إنّ من المفاهيم والمصطلحات ما يكسب دلالته في العقل الجمعي من سلطة التداول، وليس من قوة حجّيته وسياقه الدّلالي في النصوص والقواعد الشرعية.
ومفهوم الجهاد من أبرز هذه المفاهيم التي تعرضت لتلبيس وابتذال شديدين، حيث بلغ توظيفه السلبي وتنزيله على غير محله مبلغ تهديد وجود الأمة ديناً وكياناً. لذلك كان لزاما تحرير معناه بما يستطاع من الاستقلال عن تأثير التداول، وإعطاء السلطة المعيارية للقواعد المعتبرة في التفسير والتعليل والاستدلال فحسب.
وأنا أحبّ أن أحذو في هذا الباب حذوَ الطريقة التي يسير عليها العلاّمة الشيخ عبد الله بن بيه في تحرير المفاهيم الشرعية وتحقيقها وبنائها انطلاقا من معادلة مركبة ثلاثية الأبعاد[1] أو المكونات تجمع بين الدليل الجزئي، والدليل الكلي، والسياق أو البيئة التي هي مجال التنزيل.
ومعلوم أنّ من أهمّ أسباب التباسِ المفاهيم جهلَ المتعاطين لها بطبيعتها المركّبة، وتلقفَها من الأدلة الجزئية فحسب، وهذا خلل قديم وداء وبيل يمكن تسميتُه بداء الجزئية أو الاجتزاء؛ فهو منهج جزئي لأنه يُغفِل الكُلّي ويقتصر في الاستنباط على الدليل الجزئي، وهو اجتزائي لأن بناء المفاهيم على الأدلة الجزئية يؤدّي لا محالة إلى ضرب النصوص بعضِها ببعض، والتحكّم فيها بما يلائم الفهوم المسبقة، وإغفال القواعد المعارضة.
على أن بعض أهل العصر بالغ في الأخذ بالكلّي حتى اطّرح الجزئي الذي لا قوام للكلّي بدونه، ورامَ تأسيس المفاهيم استنادا إلى تذوّقات أقرب إلى التشهي... وأما المكوّن الثالث فقلَّ من يستحضره ويراعيه في بناء المفاهيم الشرعية، بل كثير من المتشرعة ينازع في اعتبار الواقع جزءًا من مكونات المفهوم الشرعي وملاحظة أثره من خلال سياق النزول أو سياق التنزيل، وتراه يفك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، ويستمرئ الفصل بين المقاصد والوسائل.
والحاصل، أن اتخاذ هذا المسلك الاجتزائي يقفز على جملة من القواعد الأساسية المعتبرة المعمول بها في التعامل مع النصوص الشرعية؛ كقاعدة الجمع، وقاعدة السّياق، وتحقيق المناط، وقاعدة النسخ، وقاعدة اعتبار المآل، والنظر الكلّي، واعتبار العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد وغيرها.
وتطبيقا لهذه المداخل، تروم هذه الورقة تصحيحَ الجهاد فهماً وتطبيقاً، وتعليلَ شرائعه غايةً وحكمةً، ولأنّ المقام لا يتسع لكثير من التفصيل، فسأركز، في نقاط منهجية خاطفة، على مواطن الاشتباه والغموض في استعمال هذا المفهوم وتوظيفه حتى انقلب إلى أوضاع وممارسات ضدّ أصله ومقصده.
أولاً: مفهوم الجهاد
"الجهاد لفظ قليل، تحته معنى جليل" يؤول معناه إلى صرف الجهد لتحقيق غرض نافع؛ فكل فعل أو سعي ذي قيمة يسمّى جهاداً، هذا معنى عام.
ومعنى الجهاد في سبيل الله المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله كما يقول ابن رشد، وهذا أصل ومنبع جميع معانيه وأنواعه؛ كما بسطه أبو عبد الله ابن المناصف (ت620) في "الإنجاد في أبواب الجهاد" بقوله: "هو بذل الجهد في إذلالِ النفس وتذليلِها في سبل الشرع، والحملِ عليها بمخالفة الهوى..."[2] فهو أمر يشمل جميع أنواع البذل والسعي في سبيل الله تعالى بالمال والنفس والعمل، فخدمة الوالدين والقيام بهما جهاد؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "ففيهما فجاهد".
1. مفهوم الجهاد في القرآن والسنة
أما تتبع لفظ "الجهاد" وسياقاته المختلفة في القرآن والسنة، فيفضي إلى ضرورة اعتبار سياقين اثنين؛ تاريخي، وموضوعي.
أ. السياق التاريخي: معلوم أن الجهاد بمعنى القتال لم يؤذن به إلا بعد الهجرة إلى المدينة، وأن الفترة المكية كانت كلّها دعوةً بالكلمة، والحجة، والبيان، وصبرا على الأذى، وصمودا في التبصير بكتاب الله تعالى والتعريف به، وضربا في الأرض بحثا عن الملاذ والمأوى؛ وعلى هذا فمفهوم الجهاد في قوله تعالى: "فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا" (الفرقان: 52) المكية باتفاق، وفي قوله: "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" (النحل: 110) المكية عند الجمهور[4]، محصور فيما سبق، ولا يدخل في عمومه الجهاد المسلّح قولاً واحداً.
وفي قوله تعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..." (الحج: 76) فسورة الحج من السور المكية التي بينت أصول الإسلام، ومهدت قواعد الدين، والآية تدل على أن القيام بما لابد منه من عزائم الأمور ليس من الحرج في شيء، لأنه نفى الحرج بعد الأمر بالجهاد في سبيل الله؛ وهو بذل الجهد في إقامة سنن الله تعالى وحكمته في خلقه وكل ما يرضى من عباده من الحق والعدل والخير.
ويلتحق بهذا ما علق به ابن عطية الإشبيلي في تفسير قوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (العنكبوت: 69) بقوله: "هي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله تعالى وطلب مرضاته"[3].
ب. السياق الموضوعي: من الآيات المفاتيح في الكشف عن دلالة الجهاد في القرآن باعتبار السياق، أستشهد بآيات معدودة على سبيل المثال لا الحصر:
ـ الأولى قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (التحريم: 9).
وهذه الآية من مثارات الغلط في الاستدلال على مشروعية البدء بالقتال، إذ كثر تداولها في ذلك من غير مراعاة سياقها، أو اعتبار سباقها، وحسبنا دليلا على تهافت هذا الاستدلال قرينةُ امتناع النبي، صلى الله عليه وسلم، من قتال المنافقين مع علمه بهم، ومعرفته إياهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه كما قال عليه الصلاة والسلام، تعليلا لذلك وتبيينا، فاكتفى صلى الله عليه وسلم بجهادهم جهاد دعوة وإنذار.
والأخرى قوله تعالى: "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ" (التوبة: 82) وهي واقعة في سياق التعريض بالمنافقين لتخلفهم عن الخروج مع المؤمنين في غزوة تبوك.
وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة: 37) فعقب حكم المحاربين من أهل الكفر؛ أي قوله تعالى: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" الآية، أمر المؤمنين بالتقوى وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله تعالى، وقابل قتالا مذموما بقتال يحمد أثره وعاقبته عاجلا وآجلا.
وقد تتبع الشيخان محمد عبده ومحمد رشيد رضا موارد القتال المشروع في الآيات، فوجداها تقتصر على ثلاث آيات محكمات؛ عليها مدار جميع شرائع الجهاد وأحكامه وهي: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ" (البقرة: 189)، "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" (الحج: 37)، "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ" (النساء: 74). وجعلا ما سوى هذه الآيات الثلاث، مما يوهم بمشروعية القتال الابتدائي، متعلقا بسياقات مخصوصة كحالة الحرب، وإعلانها بنقض العهود...
ولا يفوتني قبل طي بساط القول في السياق الموضوعي للجهاد أن أُلمِعَ إلى أن المعاني التي تذكر عادة لهذا المصطلح، لم تكن أطوارا تدرجت خلالها شرعته لتستقر عند آخر طور لها، شأنَ الخمر مثلا، وإنما هي عبارة عن شرائع جهادية متعدّدة، تٌنفذ كل شرعة منها بحسب ما يلائمها من الظروف والأحوال[4]. ومما يتعيّن قوله هنا كذلك: إنّ الأصل الأعظم لتلكم المعاني الجهادية المتعدّدة وجذرَها ومنبتَ أرومتها هو؛ الكلمةُ، والحوارُ، والدعوةُ باللين والحكمة، والدفع بالتي هي أحسن، تجرداً للحق، واصطباراً عليه. وإن مصدر قدسية هذه الكلمة على اتساع معانيها وتنوعها إنما يتمثل في كونه سبيلا لحفظ الحق ودفع الباطل، ومنهجا لتقرير المصالح وإزالة المفاسد.
2. الجهاد في الاصطلاح الفقهي
والحق أنه مهما تعددت معاني الجهاد وصوره وأنواعه، فإنه ليس مرادفا للقتال؛ إذ كل قتال في سبيل الله جهاد، وليس كل جهاد قتالا. وفي الآن نفسه يمكن أن نقرر قاعدة محكمة؛ وهي ليس كل قتال ينطبق عليه اسم الجهاد، وهكذا فبين المعنيين عموم وخصوص وجهي. ومن ثم، فلا يصحّ قصرُ الجهاد على القتال، وهذا ما يؤيده النطق النبوي الشريف فيما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي أمامة: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"[5]. فجعل، عليه الصلاة والسلام، الكلمة عند السلطان الجائر بعض الجهاد أو أفضل أنواعه.
ولذلك يقول ابن رشد (الجدّ) المالكي: "إنّ الجهاد مأخوذ من الجَهْد وهو التعب، فمعنى الجهاد في سبيل الله المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله، وإعلاء كلمته التي جعلها الله طريقًا إلى الجنّة وسبيلًا إليها". قال الله تعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ" (الحج: 76)[6]. وقسّمه إلى أربعة أقسام وهي: جهاد بالقلب، وجهاد باللسان، وجهاد باليد، وجهاد بالسيف[7].
وذكر في شرح وبيان الجهاد باللسان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك ما أمر الله به نبيّه من جهاد المنافقين، لأنّه، عزّ وجلّ، قال: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ" (التوبة: 74)؛ فجاهد، صلّى الله عليه وعلى آله، الكفّار بالسيف وجاهد المنافقين باللسان، لأنّ الله تعالى نهاه أن يُعمل عِلمَه فيهم، فيُقيم الحدود عليهم لئلّا يُتَحدَّث عنه أنّه يقتل أصحابه على ما رُوي عنه، صلّى الله عليه وعلى آله، وكذلك جاهد، صلّى الله عليه وسلم، المشركين قبل أن يؤمَر بقتالهم، بالقول خاصّةً"[8].
أما الجهاد بمعنى القتال، وهو المعبر عنه في مواطن عدة من النصوص بألفاظ: كالقتل، والنفير، وضرب الرقاب، ولقاء العدو... وغيرها، فقد درج الفقهاء على تقسيمه إلى نوعين:
أ. جهاد الدفع: وهو حرب يخوضها المسلمون مرغمين لرد العدوان عن ديارهم، وهو من باب دفع الصائل، ولا خلاف في مشروعيته، ومن أجله أذن للمسلمين في القتال أول الأمر في قوله تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" (الحج: 37).
ومنه قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 189) فهو معاملة بالمثل دفاعا عن الحرمات والأوطان. ومثله قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (التوبة: 36)؛ أي تجمعوا لمقاتلتهم كافة جزاء بالمثل.
ب. جهاد الطلب: وهو طلب العدو في عقر داره، والخروج إليه، وهذا النوع يتفرع في فهم كثير من العلماء باعتبار سببه إلى قسمين:
1. طلب العدو في دياره لصدور فعل عدائي منه، أو العلم بنيته، أو تخطيطه، أو إخلاله بمعاهدة، مما يدخل في الأعمال الحربية كما هو الشأن في غزوة خيبر، والفتح، ومؤتة، وتبوك، وغيرها، وهو فرض على من تقوم به الكفاية، وفرض عين على من انتدبه الإمام له. ومن هذا قوله تعالى: "أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (التوبة: 13)؛ فسبب الحث على قتالهم هو نقضهم المعاهدة وهمهم بإيذاء الرسول. ومنه قوله تعالى: "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ" (التوبة: 12). ولا يخفى أن نقض العهد من أجلى صور الغدر وأصرح دلائل العزم على العدوان والمحاربة.
2. طلب ديار الكفار في سبيل إدخالهم في الدين عنوة، وإخضاعهم لسلطان المسلمين.
وفي هذا الفرع يحار المتأمل في فهم رأي بعض فقهائنا، كيف يطوع نصوصا كلية لأخرى جزئية في سياقات خاصة، ويحكم بنسخ عشرات الآيات، بل مئات ببضع، ويضع نتائج لا تستقيم ومقدماتها.
فمن ذلك؛ قولهم: إن جميع آيات النهي عن الإكراه في الدين، والأمر بالصفح، والبر، والدفع بالتي هي أحسن، وعدم البدء بالاعتداء، والجنوح للسلم، وغيرها من الآيات منسوخ بآية السيف حتى عدّوا من عجائب القرآن أن "آية نَسخت مائة وأربعا وعشرين آية ثم نُسخت"![9].
والحق، أن هذه الآيات جميعها تنتظم في نظام كلّي مترابط مواكبٍ لتطور تجمع المسلمين من الضعف إلى القوة، ومن مقام التصرف بمقتضى التبليغ والرسالة إلى مقام التصرف بمقتضى الإمامة والسياسة، وإعمال أحكامها بحسب مقتضى الحال والحكمة.
وقولهم كذلك: لا يسلّط السيف على الرقاب لتُسلِم القلوب، ولا قتال إلا بسبب الحرابة، وبه قال أئمة المذاهب سوى الشافعي في المشهور عنه، وبه أخذ جمهور الفقهاء، لكنهم يفرعون عليه أن للإمام أن يبدأ بالعدوان ويغزو الديار في حرب مفتوحة على العالم...؟
ويصعب تسويغ هذا الفصل بين المقدمات والنتائج إلا بالتسليم للضرورة التي فرضتها طبيعة العلائق والأعراف الدولية السائدة المحكومة بالتهديد المستمر، ونقض العهود، وشهوة التوسع، ومنطق القوة والتغلب الذي يجعل خيار الأمة متراوحا ضرورةً بين أن تغزو أو تغزى، أي الحرابة المفتوحة، وقديما قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: "الرّوم إن لم تُغزَ غَزَت".
ففي مثل هذه الظروف والأحوال، لا مجال لاستغراب البدء بالقتال، وعلى ذلك فليُحمَل كلُّ ما ورد فيه ما يشعر بتسويغ الشريعة جهادَ الطلب.
ومما يدل على هذا ما حكم به بعض الفقهاء من ندبية الجهاد بعد الفتح، كما يدل عليه صريح كلام سحنون، فيما نقله ابن جزي في "القوانين الفقهية" حيث جاء فيه: "وهو فرض كفاية عند الجمهور، وقال ابن المسيب: فرض عين، وقال سحنون: "صار تطوعا بعد الفتح"[10]، فيكون مناط الحكم وتعلّق الفرْضية، من تعين أو كفاية، مستمَدّا من دفع العدوان الواقع أو المتوقع على أرض الإسلام، لا من أن القتال مقصود لذاته.
وقد سوَّر حمى هذا المفهوم الضيق للجهاد الفقيه ابن راشد القفصي (ت: 736ﻫ) بجملة من الأحكام التي تضبط حدود مشروعيته، ويلفت النظرَ من بينها قولُه، رحمه الله، في سياق تعداد أركانه: "المقاتَل: هو المحارِب، ولو كان مسلما، وقطاع الطرق أحق بالقتال من الروم"، فجعل مناط القتال هو الحرابة، لا جنس المحارِب (الروم أو العرب) ولا دينه (الكفر أو الإسلام)، فالمسلم المقاتِل أو قاطع الطريق أولى أن يجاهَد بالقتال ممن لم يحارب ولو كان من الروم.
ثم عد من تلك الأركان: المقاتَل معه، وحصره في الإمام فقال: "هو الإمام أو خليفته، وإن كان جائرا. ابن المواز: ولا يجوز خروج جيش إلا بإذنه، وتوليته عليهم" .
إنه بهذا التقرير يمكننا القول: إن الجهاد تدبير سلطاني وحكم من أحكام السياسة والإيالة المنوطة بالسلطة السياسية الشرعية والتي تقدرها بحسب ميزان المصالح والمفاسد، ولذلك ذكر ابن جزي عقب ما تقدم قائلا: "إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور، سقط فرض الجهاد، وبقي نافلة"[11].
وما قرره الفقهاء من ذلك كله هو ما حدا الشيخ رشيد رضا إلى التنبيه على استنباط رشيق وفرق لطيف؛ إذ ميز بين نوعي الجهاد:
نوع خاص والمراد به بذل الجهد في حفظ الحق ودفع الباطل، لتقرير المصالح وإزالة المفاسد.
ونوع عام ويعني: بذلَ الجهد من كل حي لحفظ حياته ومنافعه، شخصا كان أو جماعة، بالحق أو الباطل، لافتا النظر إلى وخيم عاقبة التقصير في تحرير مفاهيم الشريعة وفق المناهج السليمة، لما يترتب على ذلك من فسح المجال أمام الجاهلين ليصوروه على هيئة تنفِّر مَن دار في خلده اعتناقُه، وكثيرا من اللابسين لباسه.
إن هذه النظرة المصلحية الكلية لمفهوم الجهاد، تجد حجتها وسندها من حيث الواقع التاريخي في استمرار وجود تلكم التجمعات الدينية والمذهبية واللغوية والقومية والعرقية التي تفيأت وارفات ظلال الإسلام الذي تكفل لها من الحرية والرعاية بما مكنها من العيش آمنة من غير أن تنازع في عقائدها، أو تفتن في دينها، أو تنازع في أموالها ومكتسباتها. أليس جديرا بالملاحظة أن الأرض التي سادتها حضارة الإسلام هي التي تعج اليوم بشتى التجمعات والأقليات الدينية والعرقية، وأنها ظلت قائمة ومستمرة إلى وقتنا الراهن، بينما "صُفيت" بالسّيف والدّم و"التطهير المنهجي" في معظم البقاع التي سادتها حضارات أخرى.
إن في ذلك لآية على حقيقة عدم التنافي بين مفهوم الجهاد نصاً وفقهاً وتاريخاً، وبين ما يعظمه العالم المعاصر من مبادئ حقوق الإنسان، وقيم السلم العالمي.
ثانيا: الجهاد في السياق الدولي المعاصر
إذا تحرر مفهوم الجهاد وأعيد بناؤه في ضوء نقدِ مقررات أحكامه، وتأصيلِها بمنهج الجمع بين الأدلة ومراعاة نسق تكاملها، فما موقع ذلك من الواقع الراهن؟ وهل لهذا المفهوم من أثر في النظم التشريعية الحاكمة للعلاقات الدولية المعاصرة؟
لا مناص من التسليم بواقع بُعد الشُّقَّةِ بين مفهوم الجهاد كما نُظِّرَ له في أدبيات الفقهاء معنى مرادفاً للقتال بدءاً أو دفاعا، وبين ما يُرتَكَب من ممارسات الغدر والغيلة والعدوان باسمه في سياق الواقع الدولي المعاصر، كما أنه لا معنى للحديث عن جهاد تناط مشروعيتُه بإذن "الخليفة" لاندراس جملة من المبادئ والشروط المتعلقة به في السياق التاريخي الإسلامي.
وهما جهتا افتراق الجهاد من حيث بيئة تنزيله بين التاريخ والواقع الراهن.
من جهة أخرى، فإن التغيرات التي عرفها العالم خلال القرنين الأخيرين جديرة بلفت انتباهنا إلى المفاهيم والأوضاع الجديدة التي تكتنف العلاقات السياسية بين الدول، فالعالم أصبح اليوم محكوما بنتائجَ متراكمة من التجارب المريرة التي تمخضت عنها معاهدات واتفاقيات ملزمة للدول والحكومات.
بدءًا بمعاهدة وستفاليا التي أُنهيت بعقدها حقبةُ الحروب الدينية سنة 1648م، وبمقتضاها أصبحت الدولة القومية أو الوطنية مصدرَ السّلط، ومنطلقَ الفعل السياسي، وصاحبةَ الإرادة المؤثرة في الواقع الدولي، الحريصةَ على تحقيق الاستقرار النسبي بما يضمن العيش المشترك مع مختلف الأمم والمجتمعات.
ومرورا بمعاهدات دولية قضت بتجريم الحرب مطلقا في القرن التاسع عشر، وانتهاء باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977، واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، وسائر قوانين الأمم المتحدة التي إليها يرجع الفضل فيما تنعم به المجتمعات الحديثة من سلم واستقرار نسبي؛ إذ أصبحت المجتمعات آمنةً في ظل سيادة الدول من غير أن يُحوجها الخوفُ إلى أداء عسكري تحوز به حقها في شغل حيزها الجغرافي الذي تعتبره وطنا لها ومستقرا.
لقد تحول العالم من زمن الممارسات العرفية المنبثقة عن العهد الامبراطوري إلى زمن القانون الدولي والمعاهدات الدولية القائمة على مبادئ احترام السيادة، وتحريم التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد السّلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة، ومبدأ حماية النوع الإنساني الذي تفرعت عنه جملة من المفاهيم في القانون الدولي كتجريم العدوان، وتجريم العبودية والاسترقاق والتمييز العنصري، وتجريم الحرب، وتجريم التطهير العرقي، والإبادة الجماعية وغيرها.
وعليه، فجهاد الطلب الذي كانت بعض المذاهب توجبه أو تندب إليه مرّة في كل عام، أصبح اليوم بمنطق القانون الدولي عدواناً مجرَّماً واحتلالاً غاشماً.
لذلك لم يعد هناك موجب للحديث عن مفاهيم الحروب الدينية، أو "الفتوحات الإسلامية"، أو الحملات التنصيرية، أو حروب الاسترداد، بعد أن وُضع أمن المجتمعات وسيادة الدول وحماية الحدود في عهدة المجتمع الدولي.
فضلا عن أن يكون هناك مجال للحديث عن المفهوم الضيق للجهاد؛ بمعنى إعلان الحرب العبثية "المفتوحة" على العالم، فذلك يعني فصل المفهوم عن جذوره ومقاصده الشرعية.
كما أن محاكمة مفهوم الجهاد في ضوء الممارسات التاريخية إلى معايير معاهدة جنيف 1949، وسائر القوانين المختصة بحقوق الإنسان والسلم الدولي، تعني غياب الحس التاريخي؛ الذي يشهد بأنه لم يكن في مستوى فظاعة ما مارسه الغرب المسيحي خلال الحروب الصليبية، وما ارتكبه من مذابح وجرائم في حق المقدسيين من يهود ومسلمين.
ومن ثم، فهذه المكونات التي شكلت السياق الواقعي المعاصر نعتبرها أسانيدنا فيما ندعو إليه من تحرير مفهوم الجهاد من مختلف الإسقاطات والمغالطات التي علِقت به، سواء بدعوى الممارسات التاريخية السابقة، أم بدعوى سوء تصوره ثم محاكمته بمنظور قوانين العصر.
ومن ثم، نؤكد ضرورةَ تجاوز المفهوم الضيق لهذا المصطلح، وفتح آفاق البحث في تحريره إرجاعا له إلى دلالته الأصلية، شرط الاجتهاد في توسيع آفاق توظيفه بما يتلاءم مع السياق العالمي المعاصر، في ظل شرعية الالتزام بما يخدم مبادئ العدالة والإنصاف والسلم الدولي، لما عُلم من تشوّف الإسلام إلى إقامة مشروع السّلم الدائم وتعزيزه بناء على وجوب مبدأ الوفاء بالعهد وتحريم نقض الميثاق.
خاتمة
وبالمقارنة بين خصائص هذا الواقع الجديد من حيث الرابطة القانونية الأممية، والتنظيم الاتفاقي التعاهدي على حفظ السلم والأمن الدوليين، ومستجدات التطور التكنولوجي والعسكري، وبين خصائص البيئة القديمة التي كانت بيئة قبلية قائمة على قضايا الثأر والمغالبة والسطو حيث لا وجود لسلطة مركزية، ولا معاهدات التعايش السلمي، خلص الشيخ عبد الله بن بيه إلى أربعة فروق أساسية مؤثرة لا محالة في تطبيق أحكام الجهاد في هذا العصر؛ وهي:
أولها؛ وجود المعاهدات والمواثيق الدولية..
وثانيها؛ كفالة القوانين لمبدأ الحرية الدينية، ومنه إمكانية تبليغ رسالة الإسلام والدعوة إليها بدون حاجة للإسناد الحربي والدعم العسكري...
وثالثها؛ قيام الحدود اليوم على القوانين الدولية (قديما كانت تقوم على نفوذ القوة أو بعد المسافة)..
ورابعها؛ وجود أسلحة الدمار الشامل، وخطر الأسلحة الفتّاكة التي لا تبقي ولا تذر.
الهوامش
[1]. انظر: الشيخ عبد الله بن بيه، بسط مفردات هذا المنهج في: تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، منتدى تعزيز السلم، أبو ظبي، ط1، 2014.
[2]. انظر: ابن المناصف، "الإنجاد في أبواب الجهاد"، تحقيق مشهور حسن محمد بن زكريا أبو غازي، بيروت: مؤسسة الريان، 2005، 1/10.
[3]. تفسير ابن عطية، 4/326.
[4]. قارن بـ: محمد سعيد رمضان البوطي، الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه وكيف نمارسه، دمشق: دار الفكر، 2003، ص26.
[5]. أخرجه ابن ماجه (4012) وأحمد (5/251 و256) والمخلّص في بعض الخامس من "الفوائد" (ق 1/260) والروياني في "مسنده" (2/30/215 ) وأبو بكر بن سلمان الفقيه في "المنتقي من حديثه" (ق 1/96) وأبو القاسم السمرقندي في جزء من "الفوائد المنتقاة" (ق 1/112) وابن عدي (2/212) والبيهقي في "الشعب" (2/438/1) من طرق عن حماد بن سلمة عنه .
[6]. المصدر نفسه، 1/341-342.
[7]. المصدر نفسه.
[8]. المصدر نفسه.
[9]. انظر: بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط1، (1376ﻫ/1957 م)، 2/42.
[10]. ابن جزي الكلبي الغرناظي المالكي، القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية، تحقيق: محمد بن محمد مولاي، ص258.
[11]. المصدر نفسه، ص258.