مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات محكمة

فقه الحديث وعلاقته بالاجتهاد

المقدمة:

الحمد لله الذي عز وجهه، وعلا قدره: فانحطت  دونه سوامي الأقدار والأفكار، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، نحمده على ما علم من البيان،  وألهم من التبيان،  كما نحمده على ما أسبغ من العطاء،  وأسبل من الغطاء،  ونعوذ به من ضعفة النظر وفساد المعتبر، وشرة اللسن  وفضول الهذر، كما نعوذ به من معرة اللكن، وفضوح الحصر، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى الآل والصحب والتبع الأخيار

وبعد، فإن غاية كل متهمم بسمي منزلة وجميل حظوة أن ينال من التعقل ما به يندرج في جملة النظرة المعتبرين، والقرأة المتفقهين؛ تقصدا ـ بخالص الإخلاص ـ إلى سيما الخيرية الناضرة، والإراثة الرابحة.

وتلك منزلة لأخدانها منيفة ـ لو صفت من كدور منغصات، وخلصت من شائبة تكليف إلى حميد تشريف ـ ؛ لما للتفقه وأصوله من تمام الصلة بالله خطابا وتفهما وتنزيلا، وشريف الإنابة عن رسله بيانا وتأصيلا، وكمال الخدمة لخلقه إرشادا وتدليلا:

ذلك ما ارتامه سلفاً الجم الغفير ممن ركب متن الاجتهاد، وتجافت جنوبهم عن لين المهاد، من فقهاء هذه الملة خير العباد؛  عكوفا على النظر في خطاب الله لخليقته، وبيانِ نبيه لأمته: أثمر من قواعد النظر، ومبادئِ التفهم، وأصولِ الاستدلال، ما عن مثله عجزت الأمم ـ سواها ـ من الأحمال الثقال.

تراث أثيل، وذخر أصيل تخذ من خطاب الله وبيانِ نبيه الأرومة والجذم، ومن لسان العرب المهيعَ الأفيح، والسبيل الأنجح: ثم تشعب إلى شُعب استحالت علوما: قُيدت في مصنفات جياد أسهر ذووها النواظر؛ لتصنيفها، وأتعبوا الخواطر في تقريظها: ومنها ما نحن بسبيله من مذاكرة «فقه الحديث وعلاقته بالاجتهاد» الذي ينشطر بعد هذه المقدمة إلى مدخل في تحديد العلاقة المفهومية بين فقه الحديث والاجتهاد، ومباحث ثلاث سيأتي الإبانةُ عنها:

مدخل في العلاقة المفهومية بين «فقه الحديث» و«الاجتهاد»

تحديدا لتمام الصلة بين الكلمتين، وإبانة عن أوجه العلاقة بين المفهومين، انطلاقا من الإطلاق العربي الأول للكلمتين: «فقه ـ اجتهاد»:

فالأولى ترتد في معناها الحسي الذي هو دأب العرب في إطلاقها الأول إلى معنى الشق والفتق، قال ابن الأثير: «واشتقاقه من الشق والفتح»، وإنما مثله في ذلك مثَل أخويه بالنسب معنى: «الشرح والتفسير»: فالأولى: كلمةٌ دلت في أصلها على «الفتح والبيان»، قال: الليث: «الشرح والتشريح: قطع اللحم عن العضو قطعا، وكلُّ قطعة منها شرحة»، والثانيةُ: دلت بأصالتها على الكشف والفصل، ولذلك قال ابن الأعرابي: «الفسر: كشفُ ما غطي»، وقال الليث: «التفسرة: اسم للبول الذي يَنظر فيه الأطباء يستدلون بلونه على علة العليل»، فهذا تحليل وتفصيل حسي أُخذ منه قولُهم: «وكلُّ شيء يُعرف به تفسيرُ الشيء ومعناه فهو تفسرتُه»([1])

فهذا جذم معنى هذه الكلمات، ومأرزها في الإطلاق العربي الأول، ثم استُعملت كلمةُ «فقه» على سبيل من التوسع في لازم المعنى وما يتفصى من خلال إعماله، وذاك ما أومأ إليه ابن فارس بقوله: «الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك  الشيء والعلم به»([2]وهو من باب إطلاق سببٍ على مسبب به ؛ إذ الإدارك أو العلم ليس يحصل بالشيء  إلا من خلال شق وفتح له حسا أو معنى. وأوغل في التوسع من أعمله في الفطانة تسميةً وإطلاقا، كما في اللسان: «والفقه: الفطنة، قال عيسى بن عمر: قال لي أعرابي: شهدت عليك بالفقه، أي: الفطنة»([3]) ؛ لأنها تلزمه، ولا يصح على التمام إلا بها، ومن ثمة كان الشق الحسي والتحليل المعنوي الخطأُ مع فرط غباوة بمنأى عن مسمى الفقه والتفقه.

ثم أصابه نوع من القصر شرعا على الشق المعنوي دون الحسي، أعني تحليل الخطاب والنظرَ فيه إفرادا وتركيبا؛ إلغاءً لشطري معنى الكلمة من الاعتبار  عند الإطلاق، ثم كان لها ثانيةً حظ من  التصرف اعتبارا وإهمالا، وهو  تخصيص لمخصص؛ من جهة اعتبار النظر في خطاب التشريع حقيقةً شرعية، والنظرِ فيما سواه من الكلم حقيقةً لغوية، وفي الثالثة إمعان في التخصيص بالخطاب العملي([4])؛ ليندرئ ما عداه مما له وثيق الصلة بالعقيدة أو السلوك..، وهكذا تدرجت هذه الكلمة من الشق الحسي، إلى التفكيك والتحليل المعنوي؛ فهما للخطاب، واستنباطا منه للأحكام؛ بذلا للوسع نظرا، واستفراغا للجهد ادراكا.

وبالمعاناة والكد طلبا للمعنى تلتقي مع كلمة «اجتهاد»، التي يرتد أصلها إلى «المشقة، ثم يحمل عليه ما يقاربه»([5])، وإليه الإشارة بقول الراغب: « الجَهد والجُهد الطاقة والمشقة، والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة»([6])  فالكلمة  في نأي عما خلا من كلفة، أو كان عريا عن بذل وسع، فلا يقال: اجتهد في حمل القلم أو الكتاب، ولكن في حمل صخرة([7])  وما كان مثلها حسا أو معنى، وذلك معنى قولهم في رسم الاجتهاد عرفا: «استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية»، فيتحصل من الكلمة كلمتان: مشقة، لإدراك معنى، ومن كلمة «فقه» كلمتان أيضا: مشقة  لفهم خطاب.

لكن يخرج عن محصل المسطور في علاقة الكلمتين؛ تفيئا بأثيل استعمالهما عربية، والتفاتا إلى إضافة «فقه الحديث» تخصيصا، واعتبارا بـ «مفهوم الاجتهاد» إطلاقا وشمولا أمور ثلاث:

الأول: ما ثبت من الحكم الشرعي بالدليل القاطع دلالة وثبوتا، كشعائر الإسلام الظاهرة، والمقدرات الشرعية([8])..

والثاني: ما يبتغيه مفهوم الاجتهاد من ضرورات النظر تنقيحا وتخريجا وتحقيقا، فالأول فقه دلالة، والثاني فقه قياس، والثالث فقه تنزيل، فكان أعم مجالا وأوسع نظرا من «فقه الحديث».

والثالث: ما يرتامه قصر الإضافة في «فقه الحديث» من النظر في دلالة الخطاب سنةً، دون دلالته كتابا؛ إبانة لمشكله، وتقييدا لآبده، وتفسيرا لغريبه، وإعرابا لمجمله، ووقوفا عند متشابهه، وتأكيدا لمحكمه وواضحه.

 فحاصل المحصل أن علاقة الكلمتين «فقه ـ اجتهاد» متينة راسخة في مشقة وبذل وسع لفهم وإدراك خطاب التشريع سنةً، على وفق ما تنزلت به من اللسان، مما يعتاده أهله، وتحذقه عامته.

وغير خاف انطلاقا من قوله تعالى: ﱹوما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهمﱸ [إبراهيم:4 ]. أن هذه الشريعة كتابا وسنة قد تنزلت بلسان العرب ؛ لكون المنزل عليه عربيا، والمنزلِ إليه بالأصالة عربيا، فكان بلا بد أن تتتزل على مقتضى لغتهم، ومعهودهم في الفصاحة، وأسلوبهم في البيان، وقد كان مما عهدت العرب من «لسانها أن تخاطب بالعام يراد به ظاهرُه، وبالعام يراد به العامُّ في وجه، والخاصُّ في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهرُ يراد به غيرُ الظاهر، وكلُّ ذلك يُعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام يُنبئ أولُه عن آخره، أو آخرُه عن أوله، وتتكلم بالشيء يُعرَف بالمعنى كما يُعرف بالإشارة، وتُسمي الشيءَ الواحد بأسماء كثيرة، والأشياءَ الكثيرةَ باسمٍ واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تَعَلَّق بعلم كلامها»([9]).

وإذ كان خطابُ الله من كتابه المبين، وسنته نبيه الكريم على هذا النمط من البيان؛ فطلبُ فقهه ـ إذن ـ إنما يتأتى من جهة النظر في لسان العرب، ومعهودها في الخطاب، ومهيعها في بلاغة المنطق، وفصاحة اللسان؛ قال الشافعي: «البيان اسم جامع لمعاني مجتمعةِ الأصول متشعبةِ الفروع، فأقلُّ ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآنُ بلسانه، متقاربةُ الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيدَ بيانٍ من بعض، ومختلفةٌ عند من يجهل لسانَ العرب»([10]).

فغاية ـ فقه الحديث ـ بعدما داخل الناس من العجمة ما أفسد معهودها في البيان، وخلخل مهايعها في الخطاب، الإبانةُ عن مراد نبي الله من خطابه على وفق لسانه؛  وقوفا عند دلالته منطوقا ومفهوما، وإعراباً عن قوتها وضوحا وخفاء، وكشفاً عن مجالها تقاصرا وشمولا، وهو ما عبر عنه الشافعي في الرسالة بقوله: «باب كيف البيان»([11])، وبه تنشطر هذه الكلمة بعد هذا المدخل النظري إلى مباحث ثلاث عملية، تبرز عمليا أهميةَ فقه الحديث في الاجتهاد:

المبحث الأول:الإبانة عن دلالة خطاب السنة منطوقا ومفهوما

 انطلاقا من قوله سبحانه:  ﱹ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهمﱸ [النساء: 82] يتبدى أن النظر في خطاب السنة تفهما وإفهاما في مسيس حاجة إلى ادراك مسطور قواعد، ومزبور أركان بها قوام الاستنباط واستخراج دلالات الخطاب، وهو ماحفلت به كتب الأصول تنظيرا، واحتفى به شراح الحديث وغيرهم عملا وتنزيلا، نظراً في كيفية دلالات  متن الحديث منطوقاً، وتصنيفها حسب سوقها أصالة أوتبعا، إشارة واقتضاء؛ ليتم بعدها مكيثُ اقتراء في مفهوم المتن موافقةً أو مخالفة؛ وبهذا تُمهد الطريقُ لاحبةً للفقيه المجتهد نحو أدلة قد وضحت كيفياتُ دلالاتها على الأحكام، وأبان فقهُ الحديث وفسرُه قوتَها من حيث القطعية والظنية دلالةً؛ حتى إذا ما تعارضت هذه الدلالات فيما بينها، واحتيج إلى المراجحة بعد تعذر الجمع والتأويل كانت السبيلُ إلى ذلك سالكةً؛ فيقدم ما أخذ من عبارة النص صراحة، على ما أخذ منها ضمنا أو إشارة، ويرجح ما استفيد من الأحكام دلالةً من منطوق الخطاب على ما أخذ منه موافقة، ويُقدم الموافق في حال التعارض على ما يستفاد من فقه الحديث مخالفةً..، وهكذا يُنقح المناط فيهيعُ الصراط وتُسلك الجادة في الاستنباط، وللإبانة عما زُعم هـهنا نماذج ثلاث هي مطالب المبحث:

النموذج الأول: هو قوله صلى الله عليه وسلم في حكم زكاة الفطر: ﱹ أغنوهم عن المسألة في هذا اليومﱸ([12]) فقد دل دلالة ظاهرة بعبارته ومنطوقه الصريح على وجوب أداء صدقة الفطر في يوم العيد إلى الفقير؛ استنادا إلى مساق أصيل الخطاب، وفعل الأمر الدال على الحتم، عند انتفاء القرائن. بيد أنه قد دل بإشارته ـ منطوقا غير صريح ـ على جملة الأحكام نوردها هـهنا بغض النظر عن الموافق والمخالف فيها: 

منها: أنها لا تجب هذه الزكاة إلا على الغني؛ لأن الإغناء إنما يتحقق من الغني.

 ومنها: أن الواجب الصرفُ إلى المحتاج؛ لأن إغناء الغني لا يتحقق، وإنما يتحقق إغناء المحتاج.

 ومنها: أنه ينبغي أن يعجل أداءها قبل الخروج إلى المصلى؛ ليستغني عن المسألة ويحضرَ المصلى فارغ القلب من قوت العيال، فلا يحتاج إلى السؤال.

ومنها: أنه لا يجوز صرفها إلا إلى فقراء المسلمين ففي قوله «في مثل هذا اليوم» إشارةٌ إلى ذلك، يعني أنه يوم عيد للفقراء والأغنياء جميعا، وإنما يتم ذلك للفقراء إذا استغنوا عن السؤال فيه.

ومنها: أن وجوب الأداء يتعلق بطلوع الفجر؛ لأن اليوم اسم للوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإنما يُغنيه عن المسألة في ذلك اليوم أداءٌ فيه.

ومنها: أنه يتأدى الواجب بمطلق المال؛ لأنه اعتُبر الإغناء، وذلك يحصل بالمال المطلق، وربما يكون حصولُه بالنقد أتمَّ من حصوله بالحنطة والشعير والتمر.

 ومنها: أن الأولى أن يَصرف صدقته إلى مسكين واحد؛ لأن الإغناء بذلك يحصل، وإذا فرقها على المساكين كان هذا في الإغناء دون الأول، وما كان أكمل فيما هو المنصوص عليه فهو أفضل.

 فهذه جملة أحكام عرفناها بإشارة النص، وهو معنى جوامع الكلم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﱹ أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا ﱸ([13])

أما النموذج الثاني: ففيما يستفاد من خطاب السنة إيماء ([14]): وهي عبارة عن اقتران وصف بحكم مفيد عليته ضرورة: ومن أمثلة ذلك قول الأعرابي:  ﱹهلكت وأهلكت، وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان ﱸ([15])  فقد أوجب الإمامُ مالك وغيره الكفارةَ بالأكل والشرب عمدا في نهار رمضان؛ استنادا إلى دلالة النص إيماءً، بعد إيجابها بالوقاع فيه عمدا منطوقاً من حديث الأعرابي صراحة كما تقدم،  قال الإمام الباجي في المنتقى مبينا كيفية استنباط إيجاب الكفارة على الآكل عمدا في نهار رمضان من دلالة اللفظ إيماء: « الفطر يكون بأحد ثلاثة أشياء: بداخل وهو الأكل والشرب، أو إيلاجٍ وهو مغيب الحشفة في الفرج .. أو بخارجٍ وهو المني والحيض، فهذه معان يقع بجميعها الفطرُ وإفسادُ الصوم، فإذا وُجد شيءٌ من ذلك في يوم من رمضان فسد الصوم سواء كان بعذر أو بغير عذر: فأما المعذور فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 وأما غير المعذور فإن الكفارة تلزمه بذلك كله عند مالك على أي وجه وقع فطرُه من العمد والهتكِ لحرمة الصوم ، ..والدليل على ما نقوله أن هذا قصد إلى الفطر وهتكِ حرمة الصوم بما يقع به الفطر فوجبت الكفارة كالمجامع»([16]) ، فأنت ترى كيف نقح مناطَ الحكم من إيماءِ اللفظ إلى معنى أعم منه هو «هتك حرمة الصوم»، ثم استدل بعموم المعنى على وجوب الكفارة على الآكل والشارب عمدا في نهار رمضان، وليس هذا من باب القياس كما قد يظن، بل من باب الخاص أريد به العام، تنقيحا لمناط الخطاب الذي يعد ـ عند التحقيق ـ في ظواهر الألفاظ، قال الشاطبي: «وهو خارج عن باب القياس..وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظاهر»([17]).

أما النموذج الثالث: ففيما يمكن أن يؤخذ من الأحكام انطلاقا من دلالة الاقتضاء، وهي دلالة اللفظ على محذوف لا يستقل الكلام دونه صدقا أو صحة، وهي متوافرة جدا في نصوص خطاب الشارع كتابا وسنة، وقد تنازعت فيها الفقهاء وجودا وعدما، عموما وخصوصا، فكانت سببَ اختلافهم في الأحكام في كثير من أبواب الفقه ومصنفات الحديث:

ومن أمثلة اختلافهم في ضرورة التقدير وعدمه قولُه تعالى: ﱹ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخرﱸ .[البقرة:183]

فجمهور العلماء على أن ثمة مطويا في الخطاب يجب تقدير ه ضرورة، وذلك قوله: «فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة» ، فيكون المعنى أن من سافر في نهار رمضان ثم أفطر في سفره فعليه أن يقضي ما أفطر في حضره بعد سفره، وعليه فمن شاء أن يصوم في سفره ذاك فصيامه صحيح بدليل الخطاب من خصوص الآية.

وخالف في ذلك الظاهريةُ، وزعموا ألا حاجة إلى تقدير كلمة «فأفطر» ، وأن مساق الخطاب واضح في إيجاب الفطر على المسافر، وأنه لا يصح منه صوم فيه، سيما وعدمُ التقدير أولى من التقدير، والحقيقةُ أحق بالإعمال من المجاز، وعدمُ التأويل أرجحُ أخذاً من التأويل، وهو كلامٌ به من الوجاهة ما أجاء الفقهاءَ والمفسرين وشراحَ الحديث إلى الانتقال في الحجاج من دلالة اللفظ ذاته إلى دلالة السنة، قال ابن دقيق العيد: «والظاهرية خالفت فيه أو بعضُهم؛ بناءً على ظاهر لفظ القرآن من غير اعتبارهم للإضمار، وهذا الحديثُ يرد عليهم»([18])

سوى ما كان من الإمام ابن العربي ـ وهو الذي وضع كتابَ «القبس» نكاية في أهل الظاهر ـ قال: «هذا القول من لطيف الفصاحة؛ لأن تقريره: «فأفطر فعدة من أيام أخر».. وقد عُزي إلى قومٍ : إن سافر في رمضان قضاه، صامه أو أفطره، وهذا لا يقول به إلا ضعفاء الأعاجم؛ فإن جزالةَ القول وقوةَ الفصاحة تقتضي «فأفطر»، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصومُ في السفر  قولاً وفعلا »([19]). لكن قوله «قد ثبت» مشعر بإحساسه بضعف قيله، سيما وأن في ذوي الفصاحة وأهل الجزالة من قال به.([20])

وهكذا بدا أن جمهرة الفقهاء والمفسرين وشراح الحديث متفقة على ضرورة التقدير؛ لصحة الكلام أو صدقه، لكنهم قد يختلفون في المطوي ما هو؟ ثم يختلفون في كونه عاما أو خاصا. ومن أمثلة ذلك في فقه الحديث قولُه صلى الله عليه وسلم: ﱹ إن الله وضع عن أمتي الخطأَ والنسيانَ وما استكرهوا عليه ﱸ  وغان عن البيان أن وضعَ الخطأ أو النسيان أو الإكراه بعد وقوعه محال؛ فيصير الكلام كذباً، ومن هـهنا احتيج إلى ضرورة التقدير لصحة كلام النبوة المنزه عن الكذب، غير أنهم بعد اتفاقهم على ضرورة التقدير اختلفوا في المقدر: هل يقدر خاصا؛ بناء على أن الضرورات تقدر بقدرها، وبأقل ما يمكن فيها، أو يُقدر عاما شاملا.

فالفريق الأول الذي يميل إلى تقدير لفظ خاص قالوا في فقه الحديث: «إن الله وضع عن أمتي «المؤاخذةَ بالعقاب في الآخرة» عما فُعل خطأً أو نسيانا أو إكراها.

والفريق الثاني من شراح الحديث الذي يرى عموم المقتضى قدَّره بقوله: إن الله وضع عن أمتي «حكم» الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه، وهو لفظ عام قد شمل الحكم الدنيوي من حيث الصحة شرعا، والحكمَ الأخروي وهو المؤاخذة بالعقاب([21]).

وبناء على التقديرين اختلفت الناس في كثير من الأحكام:

فمن تكلم في صلاته مخطئا أو ناسيا بطلت صلاته؛ بناء على التقدير الخاص؛ لأن المغتفر هو المؤاخذة بالعقاب الأخروي، أما الحكم الدنيوي فغير مغتفر. وصحت بالنسبة للتقدير العام؛ لأن الاغتفار يشمل الدنيوي والأخروي.

ومن أكل ناسيا أو مخطئا أو مكرها لزمه القضاء في خصوص فقه هذا الحديث؛ بناء على التقدير الخاص، ولا قضاء عليه؛ بناء على التقدير العام.

ومن ذلك طلاق المكره؛ فهو ناجز بالنسبة للتقدير الخاص، ولا يصح بالنسبة للتقدير العام([22]).

فأنت ترى أن فقه هذا الحديث؛ انطلاقا من عموم مقتضاه أو خصوصه قد كاد يشمل أبواب الفقه برمتها، وأحكامَ الخطإ والنسيان والإكراه بجملتها، وذلك ما يؤكد أهمية فقه الحديث في الاجتهاد والتفقه.

المبحث الثاني: الإبانة عن قوة دلالة خطاب السنة وضوحا وخفاء

قد سلف آنفا أن مهيع العرب في كلامها أن تستعمل الظاهرَ يراد به غيرُ الظاهر، وتتكلمَ بالكلام ينبئ أولُه عن آخره، أو آخرُه عن أوله، وتُسمي الشيءَ الواحد بأسماء كثيرة، والأشياءَ الكثيرةَ باسمٍ واحد، ومن هـهنا يَعرض الخفاء والظهور في كلامها، والنبي صلى الله عليه وسلم في صليبتها، فتشتد الحاجة تفقها في الحديث إلى الإبانة عن مراد خطاب الله سنة، وإزالةِ ما قد يعرض له من الإشكال والانبهام، وإيضاح دلالةِ ما به حاجة إلى الإيضاح، ثم تصنيف قوة تلك الدلالة وضوحا وإجمالا؛ للمراجحة فيما بينها عند التعارض، وللإفادة منها قوة أو ضعفا ظنيةَ الأحكام أو قطعيتها؛ ليترتب عن كل ذلك مسائل فقهية كثيرة غزيرة، منها: الفرق اللائح بين منكر القطعي ومنكر الظني، وما يترتب عن ذلك حكما ومَوقفا.

وكل ذلك مبثوث في كتب فقه الحديث وشروح السنة، وكذا في مصنفات غريب الحديث، ومشكله ومتشابهه، على التفصيل؛ لأن هذا الباب قد استوعب الصيغ برمتها، وأساليبَ الخطاب على جملتها؛ لكونها لا تخرج أن تكون مجملةً أو مبينة، ظاهرةً أو مؤولة، أو نصاً في محل نزاع، نحوُ قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة الأسلمي في شأن الشاة التي ضَحى بها: ﴿ولن تجزئ أحدا بعدك﴾([23]).

 أما ظواهر الألفاظ في الحديث فغزيرة، منها: مطلق صيغة الأمر: ظاهرة في الوجوب والتراخي، وعدم التكرار، مؤولة في الندب والإباحة، والفوريةِ والتكرار، ومطلقُ صيغة النهي: ظاهرة في التحريم والتكرار والفورية، مؤولة في التنزيه والإباحة، والمرة والتراخي. ومطلقُ صيغ العموم: ظاهرة في الشمول موؤلةٌ في الخصوص أو التخصيص، ولنكتف هـهنا بمثالين اثنين قد  أشكل معناهما على شراح الحديث، فأثمر اختلافا بينا بين مذاهب الفقهاء:

الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: ﱹ البينة على المدعي، واليمين على من أنكرﱸ([24])  فرغم ما يتبادر بادئ النظر من وضوح دلالته على المراد إلا أنه عند التنزيل والإعمال به من الخفاء ما به وقع النزاع في كثير من الأحكام؛ ولذلك  قال ابن فرحون: «اعلم أن علم القضاء يدور على معرفة المدعي من المدعى عليه؛ لأنه أصل مشكل، ولم يختلفوا في حكم ما لكل واحد منهما، وأن على المدعي البينةَ إذا أنكر المطلوب، وأن على المدعَى عليه اليمينَ إذا لم تقم البينة، وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تحديد المدعي والمدعى عليه»([25]).

ومن ثمرات هذا النزاع في التحديد مسألةُ تضمين الصناع عند مالك، فقد رآى رحمه الله أن الصانع مدع، فلا يقبل قولُه إلا بيمينه؛ لقرائن حافة ثبتت لديه، وغيره رآه مدعى عليه، قال ابن عبد البر: «والأصل في هذا معرفةُ المدعي على المدعى عليه، والقول أبدا عند جميعهم قولُ المدعى عليه، إن لم تكن للمدعي بينة، فمن جعل رب الثوب مدعيا؛ فلأنه قد أقر أنه أذن للصباغ في صبغ الثوب، ثم ادعى أنه لم يعمل له ما أمره به..، ومن جعل القول قول رب الثوب فحجته: أن الصباغ أحدث في ثوب غيره ما لم يوافقه عليه ربه، ولا بينة له، وصار مدعيا، وربُّ الثوب منكر لدعواه أنه أذن له في ذلك العمل، فالقولُ قوله؛ لإجماعهم أنهما لو اتفقا على أنه استأجره على عمل ثم ادعى أنه عمِله، فقال رب المال: لم يعمله، فالقول قول رب العمل»، ثم استطرد ـ رحمه الله ـ مبينا ـ اجتهادا منه ـ وجه الفرق بين المدعي والمدعى عليه فقال:«المدعي متى أشكل أمرُه من المدعى عليه، فواجب الاعتبار فيه هل هو آخذ أو دافع، وهل يَطلب استحقاقَ شيء على غيره أو ينفيه، فالطالبُ أبدا مدع، والدافعُ المنكر مُدعى عليه، فقف على هذا الأصل تصب إن شاء الله»([26]). وهذا ما لخصه الباجي بقوله: «وضمانهم في الجملة مما أجمع عليه العلماء»([27]) إنما الخلاف في تحقيق المدعي والمدعى عليه.

والثاني: مما ورد محتمل المعنى إلى حد الإشكال قولُه صلى الله عليه وسلم:  ﱹإذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه ثم ركبتيه ﱸ  وفي الإبانة عن دلالته، وإزالةِ ما تُوهم من إشكاله، قال في مشكل الآثار: «قال قائل: هذا كلام مستحيل؛ لأنه نهاه إذا سجد أن يبرك كما يبرك البعير، والبعير إنما ينزل على يديه، ثم أتبع ذلك بأن قال: ﴿ولكن ليضع يديه قبل ركبتيه﴾، فكان ما في هذا الحديث مما نهاه عنه في أوله قد أمره به في آخره. فتأملنا ما قال من ذلك فوجدناه محالا، ووجدنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مستقيما لا إحالة فيه، وذلك أن البعير ركبتاه في يديه، وكذلك كل ذي أربع من الحيوان، وبنو آدم بخلاف ذلك؛ لأن ركبهم في أرجلهم لا في أيديهم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المصلي أن يخر على ركبتيه اللتين في رجليه، كما يخر البعير على ركبتيه اللتين في يديه، ولكن يخر لسجوده على خلاف ذلك، فيخر على يديه اللتين ليس فيهما ركبتاه، بخلاف ما يخر البعير على يديه اللتين فيهما ركبتاه، فبان بحمد الله ونعمته أن الذي في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام صحيح لا تضاد فيه ولا استحالة فيه»([28])

لكن ابن القيم وسواه لم يرتض هذا الجواب فقال ردا عليه: « إن قولهم: «ركبتا البعير في يديه» كلام لا يعقل، ولا يعرفه أهل اللغة، وإنما الركبة في الرجلين، وإن أُطلق على اللتين في يديه اسمُ الركبة فعلى سبيل التغليب »([29])؛ ولهذا التضارب استند مالك في المراجحة بين الاحتمالين على عمل أهل المدينة، قال ابن العربي: «فالهيئة التي رأى مالك منقولةً في صلاة أهل المدينة؛ فترجحت بذلك على غيرها».([30])

المبحث الثالث:الإبانة عن دلالة خطاب السنة عموما وخصوصا:

إذا تقرر أنه مما عهدت العرب من «لسانها أن تخاطب بالعام يراد به ظاهرُه، وبالعام يراد به العامُّ في وجه، والخاصُّ في وجه، وبالعام يراد به الخاص»، فقد تعين على سبيل من الحتم على الناظر في الحديث تفهما وإفهاما مكيثُ اقتراء وإمعانُ تأمل في صيغ العموم والخصوص، وما يعن له من أسباب الورود وقرائن الحال والقال؛ لتعيين المراد من دلالتها عموما أو خصوصا،  والوقوف عندها قطعا أو ظنا؛ وهو ما احتفت به المهرة من شراح الحديث في المذهب وسواه؛ فاستبينت من خلال تأملاتهم دلالة العام قطعا أو ظنا، وتُبُينت من شروحاتهم دلالةُ العام المخصوص، والعام الذي يراد به الخصوص([31])، تلف ذلك موفورا متناثرا، ولنكتف منه بحديث واحد ورد بصيغة العموم ظاهرا، لكن اختلفت في مراده مذاهب الأمصار  قصرا أو شمولا، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القاتل لايرث»([32])، فهذه صيغة عموم؛ لأنه اسم فاعل حلي بالألف واللام فأفاد العموم، فاستغرق على الظاهر من الصيغة أنواعَ القتل برمتها: والقتلُ ـ كما هو معلوم ـ قد يكون عمدا وقد يكون خطأ، والخطأُ يكون من مكلف و من غير مكلف، وقد يكون القتل الخطأ بالتسبب وقد يكون بالمباشرة.

فالشافعي تمسك هاهنا بعموم الصيغة ظاهرا، فقال: القاتل خطأ مطلقا لا يرث، ومالك نظر إلى معنى القصد فأسقط الحرمان عن القاتل خطأ، وأبو حنيفة قيد الحرمان بأمرين: أن يكون القتلُ مباشرا، ومن مكلف؛ تشوفا إلى معنى الجناية.

وهذه المعاني بذاتها، اجتلبت للقتل العمد؛ لأنه منقسم إلى محظور وغير محظور، وهذا قسمان: مباح وواجب، فالجمهور على إخراجهما؛ لكونهما لم يتحقق فيهما معنى الجناية، ولا معنى استعجال القصد، والشافعي تمسك بالعموم فقضى بحرمان الكل من الميراث.

ثم ثار خلاف في القاتل الموصى له: هل يحرم وصيته أولا؟ فمن رأى معنى قصد الاستعجال، أو كون الوصية في معنى الميراث، قال: لا يرث؛ إلحاقا له بالوارث، ومن ظهر له فرق أبداه، وقال: لا ينقاس. وثمة معان أخر هذه أهمها.

ولقائل أن يقول: إن هذا اجتهاد في تحقيق المناط لا في تخريجه، أعني فيمن هو قاتل على الحقيقة، حتى يشمله عموم نص «القاتل لا يرث»؛ إذ الجميع متفق على أن القاتل لا يرث، لكن يختلفون في القاتل ما هو؟ فالشافعي يرى أن كل تصرف فيه إهلاك للنفس داخل تحت مسمى القتل، فيشمل النص بعمومه الخطأ والعمد المحظور وغير المحظور،؛ ومالك يخرج الخطأ؛ لأنه ليس قاتلا في الحقيقة؛ إذ القصد والإرادةُ منتفية عنه هاهنا، وغيرَ المحظور؛ لأن الباغي قاتل نفسه على التحقيق، والقصاصَ أو الحد آيل إلى الإمام، وكذلك المتسبب الذي أخرجه أبو حنيفة، فإنه ليس قاتلا، ولذلك قال الغزالي في بيان مذهبه: «فكأنه يقول: ليس قاتلا تحقيقا؛ فإن هلاكه حصل بتخطيه ووقوعه فيه، لا بالحفر». والصبي أولى في إزاحة مسمى القتل عنه شرعا وعادة وعقلا..([33])  

فانظر رعاك الله إلى أهمية فقه الحديث في الاجتهاد، وكيف تنازعت الفقهاء هـهنا بالمراد من صيغة الحديث رغم ما يتبادر إلى الأذهان بادئ الرأي من العموم والشمول غير المراد عند التأمل عند جمهرة الفقهاء؛ خلافا للشافعي رحمه الله، قال مالك في الموطأ: «الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، أن قاتلَ العمد لا يرث من ديةِ مَن قَتَل شيئا، ولا من ماله. ولا يحجب أحدا وقع له ميراث. وأن الذي يَقتُل خطأً لا يرث من الدية شيئا. وقد اختُلف في أن يرثَ من ماله. لأنه لا يُتهم على أنه قتله؛ ليرثه، وليأخذَ ماله. فأحب إليَّ أن يرثَ من ماله، ولا يرثَ من ديته»([34]).

خاتمة:

وبعد فقد بدا أن فقه الحديث في باب الاجتهاد عريق، وفي استنباط الأحكام واستشراف مقاصدها أثيل؛ لما له من وطيد الصلة بالدلالات التي هي معترك الأنظار في الأصول، ومأوى النظار في تنقيح المناط أو تخريجه، وثاني الشرطين لمن رام رتبة الاجتهاد والانخلاع عن ربقة التقليد، قال الشاطبي: « إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها»([35])، ولا ريب أن أهم ما في الضرب الثاني فقه النص كتابا أوسنة، وأهم ما في مطلوبه مبحث الدلالة الذي يتوقف برمته على فهم لسان العرب ومهايعها في الكلم، وهو العلم الذي تتوقف صحة الاجتهاد عليه، قال الشاطبي: «فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه، فهو لا بد مضطر إليه؛ لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه، فلا بد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر.. والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية»([36])

ولأهميته بذلت الأوائل الوسع في شأنه، واستفرغت النبهة من النظار نفيس الأوقات في استنباطه من الكتاب والسنة تنقيحا وتخريجا؛ حتى قيل بجواز انقطاعه؛ إذ لا محذور مترتب عليه؛ لـ«أن الوقائع المتجددة ـ بالنسبة إليه ـ التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم ـ يعني تحقيق المناط العام ـ؛ لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين فيمكن تقليده فيه؛ لأنه معظم الشريعة، فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات»([37])

 ولهذا الملحظ نجد الاحتفال بتحقيق المناط أو فقه التنزيل والواقع أقوى من الحظة بفقه النص، وعليه يتنزل قول ابن القيم: «ولا يتمكن المفتي والحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط به علما. والنوع الثاني:فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا»([38])

وحاصل المحصل أن الاجتهاد ضربان: إما في درك الأحكام الشرعية، وإما في تطبيقها، فبالأول طفحت كتب التفسير والحديث والفقه وسواها، وهي ميسورة منقحة معلومة، أما الثاني ـ أعني اجتهاد التنزيل والتطبيق ـ فلا سبيل إليه إلا باستفراغ الوسع في كل زمان ومكان؛ لذلك لا قائل بارتفاعه؛ «ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون، وكله اجتهاد..».([39]) فهذه نسبة فقه الحديث من الاجتهاد، وعلاقته به والله أعلم.


([1]) ن تهذيب اللغة للأزهري (فسر)، (شرح)، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس كذلك.

([2]) مقاييس اللغة: (فقه)

([3]) لسان العرب لابن منظور (فقه)

([4]) من خلال تعريفهم الفقه: >العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال<.

([5]) مقاييس اللغة: جهد

([6]) مفردات الراغب: جهد

([7]) ن، التحقيق والبيان في شرح البرهان لعلي بن إسماعيل الأبياري: 3/ 317

([8]) ن ، نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي (9/ 3841)

([9]) الموافقات للشاطبي: 2/103.

([10]) الرسالة للشافعي: 111.

([11]) الرسالة للشافعي: 111

([12]) ن تخريجه في نصب الراية للزيلعي: 2/ 432

([13]) ن، أصول السرخسي: 1/240 دار المعرفة بيروت

([14]) حاصل ما نحن بسبيله أن المنطوق مادل عليه اللفظ في محل النطق، وهو صريح إن كانت دلالة اللفظ على المعنى المتبادر المقصود أصالة، وغير صريح ثلاثة أنواع: دلالة إشارة وهي دلالة اللفظ على معنى مقصود بالتبع كأقل الحيض، واقتضاء وهي دلالة اللفظ على محذوف لايستقل الكلام دونه صدقا أوصحة، وإيماء وهي اقتران وصف بحكم مفيد عليته ضرورة نحو: >والسارق…فاقطعوا<.

([15]) أخرج البخاري ومسلِم وأصحاب السُّنن عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:  ﱹ بينما نحن جلوسٌ عند النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذ جاءَه رجل، فقال: يا رسولَ الله هلكتُ، قال: ((ما لك؟)) قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائِم في رمضان، فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هل تَجِد رقبةً تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابعَيْن؟)) قال: لا أستطيع، فقال: ((هل تجِد إطعامَ ستِّين مسكينًا؟)) قال: لا أجِد، قال: ((اجلسْ))، فجلَس، فمكَثَ عندَ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فبينما نحن على ذلك، أُتي النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعرق فيه تمر، قال: ((أين السائل؟)) فقال: أنا، فقال: ((خُذْ هذا فتصدَّق به))، فقال الرجل: أعَلَى أفقرَ مني يا رسول الله؟ فوالذي بعثَك بالحق ما بيْن لابتَيْها أهلُ بيت أفقرُ مِن أهل بيتي، فضحِك النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – حتى بدَتْ أنيابه، ثم قال: ((اذهبْ فأطعِمْه أهلَكﱸ

([16]) المنتقى شرح موطإ الإمام مالك للباجي: 2/52

([17]) الموافقات:5/21، ن: الفصول في الأصول للجصاص:4/ 108

([18]) إحكام الأحكام لابن دقيق العيد:2/21

([19]) أحكام القرآن لابن العربي:1/78

([20]) ن تفسير النصوص في الفقه الإسلامي لمحمد أديب صالح: 480

([21]) ن تفسير النصوص في الفقه الإسلامي: 456.

([22]) ن ذات المصدر

([23]) أخرجه مالك في الموطإ: باب النهي عن ذبح الضحية قبل انصراف الإمام. ن الاستذكار:5/222.

([24]) ن سنن الترمذي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر :3/ 617. والاستذكار لابن عبد البر:6/481

([25]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبراهيم بن علي بن فرحون اليعمري:1/140.

([26]) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار لأبي عمر بن عبد البر:7/214.

([27]) المنتقى:6/71.

([28]) شرح مشكل الآثار للطحاوي:1/168

([29]) زاد المعاد لابن القيم:1/218

([30]) عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي لابن العربي:

([31]) ن نشر البنود على مراقي السعود لسيدي عبد الله الشنقيطي: 1/..264. دار الرشاد الحديثة. فالعام المخصوص هو اللفظ المستعمل في كل أفراده، لكن عمومه مراد تناولا لاحكما؛ نظرا للمخصِّص. والعام المراد به الخصوص هو اللفظ العام المستعمل في بعض أفراده، فليس عمومه مرادا لاتناولا ولا حكما نحو: ﴿الذين قال لهم الناس﴾ أي: نعيم، ونحو: ﴿أم يحسدون الناس﴾ أي: العرب.

([32])أخرجه الترمذي (2109) ، وابن ماجه (2735) ن السنن الكبرى للبيهقي: 6/360. والحديث مختلف في صحته كدلالته.

([33]) ن، شفاء الغليل للغزالي: 38،40

([34]) الموطأ: 5/1275 بتحقيق الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان أبو ظبي.

([35]) الموافقات للشاطبي:5/41

([36]) الموافقات:5/52

([37]) الموافقات: 5/39

([38]) اعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم: 2/165

([39]) الموافقات: 5/17

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق