لائحا في الكون برمته؛ إذا أنعمت البشرية النظر، وأدأبت الفكر؛ لأنه مقدور «بمعادلة رياضية ربانية بالغة الإحكام، فنسبةُ مقدار ذرة الهيدروجين ـ مثلا ـ إلى ذرة الأوكسجين نسبةٌ في غاية من الدقة والإحكام، وأي زيادة أو نقصان/ إفراط أو تفريط فيها سينتهي بالماء إلى اضمحلال، وتلك الداهية بالنسبة للحياة والأحياء» ([2])

والأمر بمقدار تدركه العلماء الراسخون في مكيث اقتراء وطول ابتحاث محكما موزونا لا تنبغي له الزيادة فيه، ولا النقصان من نُظُمه وأحكامه، وأيُّ تقصد إلى الأمرين أو أحدهما لَيًّا لكلياته، وتعسفا في قواعده: إن تفهما للخطاب، أو ادراكا للمناط، أو تنزيلا للنِّسَب يكون الإفساد فيه تفريطا أو إفراطا: عقيدة وأخلاقا وتشريعا؛ ليستحيل اعتداء على الخلق فوضى وتدميرا. ﴿وكل شيء عنده بمقدار﴾.

وذلك معنى الوسطية الذي يقابله طرفان: إفراط وغلو وطغيان، أو تفريط ونقصان: ويجمعهما معنى التطرف الذي يأنف الوسط، ويألف محال التغيير والشطط: وأشده ما كان بالنظر والاستدلال تأصيلا وتنزيلا:  ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ء امنا به كل من عند ربنا﴾: فثمة زيغ في المنهج يفضي إلى تطرف في الاعتقاد والعمل؛ وهناك رسوخ يرسو شامخا في ثبات وأمل. وذلك ما ارتامه الرسخ من المتعقلة مفهوما ومقاصد، ضوابط وقواعد؛ ترسيخا للمأثور الوسط، ودفعا للوافد الشطط.

وهذه كلمات تتناوش منهج الوسطية سبيلا لدفع الغلو ومواجهة التطرف، آثرتِ النأيَ عن زاخر تراث في الموضوع أشبع بحثا ومدارسة؛ لتنتحي بالنظر والاعتبار إلى مسائل منثورة في كتب الاعتقاد والفقه والأصول كتعريف التوحيد وتقسيمه وموضوعه وأول واجب فيه، والتقليد في مسائله، وسنة الترك وعلاقتها بالاستصلاح والابتداع، والتصويب والتخطيئ في الاجتهاد، وغيرها من المسائل التي تتردد بين طرفين، وتتأرجح بين نظرين: نظر لمح التيسير ودلائله، ورفع الحرج وأصوله، فيمم شطره وولى قبلته، وآخر آثر الاحتياط فالتزمه، فظن بادي الرأي به  ذرو من الغلو، وشوب من التشديد، ولو تم إمعان النظر في عمقه لالتقى على سبيل من الوفاق بصنوه المؤثر للتيسير ورفع الحرج، ولما زن بشيء مما قد يستغل من قبل المؤثرين مهايع التشدد، وطرائق التطرف، مستندين في نهجهم على أصالة هؤلاء الجلة، وجلالة قدرهم في النظر، وسمي مكانتهم في التأصيل.

من أجل ذلك جدد النظر في هذه المسائل؛ سدا لهذه الذرائع، وقطعا لدابر ذلك الانتهاز واستئصاله،  في دراسة توفيقية تنحو بها نحو ما انتحته أصالة وتقصدت إليه تدليلا وتعليلا من الاعتدال والتوسط، مهذبة بالبيان والمراجحة والتأويل والتقييد والتخصيص أطرافها المفضية في الظاهر إلى معاني الغلو والتطرف، لتؤول بعدها إلى المهيع  القويم الأعدل، وبه تكون دراسة توفيقية ترنو إلى الوفاق وتنبو عن الخلف والاختلاف، كدأب كل مسألة يتجاذبها طرفان، وتتردد بين نفي وإثبات من قسم المجتهدات الذي هو معترك الأقران، ومضمار النبغة من الأعلام. وأهداهم فيه سبيلا وأقومهم طريقا وأسعدهم توفيقا من صغى إلى الوفاق، ونبا عن الأطراف، وسعى سعيه في رفع الملام عن النظرة، جمعا لكلمتهم، وتقريبا لمذاهبهم، وتوفيقا لآرائهم، ومن أمثل الأمثلة وأعمقها أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته التي نهضت بأمانة الوفاق، ونأت عن الخلف والاختلاف، ألا ترى إلى قضايا التشبيه والتنزيه، والإثبات والتعطيل، والتجسيم والتأويل، وما تناثر حولها من الملادة والخصام، وضواري الحجاج والجدال كيف انتزع من نقعها وفاقا يأرز إليه من يسعى حثيثا إلى رأب الصدع وضم النشر وجمع الكلمة قال رحمه الله:  «وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق، واختلفوا في إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال، أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هي الكمال، وكذلك ما أشبهها»([3])

وهذا أصل أصيل فيه من حميد الإجلال للجلة العلماء، وجميل إحسان الظن بهم، وتحميل أنظارهم على أسعد المحامل وأوفقها؛ فمهما اختلفت المشارب، وتنوعت المسالك، وتعددت الأصول، وتباينت الأنظار فالقصد تنزيه الباري عن النقائص، والتنويه بالكمال المطلق في حقه سبحانه.

 فهذا تحقيق المناط في كل خلف معتبر، وتأصيل النظر في كل مسألة مترددة بين النفي والإثبات من قسم المجتهدات المحتملات، وهو في بابه أصل الأصول، ومفزع المتكلمة والفقهاء، وموئل النظر والاعتبار، وغاية المسالك، ومرتام المجتهد والمشارك، وبه نفهم عباراتهم وإشاراتهم، وعلى أساسه نحاول التوفيق بينهم فيما اختلفوا فيه من المسائل المنثورة المشهورة التي سوف تأتي تباعا في هذه السلسلة إن شاء الله، وعسى أن يكون من أدركه في سائر الفنون قد حاز من بدائع الأنظار والنظار ما به يسبر الأغوار، ويدرك الأسرار، قال الشاطبي: «وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد؛ لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف، جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له..» ([4])

وبعد فهذا نص الشاطبي النفيس الغميس بتمامه  كالملحق لهذا التقديم لمن أرد الاعتبار به وإجالة النظر في فرائده، قال رحمه الله: «محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات.

وبيانه أن نقول: لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا.

فإن لم يأت فيها خطاب، فإما أن يكون على البراءة الأصلية، أو يكون فرضا غير موجود، والبراءة الأصلية فى الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره

 وإن أتى فيها خطاب، فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي، أو في الإثبات، أو لا،

فإن لم يظهر له قصد البتة؛ فهو قسم المتشابهات.

وإن ظهر، فتارة يكون قطعيا، وتارة يكون غير قطعي،

فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي، أو في الإثبات، وليس محلا للاجتهاد، وهو قسم الواضحات؛ لأنه واضح الحكم حقيقة، والخارج عنه مخطئ قطعا.

 وأما غير القطعي فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا، فليس من الواضحات بإطلاق، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه؛ لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك، إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين، وتارة لا يقوى:

 فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات، والمُقدم عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

وإن قوي في إحدى الجهتين فهو قسم المجتهدات، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين:

 فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب

 وأما على قول المخطئة؛ فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح، وإلا فمعذور.

وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات؛ إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات، بل هو إما منفي قطعا، وإما مثبت قطعا، وأن الإضافي إنما صار إضافيا؛ لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين؛ فيقرب عند بعض من أحد الطرفين، وعند بعض من الطرف الآخر، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات، فهو غير مستقر في نفسه؛ فلذلك صار إضافيا؛ لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف.

ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه، فثبوت العلم مع نفيه نقيضان كوقوع التكليف وعدمه وكالوجوب وعدمه، وما أشبه ذلك.

 وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان، كالوجوب مع الندب، أو الإباحة، أو التحريم، وما أشبه ذلك.

وهذا الأصل واضح في نفسه، غير محتاج إلى إثباته بدليل، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله.

فمن ذلك أنه نهي عن بيع الغرر، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة، والطير في الهواء، والسمك في الماء.

وعلى جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع.

 وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين.

وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث.

 وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري.

 فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره؛ لكثرته في الأول، وقلته مع عدم الانفكاك عنه في الثاني.

 فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين، آخذة بشبه من كل واحد منهما، فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة، ومن منع مال إلى الجانب الآخر.

ومن ذلك مسألة زكاة الحلي، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض، وعلى الزكاة في النقدين، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين؛ فلذلك وقع الخلاف فيها.

واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق، وصار المجهول الحال دائرا بينهما؛ فوقع الخلاف فيه.

واتفقوا على أن الحر يَملِك وأن البهيمة لا تملك، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه: هل يملك، أم لا؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين.

واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ، ولا يصلي بتيممه، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادةُ الصلاة، وما بين ذلك دائر بين الطرفين؛ فاختلفوا فيه.

واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة.

 وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع وأقروا بالقبول، فإجماع باتفاق، أو أنكروا ذلك، فغير إجماع باتفاق، فإن سكتوا من غير ظهور إنكار؛ فدائر بين الطرفين؛ فلذلك اختلفوا فيه.

والمبتدع بما يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين؛ فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة، وبما اقتضى كفرا مصرحا به ليس من الأمة؛ فالوسط مختلف فيه: هل هو من الأمة، أم لا؟

وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق، واختلفوا في إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال، أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هي الكمال، وكذلك ما أشبهها.

فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها؛ لأنها دائرة بين طرفين واضحين؛ فحصل الإشكال والتردد، ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء، معتدا به في العقليات أو في النقليات، لا مبنيا على الظن، ولا على القطع  إلا دائرا بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف في الواسطة المترددة بينهما، فاعتبره تجده كذلك إن شاء الله.

فصل: وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد؛ لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف، جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له..» ([5]).

([1]) ينظر لزاما جامع البيان للطبري 10/513 إلى 522 فهو نفيس جدا. (سورة المائدة آية:87)

([2]) ن مفاهيم التفكير الوسطي في مواجهة طرائق التفكير المتطرفة د صلابي ضمن كتاب: الدور العملي لتيار الوسطية في الإصلاح ونهضة الأمة: 133.

([3])  الموافقات:5/120

([4])  الموافقات:5/121

([5])  الموافقات:5/114.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق