مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

في الحاجة إلى التصوف أو نحو أخلاق الفطرة

   التصوف كتربية روحية، يتوجه مباشرة إلى قلب الفرد، باعتباره- أي القلب- مكان الصلاح والفساد في الإنسان، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.[1]

   والصوفية الكرام أخذوا على عاتقهم مشعل الإصلاح، وجعلوا مشروع إصلاحهم ينطلق من النفس والقلب، إذ هما مدار الصلاح أو الفساد، مصداقا لقوله جلّ جلاله: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾[2]؛ فلا فلاح لدعوة ليس من مقاصدها تخريج من قال فيهم الله تعالى: ﴿أتى الله بقلب سليم﴾.[3] ومن ﴿جاء بقلب منيب﴾.[4]

   ومن هذا المنطلق عمل الصوفية على تأهيل الفرد ليكون صالحا مصلحا، صالحا لنفسه، مصلحا لغيره، وذلك عبر تربيته تربية صالحة سليمة، متوازنة ومنسجمة مع واقعه وروح عصره، ومرتبطة بحاجيات ومتطلبات مجتمعه، بحيث تجعله قادرا على التعامل مع محيطه بكل إيجابية وفاعلية، غير منعزل أو متهرب من واقعه سواء خيره أو شره، حلوه أو مره…

   إن أساس التصوف في الواقع هو تربية الذوق، والخلق الكريم في الإنسان، والخلق الكريم ليس إلا ذوقا سليما، تتغلب به شخصية الإنسان على شخصية الحيوان…، وقد اهتم الصوفية أكثر بالأخلاق، بل جعلوها في مناهجهم هي العِماد والسلم، وهي عمود أمرهم كله، بحيث لو رفعتَ كلمة التصوف، ووضعتَ بدلها كلمة الأخلاق لما فارقت الحقيقة، ولما جانبت الواقع في قليل أو كثير، لأن العمدة في التصوف على مجاهدة النفس وتطهيرها، وتحليتها بكل جمال وكمال، وهذا جماع مكارم الأخلاق، ولهذا الاعتبار جعل البعض التصوف مرادفا للأخلاق حتى قيل: “التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الصفاء”.[5]

   والصوفية يأخذون بالمبدأ الأخلاقي المحمدي: “طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس”.[6] ولذلك يقول ابن عطاء الله السكندري- وهو ممن جمع بين عمق التفكير وروعة التعبير-: “تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حُجب عنك من الغيوب”.[7]

   وقد قدّم الصوفية النموذج الأمثل للفرد الصالح المصلح الذي يكون له الأثر الواضح ليس فقط على نفسه، بل يتعدى ذلك إلى مجتمعه عبر القدوة الصالحة، من قبيل المساهمة في بناء المجتمع على أسس أخلاقية راقية ومتينة؛ لأن الأخلاق أساس بناء الحضارة وتقدم البشرية نحو مستقبل أفضل، والصلاح والإصلاح مرتبطان ارتباطا وثيقا بالأخلاق، فالرسل عليهم الصلاة والسلام كان منطلقهم الإصلاحي هو الاهتمام بالجانب الأخلاقي، انطلاقا من دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم:”إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.[8]

    وإن مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة، لمن أعظم ما يربي على مكارم الأخلاق، ويساعد على غرسها في نفوس الأخوة والأصدقاء والأصحاب، فصاحب البصيرة النافذة، والهمة العالية ينتفع به كل من خالطه وصاحبه، ويؤثر فيه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمصاحبة الطيبين وتخير الصالحين فقال: “لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي”.[9]  وقد فهم الصوفية هذا الأمر فحثّوا مريديهم على حسن الصحبة، وصِدق الأخوة بين أفراد الجماعة الواحدة في كل مكان، فالشيخ المربي، المتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو القدوة، يأخذ عنه المريد الأخلاق عمليا، فتصبح سلوكا وحالا، وهذا هو أثر الأخوة الصادقة، والرفقة الحسنة، وهذا ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث؛ فعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة”.[10]

    وقد اهتم الصوفية بالرفقة والصحبة والاختلاط بالمجتمع، لما فيه من نقل للقيم وغرس للأخلاق، وهذا هو منهج أهل القرن الفاضل، والعلماء من بعدهم…

     فالصوفي إذن، هو الذي يعمل جهده على أن يكون من السباقين للخير والعمل الصالح والارتقاء في الكمال الخلقي، ويجعل مصلحة مجتمعه ومحيطه من أولى أولوياته.

    وكان هؤلاء الصوفية على مر الزمان يبايعون الناس على التوحيد والإخلاص واتباع السنة، والتوبة عن المعاصي وطاعة الله ورسوله، ويحذّرون من الفحشاء والمنكر والأخلاق السيئة، والظلم والقسوة، ويرغبونهم في التحلي بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن الرذائل مثل الكبر والحسد والبغضاء، والظلم وحب الجاه، وتزكية النفس وإصلاحها، ويعلمونهم ذكر الله والنصح لعباده والقناعة والإيثار، وعلاوة على هذه البيعة التي كانت رمز الصلة العميقة الخاصة بين الشيخ ومريديه أنهم كانوا يعظمون الناس دائما، ويحاولون أن يلهبوا فيهم عاطفة الحب لله سبحانه، والحنين إلى رضاه، ورغبة شديدة لإصلاح النفس وتغيير الحال…[11].

    لقد انفرد الصوفية بركن عظيم من أركان الدين، لا يطاولهم فيه مطاول، وهو التهذيب علما وتخلقا وتحققا، ثم لما دوّنت العلوم في الملة، كتب شيوخ هذه الطائفة في الأخلاق ومحاسبة النفس….[12]

     قال الأستاذ والمؤرخ محمد راغب الطبّاخ في كتابه “الثقافة الإسلامية”: “فإن كان التصوف عبارة عن تزكية النفوس وتصفية الأخلاق، فنعم المذهب ونعم المقصد، وذلك هو الغاية من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد تأملنا سيرة الصوفية في القرون الأولى من الإسلام، فوجدناها سيرة حسنة جميلة مبنية على الكتاب والسنة.[13]

    وقد صرح بذلك سيد هذه الطائفة أبو القاسم الجنيد- رحمه الله تعالى- حيث قال: “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم”.[14] وقال أيضا– قدّس الله سره-: “من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيّد بالكتاب والسنة”.[15]

    ولغيرهم في هذا الباب عبارات كثيرة…، وهؤلاء فوق ما اتصفوا به من تهذيب النفس والورع والزهد والعبادة، قد قاموا في عصورهم بالواجب عليهم؛ من إرشاد الخلق إلى الحق، والدعوة إليه، وصدّهم الناس عن التكالب على الدنيا والاشتغال بحطامها، والاسترسال في الشهوات والملذات مما يؤدي إلى الانهماك في المحرمات والغفلة عن الواجبات، وما خُلق الإنسان له، وتكون نتيجة ذلك انتشار الفوضى وظهور الفساد وكثرة البغي والهرج…

     إن حقيقة التصوف الكاملة هي مرتبة الإحسان الذي حدّده رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، في حديث جبريل عليه السلام حين قال: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.[16] ومن هذا نفهم أن كثيرا من أدعياء التصوف لا ينطبق عليهم ذلك القانون الدقيق العميق، فهم عن حقيقته خارجون.[17]

    وما التربية الصوفية إلا سعي متواصل لتحرير الإنسان من هوى نفسه…، وهي تساهم في تخليق الحياة الخاصة وكذا الحياة العامة، بحيث تضع في حياة وروح الإنسان معاني الطمأنينة والجمال والقيم النبيلة، وتحد من تهافت النفس وراء إشباع رغباتها ونزواتها غير المشروعة، والتي تضر بمستقبلها،- وقد يتعدى ذلك الضرر إلى مستقبل الإنسانية جمعاء، سواء في العاجل أو الآجل-، وتأخذ بيد الفرد نحو تأسيس حضارة روحية متميزة ترتقي بنا من درك البهيمية إلى أفق الروحانية الأخاذة، والاطمئنان القلبي والسعادة الحقيقية.

    وهذا ما يخول لنا القول بأن أخلاق الإحسان لازمة لتنمية الإنسان، لأنه “كلما اتسعت لدى الشخص دائرة التعلق بفعل التربية السلوكية والتزكية الروحية وكانت أشمل وأسمى، كلما اتسعتا لديه تزامنا دائرتا التحقق والتخلق، فيحصل عنده التوازن النفسي الهادف إلى تماسك الشخصية وتكاملها، فيتقبل الفرد ذاته والآخرين عن طريق التحكم الذاتي وما يقتضيه من حرية ورضاء، فتترسخ لدى الشخص قيم الانتماء (الروحية والأسرية والوطنية والإنسانية) في أفق فضيلة التعارف وما تفرضه من نضج انفعالي يتجاوز ضيق الأنانية وعدم الثقة بالنفس وبالآخرين، وهي خصائص لازمة لتحقيق كل عملية تنموية هادفة. وعلى عكس كل هذا، كلما ضاقت لدى الشخص دائرة التعلق وكانت جزئية بفعل تربية قاصرة وإهمال للتزكية الروحية، كلما ضاقت لديه تزامنا دائرتا التحقق والتخلق، فيحصل لديه سوء التكيف ومظاهر اعتلال الصحة النفسانية، فيتوه الفرد عن نفسه ويعزف عن الآخرين، فتسود بين أفراد المجتمع السلبيات من تطرف وانحلال وعدم الثقة في الآخرين (مواطنين أو مؤسسات مسؤولة عن تدبير الشأن العام)، مما يترتب عليه تراجع في قيم الانتماء (روحيا وأسريا ووطنيا وإنسانيا) فتترسخ بالتالي الأنانية واللامبالاة، وعندها لا مجال للحديث عن أية عملية تنموية”.[18]

    وبالتالي فإن زكّى الإنسان نفسه وقلبه وطهّرهما، صار إنسانا طيبا صالحا، جميل الأخلاق والحال، صالحا بين يدي الله عز وجل، محبوبا عند الناس، مرتاح الضمير، سليم التفكير، سعيدا في دنياه وأخراه.

    فالتصوف بتربيته الروحية إذن، هو روح الإسلام وقلبه السليم، وليس أعمالا ظاهرية وأفعالا شكلية لا حياة فيها ولا روح، إنه الكفيل بتوجيه الإنسان نحو طريق الهداية، والسمو الأخلاقي، والرقي في مدارج السالكين…، وبهذا يمكن التأكيد على أن التربية الصوفية يمكنها أن تسهم في إعادة ترسيخ الأخلاق في المسلم المعاصر كي لا ينجرف مع آفات النفس والهوى…

الهوامـــــش:

[1]– صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم الحديث: 25.

[2]– سورة الرعد، الآية: 12.

[3]– سورة الشعراء، الآية: 89.

[4]– سورة “ق”، الآية: 33.

[5]– الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري (465ھ)، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، ط: 1426ھ-2005م، ص: 281.

[6]– فردوس الأخبار، الديلمي، تحقيق: فوّاز أحمد الزمرلي، ومحمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1407ھ-1987م، 3/21.

[7]– إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد بن عجيبة، تحقيق: عاصم إبراهيم الخيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2009م، ص: 79.

[8]– موطأ الإمام مالك، كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق، رقم الحديث: 8، ص: 479.

[9]– سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن، رقم الحديث: 2390.

[10]– صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب في العطّار وبيع المسك، رقم الحديث: 2101.

[11]– ذكره عبد القادر عيسى في: حقائق عن التصوف، ط: 1426ھ-2005م، ص: 384.

[12]– مجلة المنار، السنة الأولى، ص: 726.

[13]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 377.

[14]– الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، ص: 430.

[15]– الإمام الجنيد سيد الطائفتين: مشايخه، أقرانه، تلامذته، أقواله، كتبه، رسائله، أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1427ھ-2006م، ص: 150-151.

[16]– صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله    سبحانه وتعالى، رقم الحديث: 1.

[17]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 380.

[18]– مجلة قوت القلوب: مجلة علمية محكمة تُعنى بقضايا التصوف الإسلامي، عدد مزدوج: 2-3.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق