وحدة الإحياءدراسات عامة

في الفكر اليهودي والكتب المقدسة لدى اليهود (الجزء الأول(

النص المسيحي.. قراءة في صحة النسبة بين دلالة الخطاب وسلطة الكنيسة (الجزء الثاني)

 في سياق الحوار القائم بين الأديان السماوية على اعتبار أنها ذات رسالة واحدة، ومن مشكاة واحدة، تغيب جملة من الحقائق الدينية، والمعطيات التاريخية التي تميز هذه الرسالة عن تلك، أو هذا الدين عن ذلك، وكأنها من حيث الورود أو الثبوت والدلالة شيء واحد لا فرق، هذا رغم تنصيص القرآن الكريم على ما يميز رسالة الإسلام عن باقي الرسالات، أودين الإسلام عن باقي الأديان، تنصيصه على أن تلك الرسالات والأديان قد طالها من التحريف والتبديل وذهاب أصولها ما يؤكد على أن أهلها لم يكونوا أمناء فيما استحفظوا عليه من الوحي، وأن رسالة الإسلام التي تكفل الباري سبحانه بحفظها ما تزال كما جاءت بيضاء نقية، مهيمنة ومصدقة وخاتمة، ولسنا نقارن الآن بين الإسلام والأديان الأخرى ولكننا نود أن نقف على بعض من واقع الكتب المقدسة الذي يغفل في سياق هذه الحوارات وكأنه شيء ثانوي، إذ يسكت عن تجسيم اليهودي وتثليث النصراني وتحريف الكتاب وخاتمية الإسلام… ثم يهتم بما هو “مشترك” بين الأديان! وليس معنى هذا توقيفنا للحوار، ولكنه دعوة إلى استصحاب حقيقة تلك الكتب ورسالة القرآن أثناء الحوار، ولهذا سنتحدث في هذا الجزء عن الكتب المقدسة لدى اليهود في سياق تاريخي للفكر اليهودي عموما، على أن نعقب ذلك بحديث عن المسيحية والأناجيل المقدسة في نفس السياق.

المبحث الأول: التوراة والأسفار المقدسة

العهد القديم هو التسمية العلمية لأسفار اليهود، وهو مقدس لديهم ولدى المسيحيين، وليست التوراة إلا جزءا من العهد القديم، وقد تطلق على الجميع من باب إطلاق الجزء على الكل أو لأهمية التوراة ونسبتها إلى موسى عليه السلام[1]. وإذا اجتمع اليهود والمسيحيون على تقديس العهد القديم فإننا نجدهم يختلفون في تحديد أسفاره كما يختلف اليهود بينهم في ذلك، والمسيحيون كذلك. فالنسخة الكاثوليكية تزيد سبعة أسفار عن النسخة البروتستانتية.

 وتقسم أسفار العهد القديم ثلاثة أسفار (كما يعترف بها البروتستانت[2]).

القسم الأول: التوراة ويشمل أسفارا خمسة

أ. التكوين (الخلق): يشمل قصة خلق العالم والإنسان وخطيئة آدم…

ب. الخروج: خروج بني إسرائيل من مصر…

ج. اللاويين (الأحبار): تشريعات وأحكام…

د. العدد: يسمى بذلك لأنه حافل بالعد والتقسيم لأسباط بني إسرائيل وترتيب منازلهم…

ﻫ. التثنية: معناه الإعادة والتكرار لتثبيت التشريعات والتعاليم.

القسم الثاني: أسفار الأنبياء وهي نوعان

أ. الأنبياء المتقدمون: يشوع (يوشح بن نون)، القضاة صموئيل الأول والثاني، الملوك الأول والثاني.

ب. الأنبياء المتأخرون: أشعيا أرميا، حزقيال، هوشح يونان (يونس) ناحوم حبقوق زكريا…

القسم الثالث: أسفار الكتابات، يتشعب إلى ثلاثة أنواع

أ. الكتب العظيمة: المزامير (الزبور)، الأمثال (أمثال سليمان) أيوب…

ب. المجلات الخمس: نشيد الأناشيد، راعوت، المراثي، الجامعة، أستير.

ج. الكتب: دانيال، عزرا، نحميا، أخبار الأيام الأول والثاني..

أما الكنيسة الكاثوليكية فتضيف سبعة أسفار أخرى:[3].

ـ سفرطوبيا: أسطورة مفادها أن رجلا اسمه طوبيا أرسل إليه الرب أن يزوج ابنه من سارا، وأنه سيقضي على العفريت الذي كان يقتل كل من كان يتقدم إليهما…

ـ سفر يهوديت: اسم امرأة جميلة اتصلت بقائد نبوخذ نصر، ففتنته ثم قتلته، ونجت قومها منه…[4].

ـ الحكمة: ينسب إلى سليمان وهو ليس له…

ـ يسوع بن سيراخ: رجل يهودي من أورشليم كثير التجول والترحال، تنسب له أمثال كتلك التي تنسب لسليمان.

ـ باروخ: تلميذ أرميا، وسفره أشتات من الأفكار وليست به وحدة متناسقة. المكابين الأول والثاني. وأضاف رحمة الله الهندي (كتاب الكليزياستيكس).

وإذا اعترف الإسلام بالتوراة دون غيرها من الأسفار كسفر يشوع والقضاة والملوك، كما أن معظم الأنبياء السالف ذكرهم أنبياء في نظر اليهود ولم يتعرض القرآن لهم ولا لكتبهم بأي ذكر. فإنه قد أخبر بما طرأ على هذه التوراة من تحريفات، جعلها بعضهم على أربعة أنواع حسب تصريح الآيات بذلك: “قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا” (الأنعام: 91). “فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ” (المائدة: 13). “أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (البقرة: 75). “وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 42).

“فالتوراة طرأ عليها بحكم القرآن أصول أربعة: (تحريف وتبديل) (نسيان غير مقصود) (إهمال وإخفاء) (لبس الحق بالباطل)، وهي الأسباب الداعية إلى عدم إقرار توراة اليهود الحالية عقيدة وشريعة”[5].

أما التوراة المنزلة على موسى، عليه السلام، فلا وجود لها. ويقرر التاريخ[6] أن موسى كتب نسخة التوراة ووضعها مع اللوحين في التابوت، وجاء عهد سليمان، وفتح التابوت بعد أن وضع في الهيكل، فلم توجد به نسخة التوراة، وإنما وجد اللوحان الحجريان فقط… وحدثت بعد ذلك وقبله أحداث ردة وعبادة الأوثان والفسق والفجور… وتعرض بيت المقدس للسلب والنهب والتدمير، وقبيل سقوط مملكة يهودا، آل الملك إلى (يوشيا) (629-598 ق م)، ومال هذا إلى العودة إلى الإيمان والتوراة سعيا إلى إنقاذ مملكته من الدمار وكان يعاصره كاهن اسمه (حلقيا)، انتهز فرصة هذا الميل وادعى بعد سبعة عشر عاما[7] من الحكم (يوشيا) أنه وجد نسخة التوراة في بيت المقدس ولم يقبل الباحثون ادعاء (حلقيا)، إذ لا يعقل أن توجد نسخة التوراة في بيت المقدس ولا يراها أحد قبل (يوشيا)… وإنما انتهز (حلقيا) فرصة ميل (يوشيا) إلى العمل بالتوراة، فكتب خلال هذه الأعوام السبعة عشر ما أسماه أسفار التوراة، وليس ذلك في الحقيقة إلا من مخترعاته ومما سمعه من أفواه الناس.

والأسفار المنسوبة إلى موسى الآن لا يوجد من قريب ولا من بعيد ما يفيد أن موسى هو الذي جاء بها أو أنزلت عليه، بل عكس ذلك، يوجد ما يقرر خطأ نسبة هذه الأسفار إلى موسى: خذ مثلا ما جاء في سفر التثنية: “فمات موسى عبد الرب في أرض مؤاب ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم”. فليس معقولا أن يقوم موسى من قبره ليكتب ذلك عن نفسه، وكذلك: “لم يعد بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى” وهذه العبارة كتبت بعد موته بزمن ليس بالقصير. أما الأسفار الأخرى فمنسوبة مثل أسفار موسى لغير مؤلفيها وهو أمر يؤكده كتاب الغرب كذلك. يقول رحمة الله الهندي: “وإذا عرفت حال التوراة الذي هو أس الملة الإسرائيلية، فاسمع حال كتاب يوشح الذي هو في المنزلة الثانية من التوراة فأقول: لم يظهر لهم إلى الآن بالجزم اسم مصنفه ولا زمان تصنيفه”[8]، ويرى البعض أن سفر يشوع كتبه أرميا، وبين يشوع وأرميا أكثر من ثمانية قرون، ويرى آخرون أنه تصنيف فنيحاص وسفر القضاة ينسبه إلى حزقيال وآخرون إلى عزرا وآخرون إلى فنيحاص وبين عزرا وفنيحاص أكثر من تسعة قرون.

يقول المؤرخ ول ديورانت[9] جوابا على تساؤل يطرحه: كيف كتبت هذه الأسفار ومتى كتبت وأين كتبت-وأنقل كلامه. هنا بنصه لأنه يغنينا عن كثير من الكلام-: “إن العلماء مجموعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هما القصتان المتشابهتان، المنفصلة كلتاهما عن الأخرى في سفر التكوين، تتحدث إحداهما عن الخالق باسم (يهوه) على حين تتحدث عنه الأخرى باسم (الوهيم)، ويعتقد هؤلاء العلماء أن القصص الخاصة بيهوه كتبت في يهودا، وأن القصص الخاصة بالوهيم كتبت في افرايم، وأن هذه وتلك قد امتزجتا في قصة واحدة بعد سقوط السامرة، وفي هذه الشرائح عنصر ثالث يعرف بالتثنية أكبر الظن أن كاتبه أو كتابه غير كتاب الأسفار السالفة الذكر، وثمة عصر رابع يتألف من فصول أضافها الكهنة فيما بعد، والرأي الغالب أن هذه الفصول تكون الجزء الأكبر من (سفر الشريعة) الذي أذاعه عزرا، ويبدو أن هذه الأجزاء الأربعة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام (300 ق م)…”ويضيف ديورانت قائلا: “وكانت أساطير الجزيرة هي المعين الغزير الذي أخذت منه قصص الخلق والغواية والطوفان التي يرجع عهدها في تلك البلاد إلى ( 3000 سنة) أو نحوها (ق. م)، ولعل اليهود قد أخذوا بعضا من الأدب البابلي في أثناء أسرهم، ولكن أرجح من هذا أنهم أخذوا قبل ذلك العهد بزمن طويل من مصادر سامية وسومرية منتشرة في جميع بلاد الشرق الأدنى…” ويذهب كثير من الباحثين إلى أن أسفار العهد القديم جمعت لأول مرة في بابل يؤكد ويلز (wells) أهمية تأثير الأسر البابلي على اليهود حيث وحدهم وحضرهم بعد أن كانوا أشتاتا ممزقة… فجمعوا تاريخهم ودونوا الأسفار من مصادر مختلفة لهدف واحد هو خدمة مستقبلهم، فلما عادوا من الأسر اختلفوا اختلافا عظيما..[10].

وإذا اتفق العبرانيون والسامريون على تغيير التوراة في الأسر البابلي للاحتفاظ بكيانهم المستقل، حيث كتب لهم “عزرا” التوراة على مبادئ ارتضوها، فإنهم لما عادوا من بابل بتوراة عزرا، واستقر كل منهم في مكانه ظهر بينهم عداء شديد واختلفت التوراة العبرانية (توراة السامريون اليهود العبرانيين الذين سكنوا القدس (أورشليم) عن التوراة السامرية (توراة اليهود الذين اتخذوا نابلس (شكيم) عاصمة لهم) وزعم كل منهم سلامة توراته وقذف توراة الآخر بالتحريف…[11].

والفرق بين التوراتين في الأسماء الخمسة مما يضيق المجال بذكره[12]، وأقتصر على ما ورد في الإصحاح الأول آية منهما على سبيل المثال:

ـ في العبرانية: “فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى”[13].

ـ في السامرية: “وخلق الله الإنسان بقدرته، بصورة الملائكة خلقه، ذكرا وأنثى خلقهما”[14].

المبحث الثاني: التلمود و”زوهار”

إلى جانب التوراة، هناك كتاب مقدس آخر “التلمود” وهو عبارة عن روايات شفوية تناقلها الحاخامات من جيل إلى جيل جمعها أحدهم يدعى “يوضاس” في كتاب سماه “المشنا”[15] التي تعني الشريعة المكررة، لأنها تكرار لما ورد في توراة موسى، وفي السنين التالية أدخل حاخامات فلسطين وبابل كثيرا من الزيادات على ما دونه” “يوضاس”، وأتم الرابي يهودا سنة (216م) تدوين هذه الزيادات والروايات الشفوية، وأصبحت كلمة “المشنا” تضم كل ما كتب من عهد يوضاس إلى عهد الرابي يهودا… ثم كتبت عليها شروحات وزيادات وحواشي كثيرة سميت “جمارا” ومن المشنا والجمارا يتكون التلمود. وأطلقوا على المشنا الذي به زيادات لحاخامات فلسطين وشروحهم “تلمود أورشليم”، كما أطلقوا على المشنا الذي به زيادات لحاخامات بابل وشروحهم “تلمود بابل”.

“ويعتبر أكثر اليهود التلمود كتابا منزلا ويضعونه في منزلة التوراة، ويرون أن الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء مدونة، ولكنه أرسل على يده التلمود شفاها”[16] واستثنى الأب (آي بي برانايتس) نسخة القدس من “الجمارا” التي “لم يعد يعتد بها نظرا لغموضها، وتميزها بالاختصار الشديد، بينما اعتمد اليهود في المقام الأول وفي جميع الأزمان والظروف نسخة بابل” (91)

وللجمارا ملاحق تدعى بالعبرية “توسيفوت(tosephoth) ويعتبر الرابي (شعيا-chaia) أول من علق بآرائه على “المشنا أوت”، وكانت هذه التعليقات تكمل بأحكام أخرى دعيت “بسيك توسيفوت” وكان أهمها إطلاقا في (ق 11) تيسيفوت الرابي آشير، ومعه ظهر “بيروشperush= الرابي موسى بن ميمون، الذي دعاه اليهود.

ـ رامبام=Rambam بينما عرف بين المسيحيين باسم “ميمونديس=Maimonides وهكذا فقد شكل التلمود كوحدة متكاملة من : الميشنا – الجمارا التوسيفوت – الملاحظات الهامشية للرابي آشير -البيسك توسيفوت – الميروش هامشني أوت الذي وضعه موسى بن ميمون[17].

ولما كان التلمود كتابا ضخما ذو طبيعة فوضوية، دعت الحاجة إلى اختصاره، وإلى هذا عمد الرابي إسحق بن يعقوب الفاسي، حيث أصدر كتابا مصغرا عنونه باسم، “ها لاخوت=Halakhot أي الأعراف، وحذف المناقشات الطويلة وحافظ على المقاطع المرتبطة بشؤون الحياة العملية، لكن عمله لم يكن منظما ومن ثم لم يعتبر، وكان موسى بن ميمون أول من نشر عملا منظما عن “القانون اليهودي” ففي سنة أخرج عمله الشهير المعنون “ميشناه توراه= Mishnah torah أي إعادة القانون، والمعروف أيضا باسم “أياد شازاكاه= Tad chazakhأي اليد القوية. ولقب موسى بن ميمون ب “نسر المعبد اليهودي”، وأضاف ابن ميمون إلى عمله هذا بحثا فلسفيا ضخما حاول فيه اشتراع قوانين وأحكام من عنده، وبسبب ذلك نبذه قومه دينيا وحكم عليه بالموت، ففر إلى مصر حيث مات سنة (1205م) ومع ذلك بقيت لكتابه أهمية كبرى…[18].

وبعد الفاسي وابن ميمون ظهر رابي فلسطين “جوزيف كاروا= karo joseph بتعليقه الشهير الذي سماه “شولشان آروخ” schurchan aruk=أي اللوحة المحضرة” وبما أن عادات اليهود الشرقيين مختلفة عن عادات اليهود الغربيين فإنه لم يف بحاجة اليهود في كل مكان، لهذا قام الرابي “ايسيرلس موسى” mosche isserles=بإعداد تعليق على “شلوشان آروخ” عنونه باسم “دارخي موشى”= Darkhe moshe أي “طريق موسى”. ويعتبر “شولشان آروخ” في الوقت الحاضر “القانون المدون” الإلزامي عند اليهود… وتلت ذلك شروح أخرى كثيرة.

وقال بعضهم مقارنا بين هذه الكتب والشروح: “الكتاب الديني المقدس هو كالماء والميشناه كالنبيذ، أما الجمارا فهي كالنبيذ الأروماتي”[19].

لليهود كتاب آخر مشهور جدا يدعى “زوهار=Zohar وهو أيضا تعاليم شفوية نسبة إلى “زيهار=Zehar الذي يعني الضياء، لأنه موضح لكتب موسى وقيل إن مؤلف “زوهار” هو الرابي “شيمون بن جوشي” أحد حواري الرابي “أكيبها= Akibhaويذهب الأب أي بي برانايتس إلى ترجيح بل تأكيد أن “زوهار” رأى النور لأول مرة في (ق 13م). فالرابيون السابقون، كموسى بن نافام وآشير الذي مات (1248م) لم يذكرا أسماء أولئك الرجال، كما أن كتاب “زوهار” مشابه في المناقشة والأسلوب لشكل الكتابة الكلدانية…[20].

وهذه بعض النصوص والأقوال الواردة في التلمود أنقلها على سبيل المثال لا الحصر:

ـ الله في التلمود ندم لما أنزله بالهيكل وباليهود، يقول: “تبا لي لأني صرحت بخراب بيتي، وإحراق الهيكل ونهب أولادي”.

والإسرائيلي فيه معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وأن اليهودي جزء من الله، فإذا ضرب أممي إسرائيليا، فكأنه ضرب العزة الإلهية، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق بين اليهود وغير اليهود…[21].

إذا كانت الدنيا والمال والثراء لله فإن اليهود باعتبارهم أجزاء من الله، يعتبرون أنفسهم مالكين لكل ما في الأرض من ثراء بالنيابة عن الإله…

ـ وينص التلمود أنه من العدل، أن يقتل اليهودي كل أممي، لأنه بذلك يقرب قربانا إلى الله.

ـ قال موسى: “لا تشته امرأة قريبك، فمن يزن بامرأة قريبه يستحق الموت”.

وقالوا المقصود بالقريب، اليهودي فقط، أما إتيان زوجات الأجانب فجائز، واستنتج من ذلك الحاخام “رش” أن اليهودي لا يخطئ إذا تعدى على عرض الأجنبي لأن كل عقد نكاح عند الجانب فاسد، لأن المرأة التي لم تكن من بني إسرائيل، هي كبهيمة، والعقد لا يوجد مع البهائم وما شاكلها…[22].

هذه الأفكار التلمودية هي التي دفعت كثيرين من رواد الفكر الإصلاحي الغربي للتمرد عليها، يقول مارتن لوتر: “إن للفلاسفة الوثنيين والكتاب الوثنيين من الإصابة وصحة الفكر، وشرف المقصد، ما يعلون به على التلمود بكثير، وليس هذا في الأمور الالهية وحدها بل أيضا في الفضائل الدنيوية الزمنية”[23].

وأشير هنا أيضا إلى محاولة “سبنوزا= Spinozaالذي طرد من المجتمع الإسرائيلي، وغير اسمه اليهودي (باروخ سبينوزا) إلى (بندكت سبينوزا). وذلك بسبب كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة”[24] التي توصل فيها إلى أن التوراة والإنجيل قد حرفا، وأن موسى عليه السلام لم يؤلف الأسفار الخمسة، وأن هناك شخصا آخر قد كتبها بعد موسى بقرون عديدة، وأن (عزرا)، هو الذي أجرى هذه التعديلات في التوراة والإنجيل. وكذلك لاعتقاده أن اليهود ليسوا شعب الله المختار…

جاء في قرار طرده: “حاول رؤساء المجلس الاكليركي بطرق متعددة، وبوعود مختلفة بعد أن أحيطوا علما وبدرجة كافية بالآراء والتصرفات الشيطانية لباروخ سبينوزا صرفه عن طريقه الشيطاني، ولما لم تكن هناك جدوى من محاولات تصحيح أفكاره (…) فإن رؤساء المجلس… أصدروا قرارهم بحرمان المدعو (سبينوزا) من شركة المؤمنين وطرده من شعب إسرائيل ووضعه… في قائمة المحرومين والملعونين، فلتلعنه ملائكة الأسبوع السبعة وبأفواه تابعيهم، ومن يحاربون تحت ألويتهم… ولتلعنه ملائكة فصول السنة الأربعة… وليكن ملعونا من الله القوي الشديد…

ونسأل الله ألا يغفر له ذنوبه، وأن يحرمه من أسباط بني إسرائيل…ونحن نحذر أي أحد من التحدث إليه بفمه ولو بكلمة أو بالكتابة إليه، أو بأداء خدمة إليه، وألا يعيش معه تحت سقف واحد أو يقر أي كلمة يكتبها”[25].

الجزء الثاني: النص المسيحي.. قراءة في صحة النسبة بين دلالة الخطاب وسلطة الكنيسة

لم يحظ نص من النصوص أيا كان مصدره، بمثل ما حظي به النص الديني من دراسة وتوثيق، وتحليل وتفسير. ومرجع ذلك طبعا إلى كونه، نصا يتعبد به، ويتقرب به إلى الله تعالى، ومصدر الاعتقاد والسلوك والعمل لدى معتنقيه. ونص رسالة الإسلام، آخر النصوص الدينية المنزلة، ينسخها ويهيمن عليها، أشار إلى ما لحق تلك النصوص السابقة عليه من تحريف وتبديل، ولبس للحق بالباطل… فكان هذا إيذانا بفتح حوار ديني واسع بين الديانات السماوية، (اليهودية، النصرانية، الإسلام)، عرف فيما بعد بـ”علم مقارنة الأديان”، حيث انكب المهتمون بهذا العلم، على البحث عن أوجه التحريف والتبديل الذي طال الديانتين اليهودية والنصرانية، وذلك باعتماد الحقائق التاريخية، والمناهج التحليلية النقدية المقارنة وغيرها.

وهذه قراءة، أولية، للنص المسيحي، تحاول استجلاء بعض مظاهر الاضطراب والتحريف التي لحقته من خلال دلالة النص ومعطياته من جهة، ومن خلال سلطة الكنيسة التي كان لها أكبر الأثر في توجيهه وإعادة صياغته من جهة ثانية.

وقد تناولنا في هذه القراءة ثلاثة محاور لها صلة وثيقة بالموضوع هي:

الأناجيل والحواريون، شاول بولس والمسيحية، الكنيسة والسلطة الدينية.

1. الأناجيل والحواريون  

يتكون الكتاب المقدس عند المسيحيين من العهدين القديم والجديد، وكلمة “الإنجيل” عندهم كلمة يونانية معناها (الحلوان)، وهو ما تعطيه من أتاك ببشرى، ثم أريد بها البشرى عينها أما السيد المسيح فقد استعملها بمعنى (بشرى الخلاص) التي حملها إلى البشر… وما لبثت هذه الكلمة أن استعملت بمعنى الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى.

ويتكون الإنجيل (العهد الجديد) من سبع وعشرين سفرا، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام:

1. قسم الأسفار التاريخية: ويشمل الأناجيل الأربعة، ورسالة أعمال الرسل التي كتبها لوقا.

2. قسم الأسفار التعليمية: ويشمل إحدى وعشرين رسالة.

3. رؤيا يوحنا اللاهوتي.

وهذه الأناجيل والرسائل تم اختيارها من بين عدد كبير من الأناجيل والرسائل الأخرى من طرف حوالي ألفي مبعوث روحاني في مجمع “نيقية”، حيث اختيرت الأناجيل الأربعة من أكثر من أربعين أو خمسين أنجيلا، وتم اختيار الرسائل الإحدى وعشرين من رسائل كثيرة جدا، وصودق عليها وعقبت ذلك مجامع أخرى كمجمع “أقسيس” “ومجمع” خليكدونية وغيرها[26].

أما الأناجيل الأربعة المعتمدة، فقد اختلف في أصحابها كما اختلف في مدى صحة نسبتها إليهم.

أ. بخصوص انجيل متّى

فمتّى أحد الحواريين مات سنة (79م) ببلاد الحبشة، وكل النقول ضعيفة واهية في نسبة هذا الإنجيل إليه.

ويذكر جمهور المسيحيين أن متّى كتب إنجيله بالآرامية، ولا وجود لهذه النسخة، وظهر كتاب باللغة اليونانية قيل هو ترجمة له، لكن لم يعرف المترجم، ولا تاريخ الترجمة، ولا تاريخ التأليف[27].

ب. إنجيل مرقس

ذهب وليم بركلي إلى أنه خلاصة مشاهدات بطرس أعظم الرسل ومواعظه، وأن مرقس كان يؤكد الجانب البشري في المسيح، حتى إن الكتاب الذين اتبعوه، اضطروا إلى إدخال بعض التعديلات… فبينما يذكر “مرقس” أن يسوع كان نجارا، يتحرج “متّى” ويذكر أنه كان “ابن النجار”، ولهذا اعتبر النقاد مرقس من أصح ما كتب عن شخص عيسى، عليه السلام، وأعماله وأقواله… واختلف في هذا الإنجيل كذلك حول اللغة التي كتب بها، وتاريخ تدوينه[28].

ج. إنجيل لوقا

ولوقا هذا ليس من الحواريين ولا من تلامذتهم، إنما هو تلميذ بولس، وقد تكرر اسمه في رسائل بولس. واختلف كذلك حول لغة هذا الإنجيل وتاريخ تأليفه ولمن كتب[29].

د. انجيل يوحنا

قال يوسف الدبسي الخوري، إن يوحنا صنفه في آخر حياته بطلب من أساقفة آسيا، لما كانت هناك طوائف تنكر لاهوت المسيح، فطلبوا منه إثباته، وذكر ما أهمله متّى ومرقس ولوقا، وقد أبطل كثيرون نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري، وانتهوا إلى انه تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية[30].

هناك أناجيل أخرى غير معترف بها، نقف عند أحدها يستحق كل عناية وهو:

ـ إنجيل برنابا: فقد ذهب الشيخ أبو زهرة إلى ترجيح صحة نسبته إلى برنابا، فهو لم يعتبر المسيح ابنا لله أو إلها، وهو من جهة أخرى، يبشر برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حذا بالكنيسة إلى عدم الاعتراف به، بل وزعم بعض المستشرقين أنه من وضع المسلمين للتقارب بينه وبين القرآن الكريم، وذكر محقق الكتاب (سيف الله أحمد فاضل) أن إنجيل برنابا جمع شتات الأناجيل الأخرى… وأنه إذا كان كاتب انجيل برنابا بهذه الدراية الكبيرة بتاريخ المسيح عليه السلام، وجهله بتاريخ رسالة محمد إلى هذا الحد، فهو قطعا ذو صلة كبيرة بالمسيح، ولا صلة له على الإطلاق بالمسلمين على سنة محمد لا زمنيا ولا مكانيا. [31]

لا أريد الإطالة هنا بالخوض في مسألة التثليث، هذه الدعوى التي لا تستقيم أمام عقل أو نظر سليم. ويكفي أن أشير إلى ذلك المنهج الفذ الذي حطم به، رحمة الله، الهندي هذا الثالوث عن طريق العقل والمنطق والبراهين، خاصة وأن النصارى أنفسهم لا يستقيم في أذهانهم التثليث، وعن طريق أقوال المسيح نفسه، مثل ما ورد في إنجيل يوحنا، آية (3) باب (19): “هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته…”.

وما ورد في مرقس آية (29) باب (12): “إن أول كل الوصايا اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد (30) وتحب الرب إلهك من كل قلبك…”[32].

وإلقاء نظرة عجلى على نجيل متّى، تظهر المزيد من التناقض والاضطراب الداخلي للنص، إذ كيف يمكن الجمع بين نصوص متناقضة تماما يدعو بعضها إلى توحيد الإله وتنزيهه، كقول المسيح: “مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد” (إ: 4-أ 10). وقوله: “ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله” (إ: 19-أ: 17)، وبين نصوص تؤكد مبدأ نبوة المسيح لله، ومشاركته له في ألوهيته وربوبيته، كقوله: “ليس كل من يقول يا رب، يا رب، يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات” (إ: 7-أ: 21). وما ورد في الإنجيل: “ولما دخلا السفينة جاءوا وسجدوا قائلين، بالحقيقة أنت ابن الله” (إ: 14-أ: 23)، ونصوص أخرى تزعم بنوته للإنسان لا الله، كقوله: “وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب بقوة ومجد كثير”. (إ: 24-أ: 22)، وقوله بعد يومين يكون الفصح، وابن الإنسان يسلم ليصلب” (إ: 26-أ: 1)، ترى، ماذا يطلب منا الإنجيل، أن نوحد الله، أو أن نشرك به المسيح (يسوع) فنزعم بنوته له ومشاركته له في ألوهيته وربوبيته، أو أن ننسب المسيح إلى الإنسان بدل الإله…) أو أن نلغي عقولنا ونؤمن بذلك كله كما هو حال المسيحية الآن؟. بل المسيحية نفسها تستسلم أمام استعصاء ظاهرة التثليث عن التفسير السليم، كما جاء على لسان أحد روادها، القس بوطر 7: 11 قد أفهمنا ذلك (=التثليث) على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه أكثر جلاء في المستقبل حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأما في الوقت الحاضر، ففي القدر الذي فهمناه كفاية”. قال أبو زهرة معلقا: هكذا تبقى عقيدة التثليث غامضة إلى يوم القيامة ولن يعرفوا حقيقتها إلا يوم يحاسبهم الله عليها[33].

وقد أبطل القرآن الكريم مزاعم المسيحيين في كثير من الآيات أذكر منها قوله تعالى: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا” (النساء: 171-172).

أما اختلاف الأناجيل بعضها عن بعض، فأمر مكشوف معيب إلى ابعد حد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” أما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة”[34].

ويقول ول ديورانت: “إن ثمة تناقضا كثيرا بين بعض الأناجيل والبعض الآخر”[35].

ففي نسب المسيح، مثلا، نجد اختلافا مشينا بين صدر الإصحاح الأول من (متّى) ونهاية الإصحاح الثالث من (لوقا) (فمتّى)، يتبع في كتابته سلسلة النسب إلى سليمان بن داود عليهما لسلام، بينما يتبع (لوقا) سلسلة (ناتان) بن داود. واتبع الأول سلسلة الملوك المشهورين من ولد سليمان إلى جلاء بابل، أما الثاني فيسير بنسبه إلى آباء عاديين ليسوا بمشهورين ولا ملوكا. حلقات النسب في (متّى)، فيما بين (داود ويوسف النجار) تنقص عنها كثيرا في (لوقا)، ففي حين يذكر الأول أربع عشرة حلقة يذكر الثاني عشرين حلقة[36].

2. شاول بولس والمسيحية

يذهب كثير من المؤرخين إلى حد الإجماع على أن مؤسس المسيحية (مسيحية الكناس) ومدون قوانينها هو “شاول” الذي سمي فيما بعد “بولس”، يقول عنه ويلز wells))، إنه هو في الحقيقة مؤسس المسيحية. ويقول عنه بيري (Berry)، إن كثيرا من الثقات العصريين يعدونه المؤسس الحقيقي للمسيحية، وبولس هذا يهودي، كان عدوا للمسيحية، يقول عنه لوقا: إنه كان راضيا بقتل المسيحيين، وكان يسطو على الكنيسة ويدخل البيوت… ودخل بعد ذلك إلى المسيحية، وأصبح معلما لها، ويذكر لوقا أن هذا التحول حدث له وهو في الطريق إلى دمشق “لما أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض سمع صوتا قائلا له: شاول، شاول لماذا تضطهدني، فقال من أنت يا سيدي؟ فقال الرب: أنا يسوع الذي انت تضطهده (…) فقال وهو مرتعد متحير، يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ فقل له الرب : قم وادخل المدينة، فيقال له ماذا ينبغي أن تفعل”[37] قال وليم باركلي: “وهكذا دخل إلى دمشق رجلا جديدا (…) أراد أن يدخل منتقما، فإذا به يدخلها أعمى منقادا كطفل عاجز…”[38] هكذا “دخل بولس المسيحية وأصبح معلما لها، وتم ذلك بهذا النسق الذي يصدقه قوم، ويراه آخرون قصة مخترعة..”[39] وأصبح بولس الذي زعم صلة مباشرة بالمسيح لا يجد أحدا يعارضه فيما ينشر من تعاليم مادام قد تلقاها من “الرب” أو من ابنه.

وهذا بولس يفصح عن نفسه في إحدى رسائله فيقول: “لكني سأفعل ما أفعله لأحجب الفرصة عن الذين يريدون أن يغتنموا الفرصة ليصيروا مثلنا فيما يفتخرون به، لأن نظائر هؤلاء هم الرسل الكذابون، والعملة الغدارون قد تشبهوا برسل المسيح”. قال (آدم كلارك) في تفسيره في شرح هذا المقام: هؤلاء الأشخاص كانوا يدعون كذبا أنهم رسل المسيح، وما كانوا رسل المسيح وكانوا يعظون ويجتهدون، لكن مقصودهم ما كان إلا جلب المنفعة[40].

إذا كان هذا حال النص المسيحي المقدس، وحال نسبته إلى قائله أو قائليه، فإن المناهج المعتمدة في إثبات أو نفي صحة هذه النسبة، لا ترقى إلى ما اعتمده علماء الإسلام في التثبت من ذلك. إذ لو أخضعناه لشروطهم لما سلم منه إلا القليل النادر. فالإمام أبو زهرة يختزل هذه الشروط في أربعة أساسية هي:

1. أن يكون الرسول الذي نسب إليه قد علم صدقه بلا ريب ولا شك، وأن يكون قد دعم ذلك الصدق بمعجزة أو بأمر خارق للعادة قد تحدى به المنكرين المكذبين..

2. ألا يكون الكتاب مضطربا متناقضا يهدم بعضه بعضا.. بل يكون كل جزء منه متمما للآخر ومكملا له، لأن ما يكون عن الله لا يختلف.

3. أن يدعي ذلك الرسول أنه أوحي إليه به، ويدعم ذلك الادعاء بالبينات الثابتة…

4. أن تكون نسبة الكتاب إلى الرسول ثابتة بالطريق القطعي… وأساس ذلك التواتر، أن يروي جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، عن جمع مثله حتى تصل إلى الرسول…[41].

وقد ناقش الشيخ أبو زهرة الموازنة التي قام بها القس إبراهيم سعيد بين أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإنجيل لوقا من حيث الرواية[42].

ويكفي أن أذكر من سماجة هذه المقارنة كونه يعيب على أحاديث الرسول، صلى لله عليه وسلم، روايتها بالأسانيد المتصل، ويفخر بروايته لوقا بالأسانيد المنقطعة لأن “آفة الأخبار رُواتها” لكن ماذا لو كان بنقل العدل الضابط عن مثله؟

ونجد لرحمة الله الهندي نصا قيما بهذا الصدد يقول فيه: “اعلم أرشدك الله تعالى، أنه لا بد لكون الكتاب سماويا واجب التسليم، أن يثبت أولا بدليل تام، أن هذا الكتاب كتب بواسطة النبي الفلاني، ووصل بعد ذلك إلينا بالسند المتصل بلا تغيير ولا تبديل. والاستناد إلى مجرد شخص ذي إلهام بمجرد الظن والوهم لا يكفي في إثبات أنه من تصنيف ذلك الشخص، وكذا مجرد إدعاء فرقة أو فرق لا يكفي فيه (…) ولذلك طلبنا مرارا من علمائهم الفحول، السند المتصل، فما قدروا عليه واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم فقال: “إن سبب فقدان السند عندنا، وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة (313سنة). وتصفحنا في كتب الإسناد لهم فما رأينا فيها شيئا غير الظن والتخمين”[43].

3. الكنيسة والسلطة الدينية

التحريف الذي وقع في المسيحية من جعل الإله الواحد ثلاثة أقانيم، وتأليفه عيسى، عليه السلام، واختراع قصة الصلب والفداء وعبادة الصليب…الخ، هذا التحريف رغم بشاعته أضافت إليه الكنيسة تحريفا آخر لا يقل خطورة عنه، هو عزل العقيدة عن الشريعة، واتخاذ الدين عقيدة فقط، وترك القانون الروماني يحكم الحياة. والأديان المنزلة من عند الله تعالى كانت دائما وفي نفس الوقت، عقيدة وشريعة، أما العقيدة فجاءت واحدة في جميع الرسالات السماوية، لأنها بطبيعتها غير قابلة للتغيير والتبديل، أما الشريعة وما تحويه من تنظيمات، فقد تغيرت بحسب أحوال الأقوام الذين أرسل المرسلون إليهم حتى اكتمل الدين بالإسلام[44].

وأخبرنا الذكر الحكيم بوجود الشريعة في كل الرسالات السماوية، فذكر من ذلك قوله تعالى: “وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (هود: 84-85).

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين. أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ” (الشعراء: 123-129).

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ” (الشعراء: 160-166).

والكنيسة في اتباعها القانون الروماني، قانون قيصر، تؤيد زعمها هذا وتلتمس له مشروعية بنسبه إلى السيد المسيح. وهذا أصل هذه الفردية، من الناحية الدينية، التي لا زالت تنخر كيان المجتمع الغربي المعاصر، وتعمق في نفسه وعقله ذلك الفصام النكد بين الدين (أيا كان مصدره) والعلم أو العقل بمختلف انجازاته.

جاء في إنجيل متّى: “ذهب الفرنسيون وتشاوروا لكي يصطادونه؛ (أي السيد المسيح) بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيردوسيين قائلين، يا معلم نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا ماذا تظن، أيجوز أن تعطي جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجبرونني يا مراؤون أروني معاملة الجزية، فقدموا له دينارا، فقال لهم، لمن هذه الصورة والكتابة، قالوا له: لقيصر. فقال لهم: اعطوا إذن، ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا”[45]. وعلق محمد قطب على هذا الزعم المتهافت في نسبته إلى السيد المسيح، بأنه على افتراض صحته فأقصى ما يدل عليه عدم مقاتلة قيصر حتى تكون لهم الغلبة عليه، كما قيل للمؤمنين في مكة “كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ” (النساء: 77). حتى جاءهم الإذن بالقتال؛ “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير” (الحج: 39). ثم جاء الأمر بالقتال لإخضاع الأرض كلها لشريعة الله: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ” (الأنفال: 139)[46].

إلى جانب هذه النقيصة في الفكر الكنسي المسيحي نجد مهزلة صكوك الغفران، تعبيرا آخر عن ضحالة هذا الفكر وهجانته، وسفالة البائع والمشتري.

فقد أصدر مجمع (لاتيران) سنة (1215م) القرار التالي، لتقرير أن الكنيسة تملك حق الغفران للمذنبين: “إن يسوع المسيح، لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعطت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا من الأيام الأولى، فقد أعلم المجمع المقدس وأمر بحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي والمثبتة بسلطان المجامع ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة”…[47]. أما نص الصك فيقول: “ربنا يسوع يرحمك يا… (يذكر اسم الذي سيغفر له)، ويحلك باستحقاقات الأمة الكلية القدسية، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي، أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنيسية التي استوجبتها، وأيضا من جميع الأفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة (…) أردك ثانية إلى الطهارة والبر الذين كانا لك عند معموديتك، حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة باسم الأب والابن والروح القدس” [48].

من نقائص الكنيسة كذلك طغيانها الفكري وقمعها حركات التحرر والإبداع العلمي حيث ألزمت العلماء بالتفسيرات الكنيسة ولو خالفت حقائق العلم، بدأت هذه الزوبعة حين قال العلماء بكروية الأرض وأنها ليست مركز الكون، ومن رواد هذه النظرية كوبرينيكس وبرونو وجاليلي، وغيرهم ممن لقوا من العذاب أشده، كل ذلك خوفا من أن يظهر العلم على الخرافة وتفقد الكنيسة سلطتها. لهذا بادرت الكنيسة فأعلنت في الناس وأفشت فيهم أن من أخذ بالعلم فقد خرج من الدين ومن دخل الدين فلا بد أن يترك العلم. فترك الناس الدين من أجل العلم، بل كرهوا الأول أشد الكراهة، ونبذوه بعيدا عن مجالات البحث، بل عملوا على إلغائه وتعطيله وإرجاع كل شيء في الوجود إلى العلم و “الطبيعة”. فصعدت الكنيسة من فرض تعاليمها على عقول الناس وأفكارهم فرضا، ومنعتهم من مناقشتها، واعتبرت المناقش أو الشاك في أمرها كافرا وجبت عليه اللعنة الأبدية، وخرج من رضوان البابوية، وخرج – من ثم – من رضوان الله[49].

والذي يفت في عضد الكنيسة، ويضعها في قعر البذاءة والفحش، أخلاقيات “الأوصياء” و”الوسطاء” “الربانيين” وكي لا نفتئت عليهم الكذب، نحيل على ما ود في “قصة الحضارة” لول ديورانت[50]، وكفى به شهيدا؛ حيث يصف تلك الحياة الخليعة والقذرة التي يعيشها معظمهم، المغرقة في الملذات والشهوات والغراميات، مما تربأ الفطر السليمة عن ذكره. وذهب بعض واصفي هذه الأخلاقيات إلى أن رجال الجيش أرقى في خلقهم من رجال الدين.

هذا فضلا عن الطغيان المالي الذي كانت تمارسه الكنيسة و “من أراد الملكوت فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير عليه” وأن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني في ملكوت الله”[51] يقول ول ديورانت: “أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي، وأكبر السادة الإقطاعيين في أوربا فقد كان دير فلدا مثلا يمتلك (15000) خمسة عشر ألف قصر من قصور الريف. وكان دير سانت جول يمتلك (3000) ثلاثة آلاف من رقيق الأرض (…) وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة ورؤساء الأديرة”[52].

وللحفاظ على كل هذه “الامتيازات”، و”الصلاحيات”، أنشأت الكنيسة منظمة داخلها، وهي محكمة التفتيش البابوية. وهي باختصار، سلطة قمع وإرهاب وجهاز تعذيب وإرهاب بأسلوب الحديد والنار سواء ضد المسيحيين أنفسهم أو ضد المسلمين في الأندلس وغيرهم ممن تشم فيهم رائحة العداء أو الطعن في “قدسية” الكنيسة. وإذا كان رجال الدين من الباباوات والقساوسة على حظ وافر من الانحراف والشذوذ، وما لا يغتفر لرجل دين. “وإذا ما عفونا عن بعض هذا الشذوذ الجنسي والانهماك في ملاذ المأكل والمشرب فإننا لا نستطيع، أن نعفو عن أعمال محاكم التفتيش”[53].

لعل ما تقدم حول طغيان الكنيسة كاف لأن يبرر لنا تلك الحملات العنيفة التي قادها مجموعة من رواد الإصلاح الديني ودعاة التحرر الفكري على الرغم مما حل بهم من اضطهادات وتصفيات. ولمزيد من التوضيح، فهذه بعض النصوص من صور هذه الإدانة والاضطهاد. ففي مجال البحث العلمي، جاء في قرار إدانة جاليلو (22 حزيران 1633): “يا جليلو (…) بناءً على ما بلغ المجمع المقدس سنة (1615)، من أنك تؤمن بصحة المذهب الذي يدعو إليه الكثير وهو أن الشمس هي مركز العالم وأنها ثابتة، وأن الأرض تتحرك حركة يومية، فإن المحكمة، رغبة منها في منع الفوضى والأضرار الناجمة عن ذلك، والتي تمنع التصدي للإيمان المقدس (…) يرى اللاهوتيون أصحاب الرأي في التعريف أن القضيتين المتعلقتين بسكون الشمس وحركة الأرض مناقضتان للعقل، ومغلوطتان في اللاهوت، فالأولى هرطقة صريحة والثانية خطأ في الإيمان (…) ونحن نأمر بمصادرة كتاب “محاورات جاليلو” بموجب مرسوم علني ونحكم عليك بالسجن الصريح بالمدة التي نرى تحديدها”[54] صادر عن الكرادلة.

وبخصوص الإصلاح الديني نجد مجموعة من رواد هذا المجال. أذكر منهم:

ـ جون ويكلف (John Wycliffe) (1328-1384م) في بريطانيا.

ـ جون هس (John HUSS) (1369-1415م) في بوهيميا.

ـ أراسيموس (Erasmus) (1469-1536م) في هولندا.

ـ مارتن لوثر (Martin LOTHER) (1483-1546م) في ألمانيا.

ـ أوليخ زونغلي (ULICH Zwingli) (1531-1483م) في سويسرا.

ـ جون كلفن (John CALVIN) (1509-1564م) في فرنسا ثم سويسرا [55].

ودعوات هؤلاء انصبت على تقويم الانحراف الذي طرأ على المسيحية، وانتقاد سلطة وطغيان الكنيسة. لهذا نجد من مبادئهم الإصلاحية مثلا:

ـ جعل الخضوع التام الواجب على المسيحي لنصوص الكتاب المقدس وحدها…

ـ حصر مهام الكنيسة في الوعظ والإرشاد وبيان تكاليف الدين وواجباته لمن لا يستطيع ذلك، وإلغاء ضلالة دعوى الاستمداد من الحواري أو المسيح نفسه.

ـ المعارضة وبشدة لزعم الكنيسة محو الذنوب ووهب الغفران، لأن ذلك من عمل الله…[56].

وأود أن أحصر الحديث هنا، عن هؤلاء الرواد، في واحد طبقت شهرته الآفاق وهو مارتن لوتر، الذي تقدم بمشروع إصلاحي يحوي سبعا وعشرين بندا عنيفا: أذكر منها على سبيل المثال:

ـ الناس يجترئون على الله بتقبيلهم قدمي البابا، وإذا كان المسيح يغسل أرجل تلاميذه ويمسحها بمنشفة لكي يؤكد لهم أنه جاء ليخدم لا ليخدم، فكيف يتجاسر البابا أن يأمر الناس بتقبيل رجليه مع أن من بين من يقبلون قدميه من هم أكثر نقاوة وطهارة من البابا نفسه.

ـ تحريم قانون الكنيسة الزواج على الكهنة خطأ لأنه جعل الكثير من الكهنة يندفعون اندفاعا مخيفا إلى الفسق والفجور.

ـ يجب على الشعب الألماني أن يرفض دفع الضريبة السنوية إلى البابا لأنه بدلا من أن يصرفها في أعمال البر والإحسان يستعملها لإشباع شهواته الدنيئة…[57].

الشيء الذي جعل البابا يطرده من سلك رجال الدين، ولما وصل بيان الطرد إلى لوتر أحرقه علنا، وكان ذلك الحد الفاصل بين لوتر وكنيسة روما… وكان له أتباع كثيرون، كما انتشرت كتابات عديدة في هذا المجال، وانتشرت تعاليم لوتر في ألمانيا والنمسا والسويد والدانمارك والنرويج… ونظم الكنائس التي انفصلت عن روما، وأصبحت تعرف باسم الكنائس “البروتستانتية”.

من جهة أخرى، كان من نتائج الحركات الفكرية التحررية التي انعتقت من ربقة السلطان الكنسي، أن أنشأت مجموعة من الفلسفات والمذاهب والتيارات الفكرية. ويرد كثيرون نقطة البداية إلى (الاتجاه العقلي) الذي ظهر مع ديكارت (1591-1650م)، صاحب المذهب الآلي، وصاحب “الكوجيتو”، علما بأن ديكارت قد تجنب استعمال منهجه الشكي في الدين والسياسة، رغبة منه أو مداراة لرجال الحكم والدين كي لا ينسفوا جهوده. وجاءت بعده جماعة من المفكرين تبنت أفكاره (الاتجاه العقلي) وعلى رأسها سبينوزا” (1623-1677) الذي فجر المنهج الشكي الديكارتي في المجالين اللذين أحجم عنهما أستاذه وكذلك “ليبنتز” (1716-1646) ومالبرانش وغيرهم. وظهر الاتجاه التجريبي) مع التجريبيين الانجليز بالخصوص (فرانسوا بيكون) (1561-1662)ن “جون لوك” (1623-1704) و”جورج بيركلي” (1695-175) و”دافيد هيوم (1711-1776) وظهر الاتجاه العقلاني المتعالي الترنسندنتالي عند ايمانويل كانط (1724-1804( (Transcendantal) ونجد في (ق 19) جنوحا إلى إقامة نظريات فكرية ذات محتوى فلسفي متكامل، بدأت هذه النزعة عند أصحاب المثالية الألمانية لدى كل من (فيخته-1831-1770)، وقامت بعدها المادية مع (فيورياخ 1804-1872) و (كارل ماركس 1818-1889) وظهر كذلك المذهب الوضعي الذي دعا إليه (أوكيست كونت) (1798-1857) في فرنسا وأخذ به (ج س مل) في انجلترا، وظهرت نظرية داروين وغيرها من النظريات…[58] إلى أواسط هذا القرن حيث ظهرت البنيوية “منذ انطلاقها من منتصف الخمسينات في فرنسا إلى أفولها في موطنها نفسه مع مطالع السبعينات وقبل أن تصبح “موضة” بين مثقفيها”[59] وكان لها أثر قوي في مجتمع المثقفين الفرنسيين، كما كان لها توجهها نحو كل الأنساق الفلسفية الأخرى مثل علم التأويل (Herméneutique)، والماركسية وفلسفة الظاهريات (Phénoménologie) والوجودية والعقلانية”…[60].

هذه على سبيل المثال لا الحصر، بعض الحركات والمذاهب والتيارات الفكرية التي ظهرت في المجتمع الغربي بعد صراعه المرير مع جهاز الكنيسة، وقد كانت من العوامل المباشرة التي ساهمت في تكوين المجتمع المدني العلماني الذي عرف نهضته العلمية والتقنية الكبيرة، والتي يعيش الغرب الآن بعض مظاهرها.

ولا شك أن علاقة ما هو “ثقافي” بما هو “ديني” قد تغيرت الآن عما كانت عليه من عداء وتنافر، حيث التحم الديني بالثقافي، فأصبحت المسيحية التي تحولت إلى روح طيبة تغذي الثقافة الغربية، هذه الثقافة التي أضفت على تلك الروح مفاهيم التوسع والهيمنة والاستغلال المرتكزة على التمايز العرقي، والتعصب الديني، التي وظفتها تجاه الشعوب الأخرى، ومادام الديني والثقافي يتضافران لخدمة المركزية الغربية، فإن “قداسة” النص المسيحي تبقى دائما خاضعة للمزيد من التحريف والتأويل البعيد عن الحق الذي جاء به المسيح عليه السلام.

انظر العدد 12 من مجلة الإحياء

في الفكر اليهودي والكتب المقدسة لدى اليهود (الجزء الأول(

الهوامش


1. أحمد شلبي-مقارنة الأديان(1) اليهودية ص: 230 (مكتبة النهضة المصرية-ط 7-1983).

2. أحمد شلبي، المرجع نفسه،ص: 230 وما بعدها (بتصرف)، وانظر كذلك صابر طعمية: الأسفار المقدسة قبل الإسلام (فضل متى وكيف كتبت الأسفار) ص: 71 وما بعدها (عالم الكتب ط 1/1985) وقسم رحمه الله الهندي العهد العتيق (= القديم) إلى قسمين: الأول يشمل (38) كتابا والثاني (9) كتب. انظر إظهار الحق، ج 1/ص: 95-96-97-(منشورات المكتبة العصرية إخراج وتحقيق عمر دسوقي).

3. انظر رحمة الله الهندي-إظهار الحق 1/364 (في إثبات التحريف بالزيادة)، جعل الأسفار (= ليكتب) ثمانية بدل سبعة.

4. ليس هذا السفر تاريخيا وإنما هو أسطورة تصور أمال بني إسرائيل واتجاه حيلهم”شلبي ص: (246) مرجع سابق.

5. صابر طعمية-الأسفار المقدسة قبل الإسلام-ص: 18.

6. انظر رحمة الله الهندي-إظهار الحق-1/103 وما بعدها-أحمد شلبي-اليهودية-ص:250-251 ول ديورانت. قصة الحضارة ج2 مج 1 ص:356 (ترجمة مجموعة من الباحثين الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية).

7. رحمة الله الهندي جعل المدة ثمانية عشر عاما، وقال: “والنسخة التي وجدت بعد ثماني عشرة سنة من جلوسه على سرير السلطنة لا اعتماد عليها يقينا، ومع كونها غير معتمدة ضاعت هذه النسخة أيضا-إظهار الحق-1/104.

8. المرجع نفسه: 1/115.

9. ول ديورانت-قصة حضارة-ج 2 مج 1 ص: 367-368.

10. شلبي-اليهودية-ص: 254.

11. انظر مقدمة أحمد حجازي السقا على التوراة السامرية، ص: 4-5 (ترجم التوراة الكاهن السامي أبو الحسن اسحق الصوري، ونشرها السقا).

12. انظر ذلك بتفصيل في كتاب: من الفروق بين التوراة السامرية والعبرانية في الألفاظ والمعاني، لأحمد حجازي السقا، داخل كل سفر على حدة، ويراجع في هذا أيضا-إظهار الحق-ج 1 والجواب الصحيح لابن تيمية (ج 1).

13. التوراة العبرانية اصحاح 1/27 (من سفر التكوين-الكتاب المقدس).

14. التوراة السامرية اصحاح 1/7.

15. أحمد شلبي-اليهودية ص: 265، وذكر سليمان مظهر في قصة الديانات أن الذي جمع التلمود أولا الحبر (شمعون) جمائيل. وذكر الأب أي بي برانا تيس في كتابه: فضح التلمود تعاليم الحاخاميين السرية أن الرابي جهودا هو الذي جمع هذه اللوائح في كتاب دعي (سفر مشناه أوت=sepher Mishnaioth

16. شلبي-اليهودية-ص: 265.

17. الأب أي بي برانايتس، فضح التلمود. ص: 25. (ط 3/1986 دار النفائس. اعداد زهدي افاتح).

18. برانا تيس-فضح التلمود-ص: 38-39.

19 . برانا تيس، مرجع سابق ص: 41.

20 . المرجع نفسه،ص: 45-46.

21. عبد الرحمن الميداني له مبحث طريف حول “مشكلة اليهود النفسية” ص: 10 من كتاب مكايد يهودية عبر التاريخ.

22. انظر شلبي (مرجع سابق) ص: 267-271 حيث أورد نصوصا أخرى عن كتابي (الكنز المرصد) و”التلمود شريعة إسرائيل”. وانظر كذلك، قصة الديانات، لسليمان مظهر ص: 241-246 (ط 1/1984-الوطن العربي بيروت).

23. مارتن لوتر، نفاق اليهود ص: 109.(ترجمة عجاج نويهض، قدم له شفيق الحوت ط1-1974-دار الفكر).

24. ترجم مضمونها حسن حنفي في الفكر الغربي المعاصر، ص: 71. (ط 1، 1982-دار التنوير).

25. أحمد إبراهيم خضر-الروافد اليهودية في فكر حسن حنفي-مجلة المجتمع ع 902-24 جمادى الثانية 1409/31 يناير 1989.

26. انظر محمد أبو زهرة، محاضرات في النصرانية (المجامع المسيحية)، دار الفكر العربي، ص123 وما بعدها.

أحمد شلبي، المسيحية، مكتبة النهضة المصرية، ط 7، 1983، ص201-214.

27. أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، م، س، ص43-46، شلبي، المسيحية، م، س، ص211.

28. أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، م، س، ص47-48، شلبي، المسيحية، م، س، ص22.

29. أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، م، س، ص48-50، شلبي، شلبي، المسيحية، م، س، ص215.

30. أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، م، س، ص50-54، شلبي، المسيحية، م، س، 215.

31. إنجيل بارنابا-دراسة حول وحدة الدين عند موسى وعيسى ومحمد، عليهم السلام، تحقيق: سيف الله أحمد فاضل.

32. انظر رحمة الله الهندي إظهار الحق، ج 2: ص25 في إبطال التثليث بأقوال المسيح، وج 1-ص: 583، وفي إبطال التثليث بالبراهين. إخراج وتحقيق عمر الدسوقي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا-بيروت.

33. أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، م، س، ص105.

34. ابن تيمية، الجواب الفصيح لمن بدل دين السيد المسيح، مطبعة لمدني 1، ص364.

35. ول ديورانت، قصة الحضارة، ج 3، ص210، (ترجمة: محمد بدران، زكي نجيب محمود، عبد الحميد يونس، فؤاد اندرو، اختارته وأنفقت على ترجمته الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية).

36. صابر طعيمة، الأسفار المقدسة (ذكره عن د. م. أبو الغيط)، عالم الكتب، ط1، (1406ه/1985م)، ص267-268.

37. ولي باركلي، تفسير العهد الجديد، سفر أعمال الرسل، إصحاح 9/1-9 ص: 115-116.

38. المصدر نفسه.

39. شلبي، المسيحية، م، س، ص106.

40. رحمة الله الهندي، إظهار الحق، ج 1، ص445.

41. أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، م، س، ص: 79-80.

42. المرجع نفسه، ص93 وما بعدها.

43. رحمة الله الهندي، م، س، ج 1، ص101-203.

44. انظر: محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة، ط 1، (1407ه/1987م)، دار الشروق، ص13-14.

45. وليم باركلي، تفسير العهد الجديد-إنجيل متّى إ: 2/ أ: 15-20.

46. انظر محمد قطب، م، س،، ص: 15-16.

47. أبو زهرة، م، س،، صك 175.

48. شلبي، م، س، ص254.

49. محمد قطب، م، س، ص47 وما بعدها.

50. ول ديورانت، م، س، ج 21/ ص83-86 (أخلاق رجال الدين).

51. إنجيل مرقص إصحاح 10-أ-25.

52. ول ديورانت، م، س، ج 14/ ص428.

53. المرجع نفسه، ج 21/ ص86.

54. سد جمعة، الله والدمار، ط، 3، مؤسسة كمال أيوديي، 1984، ص38-39.

55. انظر تراجم هؤلاء بتفصيل في مقدمة شفيق الحوت لكتاب “نفاق اليهود” لمارتن لوثر، ص: 30-50.

56. أبو زهرة، م، س، ص187 وما بعدها.

57. سليمان مظهر، قصة الديانات ص325.

58. بوخنسكي، تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوربا تعريب، محمد عبد الكريم وافي، مؤسسة الفرحاني، طرابلس، ليبيا، ص27 إلى 37، (بتصرف).

59. انظر مقدمة جابر عصفور لكتاب: عصر البنيوية لا ديت كيروزيل ط 2 ماي 1986-البيضاء، ص5.

60. أديت كيروزيل، عصر البنيوية، ص9.

الوسوم

د. سعيد شبار

• أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة، والعقيدة والأديان المقارنة، بجامعة السلطان مولاي سليمان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بني ملال.
• رئيس وحدة التكوين والبحث للسلك الثالث: الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات، كلية الآداب بني ملال.
• رئيس مركز دراسات المعرفة والحضارة، كلية الآداب بني ملال.
• رئيس مجموعة البحث في المصطلح، كلية الآداب بني ملال.
• خريج دار الحديث الحسنية، الرباط (1989).
• عضو بالعديد من الجمعيات العلمية والثقافية.
• أستاذ زائر للعديد من الجامعات الوطنية والدولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق