مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.


قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

فقد بان لك من تفصيل هذه الجملة أن لا مناسبة أصلا بين الخالق والمخلوق في ذات ولا في صفة ولا في فعل، ولذا عمم النفي في جميع وجوه المثلية عن جميع الأشياء في قوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى، الآية: 11]، فأول الآية تنزيه يرد على المجسمة وأضرابهم، وآخرها إثبات يرد على المعطلة النافين جميع الصفات، وقدم النفي على الإثبات وإن كان الأليق في كثير من المواطن العكس؛ تحرزا من إيهام التشبيه، إذ لو [بدأ] بذكر السمع والبصر تبادر إلى فهمهم ما يألفون في السمع أنه بأذن ومخصوص بالأصوات على وجه خاص، وفي البصر أنه بحدقة وخاص بالأجرام وألوانها وأكوانها على وجه مخصوص، [فبدأ] بالتنزيه لئلا يذهب الوهم إلى التشبيه، فهو احتراس مقدم، والآية تفيد نفي المثل بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وقررت الكناية بأحد طريقين؛ الأول: أن مثل الشيء الذي على أخص أوصافه إذا ثبت له أي لذلك المثل شيء أو انتفى عنه لزم أن يثبت أيضا لذلك الشيء أو ينتفي؛ لأن الفرض أن كلا منهما على أخص أوصاف الآخر بحيث لا يفترقان في ذاتي ولا عرضي أصلا، فلو لم يثبت لأحدهما ما ثبت للآخر أو ينتفي عنه ما انتفى عن الآخر لانتفت المماثلة الأخصية المفروضة، هذا خلف. فإذا قيل للمخاطب مثلك لا يبخل، وأريد بالمثل من على أخص أوصافه لزم من ذلك أنه أيضا لا يبخل، وهذا اللازم هو المقصود، ولذا قال:

مثلك يثني المزن[1] عن صوبــــــه[2]       ويسترد الجفن عن غربه[3]

ولم أقل مثلك أعنـــــــــــي بــه        غيرك يا فردا بلا مشبــه

وعلى هذا فإذا انتفى الشبه بشيء من الأشياء عن مثله الذي يفرض على أخص أوصافه فرض محال فقد انتفى الشبه عنه، وهو المقصود. والثاني؛ أنه قد علم أن المماثلة بين الشيئين نسبة بينهما لا يختص بها أحدهما عن صاحبه، فكلما كان الشيء مماثلا لآخر كان الآخر مثلا له، فإذا قيل في شيء ثابت الوجود: مثل هذا لا مثل له لزم انتفاء ذلك المثل، ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم؛ إذ لو ثبت مثل ذلك الشيء الثابت وجوده لم يثبت ذلك المثل إلا وله مثل، وهو ذلك الثابت الوجود، فثبوت مثل المثل لازم لثبوت المثل، فلما نفى اللازم الذي هو مثل المثل لزم نفي الملزوم الذي هو المثل، وهو المطلوب، وهذا كما يقال ليس لأخي زيد أخ كناية عن نفي الأخ لزيد؛ لأنه إذا ثبت الأخ لزيد لا يثبت إلا وله أي لهذا الأخ أخ وهو زيد، فلما نفى الأخ عنه لزم انتفائه، وكلا الوجهين اللزوم فيه عقلي خلافا لمن لم يذق الأول حق ذوقه، فقال إن اللزوم فيه غير عقلي، ودعوَى أن الكاف زائدة [ضعيفة]، وكذا تفسير مثل بذات أو صفة، والآية من باب اتصال انتهاء مؤيس بابتداء مطمع؛ لأن المشركين إذا سمعوا دخول الكاف على مثله طمعوا في تأييد زعمهم الشريك، فإذا سمعوا تسلط النفي على أنكر النكرات وهو شيء انقلبوا صفر الأكف خائبين؛ لعلمهم أن ذلك يوجب انتفاء المثل على أبلغ وجه، ومن هنا تظهر نكتة تأخير اسم ليس، وفي قوله: (وهو السميع البصير) تعريض بهم في عبادتهم ما لا يسمع ولا يبصر، ودلالة على حمقهم وسفههم في ذلك، وفي الآية دلالة على عجز العقول عن إدراكه؛ لأن ما تدركه وتصل إليه فهو شيء فيها، وليس كمثله شيء، ولذلك يقولون كل ما يخطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك، وقال بعضهم[4]:

كل ما ترتقي إليه بوهم            من جلال ورفعة وسنــاء

فالذي أبدع البرية أعلى           منه سبحانه مبدع الأشياء

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص: 53-54. 

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين) 

مطبعة التوفيق الأدبية

الهوامش: 

 


[1] – المزن: السحاب.

[2] – الصوب: الجهة.

[3] – الغرب: النوم. ومعنى البيت: مثلك يرد السحاب عن إنزال المطر في جهة لأنها لما وجدت كرم هذا الممدوح أكثر من مطرها استحيت منه أن تمطر في جهته، ومثلك يرد النوم للخائف الذي ذهب نومه من أجل الخوف.

[4] – هذان البيتان منسوبان للإمام الشافعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق