وحدة الإحياءدراسات عامة

فن الموازنة عند المحدثين: المقاصد، الأسماء، الحجية

 1. مقاصد هذا الفن

 نجمل مقاصد هذا الفن في ثلاثة:

المقصد الأول؛ معرفة حال الرجل وعينه في نفسه: والرجل المقصود، هنا، هو راوي الخبر المتصل بالدين، وإليه أشار محمد بن سيرين بقوله: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”[1]، فالدين خبر، والخبر محصله الرواية، والرواية عمدتها الرجال، والرجال فيهم الصادق وفيهم من هو دون ذلك، لذلك نهوا عن قبول خبر الضعيف، وحكموا بالحرمة على رواية الوضاع، وفي مقابل ذلك أمروا بقبول رواية العدل الثقة، ولتخليص هذا من ذاك حثوا على معرفة حال الرجل وعينه، لأن معرفة الحال والعين هي مقدمة للحكم على الرواية إما بالقبول أو بالرد.

المقصد الثاني؛ هو مقصد متمم للسابق، فبعد أن يخرج الرجل عن حد الجهالة يكون حاله قد تبين واتضح حيث يسهل معرفة موقعه بين الرواة، فالعلم هو الثمرة التي يرجوها الإنسان الصالح في الدنيا، ولاسيما معرفة العلوم الشرعية، والتنافس في اكتسابه أمر مطلوب، والتحاسد لأجله أمر مرغوب فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها”[2].

ولما كانت المنافسة تتم بجهد لكسب العلم، كانت مقادير هذا الجهد تتفاوت من راوٍ لآخر، وتبعاً لذلك تفاوت الرواة بمقتضى هذه المقادير، قال الدارمي ليحيى بن معين وهو يسأله عن أبي عمرو الأوزاعي: “قلت له: أين يقع من يونس؟ فقال: يونس أسند عن الزهري، والأوزاعي ثقة، ما أقل ما روى الأوزاعي عن الزهري”[3].

وروى إسحق بن منصور الكوسجن عن يحيى بن معين أنه سئل عن ابن جريج “أين يقع من قيس بن سعد وعبد الله بن أبي سليمان؟ فقال: هو أثبت منهما”[4].

إن معرفة موقع الراوي بين الرواة هو أساس هذا العلم كله، فبه استطاع العلماء ضبط هذا العلم وتشييد أركانه وإرساء بنيانه، وهو ما سنبينه في المقصد الثالث.

المقصد الثالث: وهو خلاصة المقصدين السابقين، فبعد أن تعرف عين الراوي وحاله معرفة أولية، وبعد أن يعرف موقعه بين الرواة يكون حاله قد تبين تبيناً كاملاً، والحال هو معرفة الصفة التي هو عليها من جهة الجرح والتعديل، وبمقتضى هذا كله يتم الحكم عليه بلفظ معين، كل لفظة هي رتبة في بيان الحال، فمن أطلقوا عليه لفظ (ثقة) أو (ثبت) أو (حجة) فهو في مرتبة جيدة من جهة العدالة لن يتزعزع منها أبداً، ومن وصفوه بـ(لا بأس به) أو (صالح) أو (ضعيف) أو (كذاب)… فهو في رتبته إلى أن تقوم الساعة، وكل لفظة من هذه الألفاظ لها رتبتها، وهذا العلم يسمونه بـ(مراتب الرواة) أو (منازل الرواة) أو (درجات الرواة)، وإليه أشار الإمام مسلم بن الحجاج في ديباجة الصحيح فقال: “وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية[5]، ليكون تمثيلهم سمةً يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه، فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته، وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نُنَزِّلَ الناس منازلهم” [6] مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى: “وفوق كل ذي علم عليم[7] (يوسف: 76).

والقَيِّم على فعل هذا هو الناقد الجهبذ، العارف بالرجال، والعالم بمقادير التفاوت والاختلاف والتباين، فقد علق الحافظ السخاوي على من وهب نفسه لهذا الفن؟ فقال: “ومن هنا يشرط أن يكون عارفاً بمقادير الناس وبأحوالهم وبمنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع، ليكون ممثلاً لقوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث السابق”.[8]

وقد سار العلماء على هذا النهج فميزوا بين الرواة، فرجحوا، وبحثوا عن مواقعهم بين الشيوخ والأقران، وحققوا بهذا الفن المقاصد الثلاثة السابقة، فبه عرفوا أحوال الرجال، وبمقتضاه فاضلوا وخيروا، فقدموا من قدموا، وأخروا من أخروا، وبواسطته ضبطوا المراتب وحددوا المنازل وعرفوا بالدرجات.

2. أسماؤه عند أهل العلم 

قلت فيما مضى إن علماء السلف تكلموا في الموازنة بين الرواة، وكان جل كلامهم إجابة للسائلين عليه،أولئك الذين جمعوا ذلك وصانوه، وجاء كثيره متفرقاً في كتب الرجال، ومن عاد إلى هذه الأصول سيجدهم سموه بأسماء مختلفة، من ذلك أنهم أطلقوا عليه اسم:(التخيير)، و(التفضيل) و(التمييز) و(التقديم) و(الترجيح) و(الموازنة)، وهذه كلها أوصاف لا تغير من حقيقة هذا الفن شيئاً، فالفن واحد وإن نعتوه بهذه الأسامي؛ وسنبين وجه كل تسمية على حدة وصلتها به.

أولاً: التخيير

التخيير من الخير، والخير أصله العطف والميل ثم يحمل عليه، وهو خلاف الشر، ولما كان كذلك كانت النفوس تميل بطبيعتها إليه لأنها مفطورة عليه من الأس، ثم يُصَرَّفُ الكلام فيقال: رجلٌ خير، وامرأة خيرة، أي فاضلة، وللبحث عن الفاضل يقتضي الأمر المخايرة بين الناس لأجل تخيير الفاضل منهم، لذلك يقال: خايرت فلاناً فَخِرْتُه[9]، قال تعالى: “واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا” (الأعراف: 155)، ويقول: “وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة” (القصص: 68).

ومما يمكن أن يرتب عما سبق أن التخيير هو تفويض الأمر بالاختيار[10]، وذلك وفق حرية الإرادة التي فطر عليها الإنسان، ولن يتم الاختيار إلا بعد بسط عناصره للانتقاء منها، يقول تعالى: “وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون” (الواقعة: 20).

ولهذا فإن أهل هذا الفن إنما يضعون الباحث الغيور على سنته، الذاب على شريعة ربه أن يختار راويا من الرواة، ولا يكون هذا الاختيار إلا وفق إرادة علمية دقيقة وهي انتقاؤه للرجل من طبقته، ومن المجموع الذي شاكله في صفته وإلا لما كان للاختيار ذوق إذا بسط الاختيار في راوٍ من رواة الحديث وراوٍ من رواة الأخبار الأدبية والتاريخية والقصصية.

إن الغرض من الاختيار الأول هو تقديم الراوي على اعتبار خصائص علمية معينة، أصبحت معلومة ومعروفة عند ذوي الصنعة، أولئك الذين طالت تجربتهم، وتوسعت مدارك علمهم ومعرفتهم، غير أنه في بعض الأحيان لا يرى النقاد داع للتغيير، وذلك لسببين:

الأول؛ أن يكون الراوي كذاباً معلوم الكذب من ذلك قول زيد بن أبي أنيسة في أخيه: “أخي يحيى يكذب، فلا تخيروا به أحداً”[11].

الثاني؛ أن يتساوى الرواة في خصلة من الخصال المحمودة، بحيث يتعذر التخيير على الناقد، قال عثمان بن سعيد الدارمي ليحيى بن معين: “قلت: فعلقمة أحب إليك عن عبد الله أو عبيدة؟ فلم يخير‍”[12].

وعلقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، مات بعد الستين، وقيل بعد السبعين[13].

وعبيدة هو ابن عمرو السلماني، أبو عمرو الكوفي، مات سنة اثنتين وسبعين[14] وهما من تلامذة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومن الرواة عنه، ثقتان، حجتان لا يدفعان عن صدق.

وقال الدارمي: “وسألت يحيى قلت: مسروق أحب إليك عن عائشة أو عروة؟ فلم يخير”[15].

ومسروق هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، كنيته أبو عائشة، مات سنة ثلاث وستين للهجرة[16].

وعروة ابن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، مات سنة أربع وتسعين من المائة الهجرية الأولى[17].

وهما من الرواة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

ثانيا: التفضيل 

هو من المفاضلة، يقال فاضل بين شيئين: وازن بينهما ليحكم بفضل أحدهما على الآخر[18].

والفضل هو الزيادة والخير، وكل رجل فُضِّل ففيه زيادة خير على من فُضِّل عليهم[19].

وهذا ما أجراه أهل النقد على رواة العلم، فقد فاضلوا بين الرواة، وفضلوا بعضهم على بعض على اعتبار خصائص معينة هي من عين الفضيلة في العلم، والفضيلة هي المزية، وهي الدرجة الرفيعة في الفضل، والله فضل الناس بعضهم على بعض، وترك للعقل مهمة إدراك هذه التفاوتات والاختلافات الجارية على الناس مجرى الفطرة: “ويوت كل ذي فضل فضله” (هود: 3)، وقال تعالى: “وأن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء” (الحديد: 27).

واستعمل النقاد هذا الأسلوب في الحكم على الرواة، قال الدارمي ليحيى بن معين: “فمالك أحب إليك عن نافع أو عبيد الله فقال: كلاهما”،.فقال الدارمي: “ولم يفضل”[20].

ومالك هو إمام دار الهجرة، ابن أنس، وعبيد الله هو ابن الأخنس النخعي الكوفي، توفي بعد المائة، ولم يفاضل يحيى بينهما لتساويهما عنده في الرواية والضبط عن نافع مولى ابن عمر.

وقال الدارمي: “قلت: فنافع أو عبد الله بن دينار؟ فقال: ثقات”، فقال الدارمي: “ولم يفضل”[21]. ويعني بذلك أن نافع مولى ابن عمر وعبد الله بن دينار تساويا عنده فلم ير داعياً للتفضيل.

وإلى هذا الوصف أشار الإمام مسلم، في مقدمة الصحيح فقال: “فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين فغيرهم من أقرانهم ممن عنهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة، لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سِنِيَّة”[22].

ثالثا: التمييز

التمييز من الميز، والميز يدل على تزيل شيئ من شيئ وتزييله، وميزته تمييزاً ومزته ميزاً، وامتازوا: تمييز بعضهم من بعض، وانماز الشيئ: انفصل عن الشيء[23]، وفي التنزيل: “حتى يميز الخبيث من الطيب” (آل عمران: 179) وتميز قوم عن قوم: انفصلا عنهم وصاروا في ناحية، وفي التنزيل أيضا: “وامتازوا اليوم أيها المجرمون” (يس: 58)، والتميز: المبالغة في التمييز، في ذلك يقول تعالى: “تكاد تميز من الغيظ” (الملك: 8).

والتمييز لا يكون إلا لذوي الحاسة النقدية التي تدرك الفصل بين المتشابهات، والخاصيات المؤتلفة، ولذلك عرفوه بأنه قوة نفسية تستنبط بها المعاني[24]، وكذلك الأمر في هذا الفن، فهو على المعاني السابقة يتنزل، فتمييز الناقد بين الرواة هو لغرض تَزَيُّلِ الواحد عنهم لغرض تقديمه عليهم، وإذا لم تظهر دواعيه لا يكون؛ قال محمد بن هارون الفلاس المخرمي: سألت يحيى بن معين عن عبيد الله القواريري ومسدد فقال: ما منهم إلا صدوق: قلت: ميز بينهما قال: لا أميز[25].

وعبيد الله القواريري هو ابن عمر بن ميسرة، كنيته أبو سعيد، توفي سنة خمسين وثلاثين ومائتين.

ومسدد هو ابن مسرهد بن مسربل بن مغربل الأسدي، كنيته أبو الحسن، توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين.

وهما ثقتان، حافظان، بصريان، من شيوخ البخاري وأبي حاتم الرازي وطبقتهما.

رابعاً: التقديم 

التقديم أصله من قاف ودال وميم، وهو أصل صحيح يدل على سبق ورعف، وما قاربه هو مفرع منه[26] وإذا قالوا: قدم الرَّجلَ فمعناه سبقه على غيره وجعله قداما ضد أخره، وثمرة هذا العلم إنما تقوم على تقديم الراوي ليكون قيدوما في الرواية، والقيدوم: الأول من الجماعة[27]، ومن الصناعة ماحدث به عثمان بن سعيد الدارمي فقال: سمعت أحمد بن صالح يقول: “نحن لا نقدم في الزهري على يونس أحداً”[28]، ويونس المُقَدَّم هو ابن يزيد ابن أبي النجاد الأيلي كانت وفاته سنة تسع وخمسين ومائة[29].

خامساً: الترجيح

الترجيح لغة من رجح، وهي مادة من ثلاثة أحرف ذات أصل واحد، تدل على الرزانة والزيادة، يقال: رجح الشيئ وهو راجح إذاً رزن، وهو من الرجحان، يقال: أرجحت: إذا أعطيت راجحا، والقوم إذا رجحوا فهم مراجيح، والواحد مرجاح[30].

وينبني الترجيح على الوزن، فمن وجوه رجح (ثقل)، وهو أن يميل بالوزن، مثلما تترجح إحدى الكفتين الأخرى[31].

وخاصية هذا الفن إنما تقوم على الترجيح بين الرواة، فهو ميزان لابد فيه من الترجيح، لذلك قالوا: “زن وأرجح، واعط راجحا”[32] قال أبو حاتم الرازي: “بدل بن المحبر صدوق، أرجح من أمية بن خالد وبهز بن أسد وحبان بن هلال وعفان”[33] يعني ابن مسلم الصفار.

سادساً: الموازنة

الموازنة من وزن: وهي بناء تدل على تعديل واستقامة، وذلك حين تزن الشيئ وزناً، وهذا يوازن ذلك: هو محاذيه[34] ومنه الموازنة بين شيئين: وهو النظر فيهما أيهما أوزن[35]، والموازنة بين الرواة هي وضعهم في ميزان الجرح والتعديل وتقديرهم به لغرض الحكم عليهم بحكم معين.

والظاهر من هذه الأوصاف أنها كلها تؤول إلى معنى واحد.وإلى الموازنة كان يشير الإمام مسلم في مقدمة صحيحه فيقول، “ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم: عطاء ويزيد وليثا بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم، لا يدانونهم، لاشك عند أهل العلم بالحديث في ذلك، للذي استقاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسماعيل، وإتقانهم لحديثهم وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث”[36].

ثم يقول: “وفي مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون وأيوب السختياني مع عوف ابن أبي جميلة وأشعت الحمراني وهما صاحبا الحسن وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما، إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعت غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم”[37].

هكذا أشار الإمام مسلم إلى هذا الفن بإشارة واضحة وبعبارة صريحة، فقد بين عناصره وأسلوبه والفائدة منه، ومن يقوم به.

3. الحجية

حجية هذا العلم ثابثة بمعيارين: أولهما شرعي والثاني علمي.

أولا: المعيار الشرعي

الموازنة ثابثة بنص القرآن الكريم ونص السنة النبوية الصحيحة.

فمن القرآن قوله تعالى: “هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر: 10)، وقوله تعالى: “قل هل يستوي الاَعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور” (الرعد: 17)، وقوله تعالى: “أفمن كان مومناً كمن كان فاسقاً لا يستوون” (السجدة: 18)، وقوله تعالى: “قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو اَعجبك كثرة الخبيث” (المائدة: 102)، وقوله تعالى: “وما يستوي الاَحياء ولا الاَموات إن الله يسمع من يشاء” (فاطر: 22)، وقوله تعالى: “لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة” (الحشر: 20): وقوله تعالى: “لا يستوي منكم من اَنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير” (الحديد: 10) وقوله أيضاً: “ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله” (فاطر: 32).

 ونجد في مطلع سورة البقرة موازنة بين المؤمنين والكافرين، كما نجد في وسطها موازنة بين التوابين الذين تابوا وأصلحوا وبينوا وبين الذين كفروا وماتوا وهم كفار.

ونجد في سورة (الكافرون) موازنة هائلة بين عباده المؤمنين وعباده الكافرين.

وفي سورة (البروج) موازنة بين الذين فتنوا المومنين والمومنات ولم يتوبوا والذين ءامنوا وعملوا الصالحات.

وفي سورة (الانفطار) موازنة بين بين الأبرار والفجار، وفي (المطففين) موازنة بين من أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه وراء ظهره.

 وفي (عبس) موازنة بين الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة والوجوه التي عليها غبرة ترهقها قترة.

وفي (النازعات) موازنة بين من طغى وآثر الحياة الدنيا ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

وفي (النبإ) موازنة بين جهنم وصورتها للطاغين، والجنة وصورتها للمتقين.

وفي سورة (الانسان) موازنة بين جزاء الكافرين في جهنم وجزاء الأبرار في الجنة.

وفي سورة (المدثر) موازنة بين أصحاب اليمين والمجرمين،

وفي (الشمس) موازنة بين من أفلح في تزكية النفس وحلاها بالخصال المحمودة، ومن دسها في الذنوب والمعاصي.

وفي (اليل) بين من أعطى واتقى وصدق بالحسنى وبين من بخل واستغنى وكذب بالحسنى.

وفي (البينة) موازنة بين الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

وفي (القارعة) بين من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه.

وهكذا ففي القرآن موازنات كثيرة شملت صوراً كثيرة لأصناف شتى من المنافقين والكذابين والمجرمين والكفار، تضمنت التشبيه والمماثلة والترجيح والتقديم والاختيار، وهذه الموازنات تحتاج كلها لو جمعت إلى دراسة مستقلة.

أما في السنة النبوية فقد ثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، هو أول من سن الإشارة إلى هذا المنهج، فوازن بين الأصحاب، وميز بينهم، وعين مراتبهم بحسب الخصال التي تميزوا بها على بعضهم.

وثبت عنه، صلى الله عنه وسلم، أنه قدم أصحابه في حفظ القرآن، ورتبهم بحسب القراءة، أخرج البخاري بسنده إلى مسروق قال: ذُكر عبد الله عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه بعدما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: “استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود فبدأ به، وسالم مولى أبي حذيفة، فبدأ به، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، قال: لا أدري: بدأ بأبي أو بمعاذ”[38].

وكذلك عمل علماء الصحابة، فقد وازنوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فخيروا بحضرته وفاضلوا ولم ينكر عليهم، أخرج البخاري بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: “كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم”[39].

واستمر هذا التخيير بعد قبضه، صلى الله عليه وسلم، حتى أصبح عقيدة راسخة في نفوس الصحابة، قال محمد بن الحنفية: “قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين”[40].

واستمر هذا المنهج سارياً عند التابعين ومن تبعهم، فقد روى أبو حاتم الرازي بسنده إلى مسروق بن الأجدع (163ﻫ) أنه قال: “شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: إلى علي وعمر وعبد الله ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت”[41].

هكذا على هذا النحو من الترتيب.

ثانيا: المعيار العلمي

 السنة ركن في التشريع بعد القرآن، وهي مصدر من مصادر الأحكام الشرعية، لذلك فخدمتها عند أهل العلم واجبة، وميزة علم الموازنة أنه يبحث في أسس السنة ليخلص الصحيح من غير الصحيح، فهو من هذا الوجه واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لذلك أولاه علماء السنة عناية بالغة، وحقيقته أنه كلام في الرواة ليس إلا، والكلام في الرواة ليس غيبة لأنه يجري على جنس الديانة، بل لأجلها وجد، وللحفاظ عليها تكَوَّنَ، ولولا الضرورة الشرعية لما كان له قيام بين علوم الشريعة، أخرج الحافظ الخطيب في الكفاية بسنده إلى محمد بن الفضل العباسي قال: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ علينا كتاب الجرح والتعديل، فدخل عليه يوسف بن الحسين الرازي فقال له: يا أبا محمد ما هذا الذي تقرؤه على الناس، قال: كتاب صنفته في الجرح والتعديل. قال: وما الجرح والتعديل؟ قال: أظهر أحوال أهل العلم، من كان منهم ثقة أو غير ثقة، فقال له يوسف بن الحسين: استحييت لك يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة ومائتي سنة، وأنت تذكرهم وتغتابهم على أديم الأرض، فبكى عبد الرحمن وقال: يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب لما صنفته.

 وعلق الخطيب على هذه الواقعة فقال: “قلت: وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ يعني أبا يعقوب وأبا محمد، لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقاً في رواته مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وردت مصرحة بتصديق ما ذكرنا، وبضد قول من خالفنا”[42].

 ثم علق على قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في أبي جهل ومعاوية بن أبي سفيان: “أما أبو جهل فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له”، فقال: “وفي هذا الخبر دلالة على أن إجازة الجرح للضعفاء من جهة النصيحة لنجتنب الرواية عنهم، وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما ذكر في أبي جهل أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك لا مال له عند مشورة استشير فيها لا تتعدى المستشير، كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن التي يؤدي السكوت عن إظهارها منهم وكشفها عليهم إلا تحريم الحلال وتحليل الحرام، وإلى الفساد في شريعة الإسلام أولى بالجواز وأحق بالإظهار”[43].

وانطلقت مسيرة النظر في الرجال على هذا المعيار من الحجية الثابتة، تستعمل فيها قواعد العلم وضوابطه، ووسائله ومناهجه، فوثقوا وجرحوا، ووازنوا بينهم على اعتبار خصائص وخصال وصفات معينة، فقدموا وأخروا، وماثلوا وشابهوا، وقاربوا ورجحوا، وكل من تكلم في هذا الشأن لغرض الدين نفذ كلامه، وقبل رأيه، وذاع صيته حتى ولو كان مخطئاً، فكيف وهو يتحرى الصواب، ويخدم الواجب، قال أبو رزعة الرازي: “كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه، كل من كان بينه وبين إنسان حقد أقرب لا يجوز أن يذكره، كان الثوري ومالك يتكلمون في الشيوخ على الدين فنفذ قولهم، ومن لم يتكلم فيهم على غير الديانة يرجح الأمر عليه”[44].

خلاصة

هذا باختصار بحث لثلاثة عناصر في فن الموازنة، بسطنا في العنصر الأول المقاصد، وحددناها في ثلاثة، وأوضحنا في العنصر الثاني أسماءه عند أهل العلم، ولا مشاحة في الألفاظ فالأسماء الستة إنما تشير إلى معنى واحد، والعنصر الثالث كشفنا فيه عن الحجية وذلك بموجب معيارين الأول شرعي والثاني علمي والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الهوامش


1. أخرجه مسلم بن الحجاج في مقدمة الصحيح 1/14. باب بيان أن الإسناد من الدين.

2. أخرجه البخاري في جامعه الصحيح، انظر فتح الباري، 1/165 رقم الحديث 73 -كتاب العلم، وانظر الفتح، 3/276 رقم الحديث: 1409 كتاب الزكاة.

3. تاريخ يحيى برواية عثمان بن سعيد الدارمي، ص45 فقرة رقم: 23.

4. النص في كتاب الجرح والتعديل، 5/357.

5. يعني موازنته عطاء ويزيد وليث بن منصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه.

وموازنته أيوب السختياني وابن عون مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني، في كمال الفضل وصحة النقل. انظر مقدمة الصحيح، 1/6.

6. كذا أورده مسلم بصيغة التعليق، وهو صحيح، نقل الحافظ ابن الصلاح تصحيحه وصححه، انظر (صيانة صحيح مسلم) ص84، وانظر تعليق: الحافظ النووي، عليه في شرحه لمسلم، 1/19.

7. مقدمة صحيح مسلم، 1/6.

8. الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، ص127,

9. مقاييس اللغة،2 / 232، دار الفكر، ط.1979.

10. المعجم الوسيط، مجموعة من الباحثين، 1/264.

11. الجرح والتعديل، 9/130 رقم: 550.

12. تاريخ يحيى برواية الدارمي ص149 فقرة 513.

13. التقريب 2/31 رقم: 286.

14. المصدر السابق 1/547 رقم 1598.

15. تاريخ يحيى، برواية الدارمي، ص203 رقم: 748.

16. التقريب، 2/242 رقم:1055.

17. المصدر السابق، 2/19 رقم 157.

18. المعجم الوسيط، ص693.

19. مقاييس اللغة، 4/508.

20. تاريخ يحيى، برواية الدارمي، ص152 رقم: 525.

21. المصدر السابق، ص151 رقم: 522 وجرى هذا الوصف في تراجم كثيرة من تاريخ يحيى، انظر ص203 رقم: 750، وص:117 رقم: 357.

22. صحيح مسلم، المقدمة،1/6.

23. انظر مقاييس اللغة، 5/289.

24. المعجم الوسيط،1/720- المنجد، ص756.

25. الجرح والتعديل، 5/327 رقم: 1547.

26. مقاييس اللغة،5/65.

27. لسان العرب، 5/3553 مادة قدم.

28. تاريخ يحيى، برواية الدارمي، ص46 رقم 24.

29. التقريب 2/386 رقم: 496.

30. مقاييس اللغة، 2/489.

31. المعجم الوسيط،1/329 مادة رجح.

32. لسان العرب، 3/1586.

33. الجرح والتعديل، 2/439 رقم 1748.

34. مقاييس اللغة، 5/107.

35. المعجم الوسيط، 2/1029.

36. مقدمة صحيح مسلم، 1/6.

37. المصدر السابق.

38. صحيح البخاري في فتح الباري، كتاب فضائل الصحابة،7/101 حديث رقم: 3758.

39. المصدر السابق، 7/16 رقم: 3655، وانظر: 7/53-54 رقم:3697.

40. المصدر السابق، 7/20 رقم: 3671.

41. الجرح والتعديل، 6/26-27.

42. الكفاية في علم الرواية، ص55.

43. المصدر السابق، ص57.

44. الضعفاء والكذابين والمتروكين من أصحاب الحديث، ورقة 3.

Science

د. محمد خروبات

أستاذ التعليم العالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية/مراكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق