مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

فقه الحديث عند أبي الخطاب ابن دحية (ت633ه)، من خلال كتابه الابتهاج في أحاديث المعراج

من أغراض التأليف عند المحدثين جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد وشرحها. ولا يخفى على الناظر أهمية هذا النوع من التأليف في فقه الحديث، الذي يطلق عليه بـ”التصنيف الموضوعي للسنة النبوية”؛ إذ من خلاله يسهل علينا استخراج الأحكام الشرعية، مستعينين بذلك بأبواب أصول الفقه؛ كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، والأمر والنهي، والناسخ والمنسوخ…فالأحاديث يفسر بعضها بعضا، والروايات المختلفة للحديث الواحد تعين على الاستنباط الفقهي، وترفع ظاهر التعارض، لأن الأصل في الحديث الاتفاق والائتلاف، بل يتمم بعضه بعضا.

وعلى هذا الأساس، نلتمس في كتاب ابن دحية معالم هذا الصنف من التأليف، ومنهجه، وأدواته في شرح السنة النبوية.    

يعد كتاب “الابتهاج في أحاديث المعراج” من أهم الكتب المصنفة في الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد، للعالم الناقد الحصيف المحرر للأسانيد، والمتون “ابن دحية”، فمنهجه واضح جلي، وتقسيماته دقيقة، تناولت معظم مسائل أحاديث المعراج، بفحص أسانيدها، وكشف معانيها، يقول ابن دحية واصفا منهجه:”فإن هذا الكتاب يسفر عن وجوه الحقائق، ويكشف عن قناع الدقائق، ويوضح مستقيم المنهاج في أحاديث المعراج، على نحو ما جاراني في ميدانه مجار، ولا باراني في مضماره مبار، فرقت فيه بين الصحيح والسقيم، وسلكت منهاجا، هو في صفة المستقيم، وحللت عقد المشكلات، ورددت بالبراهين على الشبهات، وبينت أن ذلك كان بالروح والجسد. وكشفت حقيقة الأمر في غاية المدى، ويسير الأمد. وهو على ذلك كبير الفوائد، والمدد، كثير الإفادات في يسير المدد، وأحسنت الكلام في مذهب المحقين، وأحسبت في الرد على المبطلين. وهذا أول ما أقول، وبالله امتداد التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق”[1].

من خلال هذه المقدمة بين ابن دحية الغاية من كتابه، وأصول منهجه فيه، فضمن ما عن له بفكره الثاقب من فوائد حديثية وفقهية وأصولية ولغوية وغيرها.

وقد استخدم المؤلف حزمة من الأدوات في شرح غريب ألفاظ الحديث نذكر منها:

أ- شرح غريب ألفاظ الحديث بالقرآن: قال ابن دحية في قوله عليه الصلاة والسلام: “يقرفون فيه”. وفي رواية الأوزاعي: “يقذفون” بالذال المعجمة، وهو الصحيح، أي: يتقولون ويكذبون. وأصل القذف الرمي بالشيء، وقذف السب رمي الإنسان بالفاحشة، ويكون من التقول بالظن، والترجيم؛ كما قال جل من قائل:[وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ] سبأ:53، أي يرجمون ويتقولون.

وأما رواية “يقرفون” بالراء: يقال قرف يقرف قرفا والقرف الكذب، والتهمة، من قرفتك؛ أي من تهمتك. ويقال: قرف الذنب، واقترفه إذا علمه، وأصله الاكتساب. قال الله العظيم: [وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً] الشورى:23، أي: يكتسب، فالقرف هاهنا –والله أعلم- التهمة، فمعناه: يوهمون زيادة، ويلقون في الأوهام”. ورواية الذال أوجه وأعرف[2].

ب- شرح غريب السنة بالسنة: ومن ذلك قوله في حديث شق الصدر:”(ثم أطبقه) يعني الإطباق ستر ما كان بدأ بالتفريج من صدره حين غسله وإعادته إلى حالته الأولى. وكذا قال في صحيح مسلم: كنت أرى أثر المخيط في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم”[3]. فالحديث الأول يفسر سبب المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.

ج – شرح غريب السنة بالشعر: كبيانه لمعنى (الأسودة): “الأشخاص، مثل قذال وأقذلة، كأفرخة في جمع فراخ. والأساود: جمع الجمع قال الأعشى:

تناهيتم عنا، وقد كان فيكم***أساود صرعى، لم يوسد قتيلها

والسواد الشخص يترآى لك من بعد، لا يتحقق حقيقته، أو جمع سواد من الناس، وهم الجماعة، ومنه قوله: عليكم بالسواد الأعظم: أي الجماعة المجتمعة على طاعة الإمام، وسبيل المؤمنين.

وأهل السواد هو ما حول كل مدينة من القرى، وكأنها الأشخاص والمواضع العامرة بالناس والشجر بخلاف ما لا عمار فيه”[4].  

د- شرح الغريب بفهمه واجتهاده الخاص: كشرحه قول النبي صلى الله عليه وسلم:”فرج سقف بيتي”[5]، “بتخفيف الراء أي شق. وإن شددت للمبالغة في الشق، يعني أن الملائكة لم يدخلوا من الموضع الذي لم يسقف من البيت، بل دخلوا عليه من وسط السقف، وانشق لهم السقف؛ ليكون أوقع في القلب صدق ما جاءوا به”[6]. وقد أكد هذا المعنى عند تفسيره لقوله تعالى: “وأتوا البيوت من أبوابها”، “فالحكمة في ذلك المبالغة في المناجاة، والتنبيه على أن الكرامة والاستدعاء كانا على غير ميعاد، ولعله كونه فرج عن سقف بيته توطئة تمهيدا؛ لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك، بإفراجه عن السقف فالتأم السقف على الفور، كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمآل المشاهد في بيته لطفا في حقه وتبيينا لبصره”[7].

أما طريقته في استخراج المعنى واستنباط الفوائد والأحكام من أحاديث المعراج فقد اعتمد فيها مسالك الآتية:

1- شرح السنة بالقرآن: وهذا منهج أصيل عند المحدثين؛ إذ الوحي يشرح بعضه بعضا، فشرح السنة بالقرآن، هو أعلى مراتب البيان، قال ابن دحية في في معنى (النسم): “وقد تخيل بعض الجهلة أن كون نسم أهل النار في السماء الدنيا مناقض للكتاب والسنة. أما الكتاب العزيز فقوله تبارك وتعالى:[حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ] الأعراف:37، إلى قوله جل وعلا:] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ] الأعراف:40،] سَمِّ الْخِيَاطِ[ : ثقب الإبرة و] مِهَادٌ [: فراش. ] غَوَاشٍ  [جمع غاشية، أي ما يغشاهم من النار”[8].  

2 – شرح السنة بالسنة: هناك فوائد عديدة في جمع النصوص الحديثية الواردة في الموضوع الواحد؛ إذ قد يحمل نص زيادة تفسير، وبيان إجمال، أو تقييد إطلاق، أو تخصيص عام على ما نحو ما هو معروف في علاقة الأحاديث فيما بينها. ومن ذلك تفسير ابن دحية لمعنى “تضامون”، حيث يقول: “وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تضامون في رؤيته” فيه سبعة أوجه: أحدها:”لا تضامون” بتشديد الميم، وضم التاء، وهو تفاعلون من الضم، أي لا ينضم بعضكم بعضا إلى بعض حال الرؤية لإشكاله وخفائه، كما يكون وقت الهلال، أي: ترون الله عيانا ظاهرا لا يحتاج بعضكم أن ينضم إلى بعض في الاستعانة به لجلائه. والوجه الثاني: “لا تضامون” بفتح التاء وتشديد الميم على أن تكون: “تتفاعلون”، فتكون إحدى التاءين محذوفة، والأصل تتضامون. والوجه الثالث: “تضامون” بتخفيف الميم وضم التاء، فيكون تفعلون من الضيم؛ وهو الظلم، بمعنى: لا تظلمون في ذلك، فيرزق بعض المؤمنين الرؤية، ويحرم البعض…”[9]، فقد أورد ابن دحية روايات متعددة للفظ “تضامون”، والتي يشهد بعضها على بعض لحجية رؤية المؤمنين لربهم.

3 – عرض مشكل الحديث: ومسلكه في بيان مشكل الحديث أن يعرض الأمر على القرآن، أو السنة، أو تأويلات العلماء في ذلك، أو يجتهد بما فتح الله عليه من فهم.

– ومن فهمه لمشكل الحديث من خلال القرآن الكريم، قوله: “وليس في هذا الحديث، “كما ترون القمر” المتفق على صحته مع غيره من الأحاديث تشبيه الخلق بالخلق، ولا المرئي بالمرئي، وإنما فيه تشبيه النظر بالنظر، والرؤية بالرؤية…-بعد ذكره للدليل العقلي والاحتجاج به في رؤية الله تعالى، وإبطال أقوال المشبهة- قال: وإذا رجع الكلام في هذه المسألة إلى السمع، فأقوى دليل ما ذكرناه في قصة موسى الكليم، من الكتاب الكريم، والخبر المروي الثابت عن النبي عليه أشرف التسليم. فنقول الله تعالى مع نفي ما يؤدي إلى النقص، والتجسيم. فقوله سبحانه: ” ليس كمثله شيء” دل على نفي المماثلة، فيعتقد أصل الصفات، ونفي المماثلة، وكذلك نعتقد في كل صفة من أصلها نفي المماثلة، كما نعتقد أصل وجوده، مع نفي المماثلة لسائر الموجودات”[10].

– ومن فهمه لمشكل الحديث بالسنة: قوله في سبب اختيار طست من ذهب دون غيره من سائر المعادن، “لأنه أشرفها، وله خواص يفتخر بها على سائر الأحجار؛ منها: أنه لا تأكله النار في حال التعليق، وأن الأرض لا تأكله، ولا تغيره، وهو أنقى شيء وأصفاه، يقال في المثل: أنقى من الذهب. وقالت بريرة في عائشة رضي الله عنها:”سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الأحمر”، تريد النقاء من العيوب.

ومن ذلك أن الذهب أيضا أثقل الأشياء، فيرسب، وهو موافق لثقل الوحي، قال الله العظيم: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾“[11].  

– ومن فهمه لمشكل الحديث بذكر تأويلات العلماء، مثاله الحديث المروي في الصحيحين: “أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاء صكه، ففقأ عينه”[12]، قال ابن دحية: “وقد تكلم العلماء في تأويل هذا الحديث؛ في صك موسى لملك الموت ولطمه إياه. قالوا لطمه بالحجة، وفقأ عينه حجته، وهو كلام مستعمل في اللغة، معروف.

وقال لي جماعة من علماء شيوخي-رحمهم الله: إن هذا الحديث ليس فيه ما يحكم على موسى عليه السلام بالتعدي؛ لأن موسى دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها وقد تصور له في صورة آدمي ولم يعلم؛ إذ ذلك أنه ملك الموت، فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب تلك الصورة التي تصور له فيها الملك، امتحانا من الله تعالى، فلما جاءه بعد، وأعلمه أنه رسول رب العالمين استسلم للموت الذي هو سبيل الأولين، والآخرين”[13].

وقد اعترضت ابن دحية في شرحه لأحاديث المعراج صور من المختلف، وهي الأحاديث التي ظاهرها التعارض، نجد المؤلف يجمع بين الأحاديث الصحيحة المتعارضة ظاهرا، وذلك بإعمال معانيها دون السعي إلى تأويلها، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالأخبار التي لا نسخ فيها، ومنه قول المؤلف: “كيف يكون الإيمان والحكمة  في طست من ذهب، والإيمان عرض، والأعراض لا يوصف بها إلا محلها الذي تقوم به، ولا يجوز فيها الانتقال؛ لأن الانتقال من صفة الأجسام، لا من صفة الأعراض؟

فنقول: إنما عبر صلى الله عليه وسلم عن ما كان بالحكم والإيمان، كما عبر عن اللبن الذي شربه، وأعطى فضله عمر رضي الله عنه بالعلم.

ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال:”بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه، حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب”. قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم”[14].

وهذا نص صحيح مسلم، وهو أتم. فعبر صلى الله عليه وسلم عن الماء بالحكمة والإيمان كما عبر عن اللبن بالعلم، وهي إشارة نبوية لا تقدح في الأمور العقلية”[15].

أما منهج ابن دحية في التعامل مع الخلاف الفقهي وبناء اختياراته فهو يقوم على جملة من الإجراءات نذكر منها:

أ- إيراد مختلف الآراء في المسألة الواحدة مع الترجيح والاختيار: يعرض المؤلف القضايا الخلافية مع ذكر نصوص القرآن والسنة التي تتعلق بها، وأقوال الصحابة، والتابعين، والمفسرين، وفقهاء الحديث، حيث يقف الباحث المطلع على كل هذه النصوص الواردة في الموضوع، فيستطيع من المقارنة بينها، وترجيح ما يعن له منها حتى يقوى الدليل، ثم إن علم المؤلف وتبحره في الحديث، والفقه، والتفسير، والعربية أهله ليدرس هذه الأقوال ومناقشتها، لينتهي إلى رأي تسنده أدلة اختارها. ومن ذلك قوله:”وفي هذا الحديث المتفق على صحته رد على الكوفيين والمزني في قولهم: إنه من لبي أو تطيب ناسيا فعليه الفدية على كل حال، والحجة في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا من خالفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بالكفارة عن لباسه، وتطييبه قبل علمه بالنهي عن ذلك، وإنما يلزم الكفارة من تعمد فعل ما نهى عنه في إحرامه، ولو لزمه شيء لبينه له صلى الله عليه وسلم، وأمر به، ولم يجز أن يؤخر ذلك. وذهب مالك إلى أن من تطيب، أو لبس فنزع اللباس، وغسل الطيب في الحال فلا شيء عليه. وقال الشافعي: لا شيء عليه، وإن طال وانتفع؛ لأن الرجل كان أحرم في الجبة المطيبة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلم يجبه، حتى أوحى إليه، وسري عنه، فطال انتفاع الرجل باللبس والطيب، ولم يوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم كفارة، فوافق الشافعي الحديث وعمل به. نفعه الله بذلك”.[16] 

ب- مناقشة المذاهب الكلامية وبناء اختياره: ومن ذلك مسألة “رؤية الله تعالى”، قال ابن دحية: “…قيل لسفيان بن عيينة: إن بشرا المريسي يقول: إن الله عز وجل لا يرى يوم القيامة. فقال: قاتله الدويبة، ألم يسمع الله عز وجل يقول:[كلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ] المطففين:15، فجعل احتجابه عنهم عقوبة لهم، فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء، فأي فضل للأولياء على الأعداء؟

قال ذو النسبين رضي الله عنه: والدليل على أنه ممكن أن يرى في الآخرة شرطه في سؤال موسى الرؤية ما يمكن من استقرار الجبل، ولا يستحيل وقوعه…وقال بعض المعتزلة: إن “ناظرة”، بمعنى منتظرة، وأنشد أشعارا تشهد له على زعمه، وقد كذبه الله عز جل من قائل بقوله:[إِلَى ربهَا نَاظِرَةٌفقرن حرف الجر بها، فهي تؤدي إلى نظر العين، و”يومئذ” ظرف متعلق “بناظرة” و”إلى ربها” متعلقة بمعنى الاستقرار، والإشارة بـ”يومئذ” إلى القيامة. ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:”تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت”[17]. وهذا نص يرفع فيه جميع الإشكال، إلا عن أهل الأهواء والضلال[18].

 فالناظر في المنهج الحجاجي لابن دحية يرى أنه يتميز بالإنصاف في مناقشته لمخالفيه، حيث يقوم على:

1- إيراد أقوالهم ومذاهبهم مع أدلتهم.

2- مناقشة ما اعتمدوا عليه من النصوص سندا ومتنا بالحجة والبرهان.

3- الاجتهاد في تأويل ظاهر النصوص الصحيحة التي اعتمدوا عليها مدعما تأويلاته بالنصوص الصحيحة وأقوال العلماء الثقاة.

4- الوقوف عند الدليل من القرآن والسنة الصحيحة، وخاصة ما كان منهما قطعي الدلالة على المراد.    

إن المتتبع لمنهح ابن دحية في شرحه لحديث الإسراء والمعراج يستطيع استخراج قواعد منهجية كان يصوغها في معرض شرحه للنصوص ويبني عليها اجتهاداته واختياراته، ومن هذه القواعد:

أ- “الجرح أعمل على التعديل”، ساق المؤلف هذه القاعدة في معرض تعارض جرح الإمام يحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي؛ لمحمد بن فليح بن سليمان أبي عبد الله الأسلمي، ورواية البخاري عنه في صحيحه، فقال في حق المجرح : “لأنه شهد بأمر خاص، وعلم من باطن الحال ما لم يعلمه من شهد بظاهرها، وهو أمر طارئ عليه”[19].

ب- قول الصحابي في التفسير يرفع إلى درجة الحديث المسند، يقول ابن دحية: “والصحابي الذي شهد الوحي إذا فسر آية من القرآن أنها أنزلت في كذا، فهو حديث مسند باتفاق أهل الصنعة”[20].

– لا سبيل للقطع إذا تطرق التأويل، وكثرت الاحتمالات، ومن ذلك ذكر المؤلف تفسيرات “للقلة” في قوله صلى الله عليه وسلم: “وقلال هجر”، جمع قلة، والقلة، ما يقله الإنسان من الأرض؛ أي يرفعه، وقيل القلة هي حب الماء، وقد فسرها الشافعي بأنها تسع مائتين وخمسين رطلا، حكاه عنه القاضي أبو الفضل في مشارق الأنوار.

وقد حدثني أربعون شيخا عن القاضي أبي الفاضل منهم ولداه الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد، والفقيه أبو محمد عمران.

وقال ابن جريج: القلتان يسعان خمس رطل.

وقال الترمذي أبو عيسى الحافظ: وذلك نحو من خمس قرب”[21].

– تقديمه للسمعي على العقلي، حيث يلتجئ إلى النقل من القرآن العظيم، والخبر الصحيح الوارد عن العدول الأثبات، لأن العقلي فيه من الإشكالات، وغوامض الشبهات، وورود السؤالات ما لا تطمئن النفس فيه إلى الدلالات، ومثاله: مسألة هل ركب أحد البراق من الرسل والملائكة؟ يقول ابن دحية: “وإنما نعرف من هذا ما عرفنا به، ونقله العدول إلينا من قول من يجب به التسليم له صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا مجال نظر، ولا قياس؛ وإنما هو أمر توقيفي، نقلي”[22]. وقال في موضع آخر: “وهذا الخبر إن كان بوحي، وإلا فلا سبيل إلى الوقوف على صحته”[23].

– عدم الخوض في تأويل صفات الله تعالى: وذلك في تعليقه لقوله صلى الله عليه وسلم: “وإن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء”[24]؛ إذ يقول: “إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة قالوا: نرويها ونقرها كما جاءت، بلا كيف، ولا تشبيه، ونكل أمر تأويلها إلى الله عز وجل وهو أحد قولي الأشعري. وروى بإسناده إلى الوليد بن مسلم الذي قال: سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فكلهم أمرها، ونفى التشبيه عن الباري جل جلاله؛ لأنه ليس كمثله شيء من خلقه، ولا يقاس بشيء من بريته، لا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو اجتمعت عليه الأمة الحنفية”[25].

– عدم العمل بالحديث الموضوع والمنكر، حيث يقول: “وإنما تكلمنا على ما صح، وأسقطنا الحديث الموضوع والمنكر؛ لأنه خزي في الدنيا ويوم القيامة، يصلى صاحبه العذاب الأكبر”[26].

–  المسند الصحيح هو الذي عليه المعتمد عند ابن دحية[27]؛ يظهر ذلك جليا في حرصه على ذكر الأسانيد، والتعليق على رواتها جرحا وتعديلا، كقوله في إحدى الأحاديث بعد الوقوف على طرقها: “وهذه أسانيد عدول مخرج عنهم في الصحيحين ويونس هو ابن محمد أبو محمد المؤدب ثقة صدوق مخرج عنه في الصحيحين”[28]، وفي موضع آخر يقول: “وقد ثبت بنقل العدل، عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلها فوق السماء السابعة”[29].

– الخبر الآحاد يوجب العلم والعمل في الأحكام والاعتقاد، قال ابن دحية: “وقال أكثر العلماء؛ علماء الأثر والفقه والنظر منهم أحمد بن محمد بن حنبل، ومحمد بن خواز منداد، والحسين بن علي الكرابيسي صاحب الشافعي، وداود الظاهري: إن خبر الواحد يوجب العلم والعمل جميعا، وذكر ابن خواز بنداد أن هذا القول يخرج على مذهب مالك…وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون، وفقهاء المسلمين، وجماعة أهل السنة يؤمنون بخبر الواحد، ويدينون به في الاعتقادات…وأنكر العمل بخبر الواحد أهل الأهواء، والبدع؛ كالجبائي، والقاسياني، والرافضة، ويد الله مع الجماعة”[30].

– إعماله لشرع ما قبلنا، قال ابن دحية: “وقال أبو بكر الصيرفي والمعتزلة وبعض أصحاب أبي حنيفة: لا يصح نسخ العبادة قبل وقت الفعل.

والدليل على ما نقول: ما أمر به إبراهيم على نبينا وعليه السلام من ذبح ابنه، ثم نسخ عنه قبل فعله”[31].

تأسيسا على ما تقدم، يمكن القول إن هذه أهم معالم منهج ابن دحية التي تكشف عن علم الرجل وبراعته في تتبع الفوائد، وشرح الغرائب، ودراسة السند، ومناقشته لرواة الحديث بمنهج الجرح والتعديل، ونقل أقوال الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية، وأقوال المفسرين في فهم آيات القرآن الدالة على الإسراء والمعراج، ويميل في اختياراته إلى حيث يوجد النص لا يتجاوزه إلى التأويل، إلا إذا اعتمد هذا التأويل على ما صح من النصوص، واللغة، وأقوال العلماء.

***********************

هوامش المقال:

[1] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص5.

[2] – المصدر السابق، ص39-40.

[3] – الابتهاج في أحاديث المعراج ، ص35.

[4] – المصدر السابق، ص40.

[5] – صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب ذكر إدريس عليه السلام، رقم الحديث:3164. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وفرض الصلوات، رقم الحديث:263.

[6] –  الابتهاج في أحاديث المعراج، ص33.

[7] – سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، 3/96.

[8] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص40.

[9] – المصدر السابق، ص89-90.

[10] – المصدر السابق، ص89-92.

[11] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص118.

[12] – المصدر السابق، ص96.

[13] – المصدر السابق، ص96.

[14] – صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب: إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافره، رقم الحديث:6605. صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، باب من فضائل عمر رضي الله عنه، رقم الحديث:2391.

[15] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص118.

[16] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص63-64.

[17] – صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، رقم الحديث:169.

[18] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص82-84.

[19] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص71.

[20] – المصدر السابق، ص72.

[21] – المصدر السابق، ص55.

[22] – المصدر السابق، ص109.

[23] – المصدر السابق، ص107.

[24] – صحيح مسلم، كتاب القدر ، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، رقم الحديث:2654.

[25] – الابتهاج في أحاديث المعراج، ص98.

[26] – المصدر السابق، ص112.

[27] – المصدر السابق، ص149.

[28] – المصدر السابق، ص111.

[29] –  المصدر السابق، ص149.

[30] – المصدر السابق، ص78.

[31] – المصدر السابق، ص145.

*********************

لائحة المصادر والمراجع

الابتهاج في أحاديث المعراج، أبو الخطاب بن دحية، حققه وخرج أحاديثه رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الأولى: 1417ه-1996م.

سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1414هـ-1993م.

صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، دار اليمامة-دمشق، الطبعة الخامسة: 1414هـ-1993م.

صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، القاهرة، سنة النشر: 1374ه-1955م.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو، والباحث: يوسف أزهار

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق