مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

عناصر من أنطولوجيا الأشعرية

عناصر من أنطولوجيا الأشعرية[*]

«فهذا [الاعتقاد] جاء بسبب الوهم والخيال لا بسبب العقل ألبتة».

الرازي (ت. 606 هـ/1209م)

“What is ‘real’? How do you define ‘real’? If you mean what we can teste, smell, hear and feel then what’s ‘real’ is nothing more than electrical signals interpreted by your brain.” Morpheus

Westerhoff, Reality: A Very Short Introduction, 2011: p. 30. [**]

توطئة:

لنظرية الوجود عند المتكلمين جهتانِ مختلفتان يمكن النظر فيهما استقلالاً -بصورةٍ ما-؛ الأولى، نظرية الوجود العامَّة غير المسيجة، فيما يظهر على الأقل، بسياجٍ دينيّ عقديّ، تشتبك برؤية معرفية للوجود والموجودات، ولهذه بواعث ومنطلقات طبيعيّة وفلسفية ذات تاريخٍ في إرث كتابات المتكلمينَ. الثانية، عقدية؛ وهاهنَا بإمكانِنا أنْ نضع حدودًا للإمكانات التي تتيحها نظرية الوجود، بكل دواخلها وبناءاتِها، لتشييد بعض معالم النظريات الكلامية وتقويتها من حيث أسسها الاستدلالية والحجاجية.

باستصحاب ذلك نستطيع أنْ نتصور مذاهب علماء الكلام الطبيعية والميتافيزيقية في ذاتها رغم كونها مدفوعة بدواعٍ إيمانيّة ودينية محضة قد تخفى في مواطن عديدة. ولئن كانت للمتكلمينَ نظرية في الوجود استلهِمت من روافد متنوعة، رغم خصوصياتها، فإنا قد نسأل سؤالا في الأنطولوجيا من جهة صلتها بنظرية المتكلمين الخاصة في المعرفة (إبستمولوجيا علم الكلام) نظير سؤال مورفيس: ما الواقع؟ أو بصورة أكثر تحديدًا: ما الواقع في تصور المتكلمين؟ إن المتكلمين، ونعني الأشاعرة، اعتبروا الواقعَ موضوعًا قابلاً للإدراك والفهم كما هو في نفسه رغم ما يشوب هذَا الإدراك من ستائر تحول دون الوصول إليه أحيانًا كثيرة. وبقدر ما يحتاج هذَا الجواب من استرسال بحثي متعدّد الحيثياتِ فإنَّ لبَّه يبدو بسيطًا تمامًا؛ الواقع أمر محايث، أو هو، بسهولة تامَّة، الموضوعية التي لا تخضع لاعتبارات نسبية تجعل واقعي أنا غيرَ واقعك أنتَ، إذن؛ ثمة واقع يُدرَك، ومُدرِك بإمكانه الوصول إلى إدراكه وتبيّنه، فالواقع، هنا، الحقيقة أو المطلق، وهو أعمَّ من الوجود، ويعبّر عنه بمصطلحٍ فنيّ: نفس الأمر؛ تلك العبارة المعرفية التِي سلبت عقولاً كلاميَّة فراحوا يفسرون بنياتِها اللغوية والمنطقية والأنطولوجية فضلا عن دلالاتِها الإبستيمية-المعرفيّة[***].

مرةً أخرى؛ ما الواقع؟ معرفيًّا رسمَ المتكلمون جزءًا من هذا الواقع من خلال تفسير العالم موجودًا ثابتًا ومتعيِّنًا ممكنًا في ذاتِه، ينقسم ذريًّا، إن جازت العبارة، إلى جوهر وعرضٍ، تدرَكُ أحكامهما الكليَّة التِي يُستنبط من بعضِ أوجهها حدوثُ العالم المعتبَرِ واقِعًا أيضًا وليسَ محضَ اعتبارٍ ذهنيّ أو خيال مصطنعٍ. لقد آمنتِ الأشعريّة، وربما بدا ذلك أكثر انتظامًا وصرامةً في مراحل لاحقة، بأنَّ للعقلِ الإنساني مُكنةً رفيعةً تعرّفه الأمور والأشياء كما هي ولو من إحدى جهاتِها، صحيحٌ أن النظار يتجاذبون أطراف القضايا ويستشكلون أصنافًا من المسائل لكن دواخلهم، المنعكسة من آرائهم، تعي تماما بأنَّ الواقعَ أمرٌ ثابت في نفسِه وأنَّ عروضَ حائلٍ مانع من الخلوص إليه أمرٌ آخر لا يلغِي إمكان إدراكه كما هو في ذاته. وبفضل ذلك انتهى الأشاعرة، كما المتكلمون عموما، إلى عدِّ وجود الله واقعًا وحقيقة مطلقةً تحفها حيثيات دافعوا وجادلوا عن إمكانات العقل لإدراكها والجزم بكونها كذلك كما هي وفق ما يعطيه العقل ويوصل إليه. لكنْ أيّ عقل يقصدون؟ يقصدون العقل الذي يحكمه الاتساق والسيرورة المشتبكة والمتراصَّة وفق توال استدلالي ينحل إلى بديهيات بسيطةٍ يجردها العقل من الوجود لينتهي لاحقًا إلى إدراك أنَّ الله واجب الوجود واحِدٌ ذو بساطةٍ، وأنه حقيقة كحقيقةِ كونِنا ووجودنا.

إنَّنا إذْ نبني مخطَّطا عاما لنظرية الوجود الأشعريَّة نلفِي جملة وافرة من المعطيات لا نحاول ردَّها إلى تفسير كلّي عام ينسحب على كل المذهب انسحابًا لا يبقي شيئًا، فإنَّ مثل هذَا الصنيع مصادم لواقع تاريخ تطور أفكارهم؛ لكنَّا إنما نتوجه نحوَ عرض جزئّي، بنحو كليّ، لرؤيتهم الأنطولوجية المسيجة بأسسٍ معرفية شهدت هي الأخرى تطورات داخلية متواترة، تظافرتْ عوامل علمية وسياقية في بنائها، لا يسع المقام لعرضها واقتراح تاريخ، ولو جزئي، لها، وعلى فرض ذلك فمقام النشر لا يحتمل ذلك؛ لذا نكتفي بهذا المجتزإ العام محاولين فيه تحليل عنصر واحد من الأنطولوجية الأشعريَّة ذي بعدٍ معرفيّ وطبيعي ثم كلاميّ-عقديّ من خلال مقدِّمات كتاب تأسيس التقديس لفخر الدين الرازي (ت. 606هـ/1209م)، مع اقتراح ترابطٍ بينها ينظر فيما باستطاعتنا استنطاقه من مسلك معرفيّ أشعريّ رسمَ خطاطة للوجود تخالف تقاليد مذهبية أخرى.

هذا؛ وسيلاحظ القارئ، معتذرين وعلى غير العادة، أن المصادر لم يراعَ في استعمالها منطق معيّن؛ نحو الترتيب الكرونولوجيّ أو الاقتضاء التاريخي لسيرورة مذهب الأشاعرة أو المحدّد النموذجيّ؛ بل، وعلى العكس، عمدنا إلى انتقِيتها عشوائيًّا وبغير مراعاة لشيءٍ سوى إمكانِ توفرها ورقيًّا، إلاَّ أن هذا الانتخاب لم يبلغ حدَّ العبث. وأخيرًا؛ فقد تعين تنبيه القارئ إلى إثباتنا لـ: ثلاث تعليقات مذيلة ومكملة آخر المقالة[****].

(I)

كيف يرى الأشاعرة الوجود؟

  1. يدافعُ أبو حامِد الغزالي (ت. 505 هـ/1111م) في كتابه المتأخر نسبيًّا الاقتصاد في الاعتقاد -المؤلَّف بعدَ عامِ: 488 هـ/1095م- عن رؤية أساسية في تصور الأشعريَّة لطبيعَة الوجود الإلهيّ قائِلاً: «فأمّا موجودٌ ليس بجسم ولا جوهرٍ متحيّزٍ ولا عرضٍ فلا يُدرك بالحسّ، ونحن ندّعي وجودَه» (الغزالي، 2008، ص. 92 سـ1، 2). تفصح مثل هذه العبارات عن إزاحة واضحة لخصائص كلٍّ من «الجوهر» و«العرض» عن الله، وهي خصائص تستتبعها الحقيقية الذاتية لصنفي الموجود الممكن: الجوهر والعرض أو الأعراض والأجسام -المركبة ذريًّا من الجواهر- (يُنظر: تع. 1 ملحَقًا أدناه. الأنصاري، 2010، ج. I ص. 278. البغدادي، 1928، ص. 33 سـ13-15. الغزالي، 2008، ص. 91)، وذلك وفقَ الرؤية الأنطولوجية التي التزم المتكلمونَ تصويرها وتنسيقها ثم الدفاعَ عنها لأغراضٍ تتباين آراء الباحثين بشأن تحليل استتباعاتِها واستناداتها الإيمانية والميتافيزيقية. ولئن استبعدنَا مجموعَة متظافرة من الخصائص الطبيعية التِي جرى مناقشتها في كتاباتِ المتكلمين الأشاعرة، باستفاضَة وتوفّر كبيرين (انظر-مثلا- ملخصًا رفيعا لـ«أحكامـ»ـهما في: ابن التلمساني، 2018، صص. 50-56. ابن خمير، 2004، ص. 157 سـ. 17-18)؛ فإنَّ خصيصَة الجوهر المقتضية لكونِه شاغِلاً قدرًا من الفراغِ وضاربًا بأبعاده فيه، بشرطِ حمله على الجسميَّة، وهي المسماة بـ«التحيّز»، مع ما قد تستلزمه من صفاتٍ أساسية كـ«المجاورة» و«المباعدة» و«الاجتماع» و«الافتراق» و«الحركة» و«السّكون»…؛ لتبدو أحدَ أهم الخصائص المعطاة للجوهر بما هو (راجع-مثلا-: الغزالي، 2008، ص. 40، 41؛ 77 سـ11-13. يُنظر: الأنصاري، 2010، ج. I ص. 294؛ 296. الرازي، 2012، بـ. II: مسـ.7).
  2. يؤطّر هذا التصورَ الوجوديَّ العامَ التفريقُ الذي تبناه المتكلمون، ويعنينَا هنا الأشاعرة، لأصناف وفئات الموجودات أو الأشياء؛ حيث جرى تحرير وتنسيق الرؤية القائلة بأنَّ الـوجود غيرُ معقَّد ولا موغلٍ في التركيب خلافًا للتصوريْن الطبيعي والميتافيزيقيِّ الملفَيينِ عند روَّاد التقاليد الفلسفيَّة الإسلامية الوسيطة، والناهِل من الموردَين المشائي‒الأفلاطونيّ المحدث. وتذهب الأشعرية، بحسبِ تحليلٍ أوَّلي وغير مستفيضٍ لأوضاع اصطلاحية وفنيَّة مبكَّرة، إلى عدِّ الـموجود، بصورةٍ بديهيّة وضروريَّة، غير خالٍ عن حالتي القِدم أو الحدوث (الأنصاري، 2010، ج. I ص. 226. راجع -مثلا-: الأشعري، 2022، ص. 110؛ 112، 113؛ 130، 131؛ 147، 156 سـ2، 3. البغدادي، 1928، ص. 8 سـ17؛ 70. ابن الأمير، 2010، ج. I ص. 193، 194). إنَّ هذَا التقسيم الفنيّ المستند علَى نظرية في الوجودِ سيشهد، لاحقًا، تطورًا اصطلاحيا، من حيث البناء الجوَّاني، أكثر دقّة بسبب إفادته الكبيرة من التطويعات والتجنيسات التي تمنحها اللغة الفنيّة الفلسفية وقضاياها التجريدية؛ مما سيجعل المصطلح منطويًا على جملةٍ من الأبعاد والأسئلة الكلامية الوجودية المحدثَة صياغَةً والمبتكرة إشكالاً -على الأقل في هذين المستويين-. وليس هنا محل الإفصاح عن معالم طرحٍ تحليليّ لمستوياتِ وتجليات الأمر معرفيًّا وتطورات ذلك تاريخيا؛ لكنْ بحسبنا الآن، ولعلَّ ذلك كافٍ، التأكيد على أنَّ التعبير عن مصطلحي «القديم» و«الحادث» بـ«الوجود الواجب» و«ممكن الوجود» لم يكن ليعنيَ المرادفة الفنية التامَّة بين شبكة من الاصطلاحات الرباعية المذكورة كما أوَّل ذلك دارسون محدثون (راجع: تع. 2 ملحَقًا أدناه).
  3. تتسم فئة الوجود «الحادِث»، أو «الممكنات»، بخاصيّة عامة، من حيث طبيعَةُ وجودِها، هي كونها غيرَ مستفيدةِ الوجود أو العدم من ذاتها وطبيعَتِها الماهويّة؛ رغم أن ثمَّة خلافًا في تحديدِ الكيفية التِي يحصل بها «إحداث» و«إفناء» الجواهر والأعراض (انظر: تع. 3. البغدادي، 1928، ص. 87. الرازي، 1966، ج. I ص. 144). وبمصاحبة هذَا التصور الأنطولوجي للفئة يدافِع المتكلمون عن تقسيمها الثنائيّ الموحَّد حتَّى يذلل لهم ذلك، من الناحية المعرفيّة، وضعَ تصورات وأحكام شمولية دقيقة لصنفيها تبقِي أيَّ احتمال يوردُ صنفا ثالثًا غيرَ الجوهر والعرضِ ضمن فئة الحادثِ احتمالا غيرَ مقبولٍ ومرفوضًا (انظر -مثلا-: البغدادي، 1928، ص. 83. المقترح، 2014، ج. I صص. 175-177). في ضوء هذَا نفهم سبب توغّل المتكلمينَ في تحديد الخصائص الأساسيَّة أو الماهويَّة التِي سيباينُ بها الجوهر صنفَ العرضِ قبل الحديث عن مباينتهما جنسًا أو صنفا آخر من الموجود، ويمكننَا نحنُ أن نستلَّ من كل تلك الخصائص المعطاة خاصيَّةَ التحيّز، كما ألِمع إلى ذلك قبلُ، التِي تعني، إن أضيفتْ لـ«الجوهر» مَا، «كونَه جرمًا يمانع غيرَه أن يكونَ [=يوجدَ] بحيثُ هو». ورغم اختلاف الأشاعرة فيما إذَا كانت هذهِ «الممانعَة» المسماة بـ«التحيّز» عائدةً إلى ذات الجوهر و«نفسِه» أو إلى أمرٍ زائد مغايرٍ لذاتِه وحقيقتِه (الجويني، 1981، ص. 52 سـ8، 9. المقترح، 2014، ج. I ص. 173. الشريف، 2010، ص. 43 سـ.6؛ سـ.9-12. ابن خمير، 2004، ص. 157 سـ. 9-18)؛ إلا أنَّ صفة «التحيّز» عوملت معاملة الصفةِ التي لا يمكن أن تنفكّ عن مفهوم الجوهر، سواء عدّت راجعة إلى نفس الذات، وهذا واضح، أو مغايرةً لها ومقتضاة عن أحد فئات صفاتها الذاتية (الجرجاني، 1998، مـ. II، ج. IV ص. 66 سـ. 2، 3. ابن التلمساني، 2011، ص. 202).
  4. بناءً على بعض أهم استنتاجات الرازي (ت. 606 هـ/1209م) اعتبرتْ «ماهية الله»، وهو ذات موجودٌ، «مخالفةً لسائر الماهيات لعينها» وبذاتها، ما يعني أنَّ وجود ذات الله صنْف من الوجود يباين ويخالف طبيعة وجود صنفي الممكنات، مع لزوم استحضارنَا الاستعمال الحذر لإسنادات مصطلحات كـ: الصنْف والذات والماهية إلى الله (الرازي، 1991، ص. 357، 358). ومقالة الرازي، إلى ذلك، تنبئ عن الحكم بأنّ لله ماهية أو حقيقةً «مخصوصة» تستلزم، من بين ما تستلزمه، اقتضاءَ المخالفة بين الله وخلقِه (ابن التلمساني، 2011، ص. 243؛ 288-91). طبعا لن يتمّ الإغراق في تحديد خصائص تلك الطبيعة والأوصاف اللازمة لها والمقتضية للمخالفة؛ لكن، وعلى الأقلّ، فقد صُرِّح ببعضِ الخصائص «الثبوتية» أو «السلبية» التِي من شأنها تفسير الحدود المعقولة والمفهومة لوجود الله (ابن خمير، 2004، ص. 155 سـ. 13-19. ابن التلمساني، 2011، ص. 280-81)؛ رغم أنّ إثبات الماهية لله من عدمه كان مسألة دفينة وخلافية بين المتكلمينَ بسبب شدة صعوبتها وإشكاليتها؛ فضلا عن تحفظ بعضهم من هذَا الإطلاق (راجع -مثلا-: ابن التلمساني، 2011، ص. 288-91. اليفرني، 2017، ج. II صص. 757-59). وأيا كان فقد سلِّم، بالنظر لجملة مركبة من الأدلة العقلية، بأن الله لا يماثِل «خلقَه»؛ والخلقُ، هاهنَا، بمعنَى المخلوقَات التِي تفسَّر بـ: العالم. ولما سبقَ للأشعرية أن قرَّرت مسألة طبيعة المخلوقات، المنحلّة إلى الصنفيْن المذكورين، فقد خرج لهم من ذلك ترسيخ مبدإ عدميّ وسَلبي ينفي أيَّة خصائص ماهويَّة، أو لازمة لها بالاقتضاء، عن حقيقةِ وطبيعةِ وجودِ الله وصفاتِه الثبوتية أو عما يلزم هذَا الوجودَ من لواحقَ. ولعل هذا الاستنتاج المبني بشكل نسقي يحيلنا على سبب من أسباب إسناد الأشعرية لـ القدرة الإلهية الأزلية خاصيةَ التأثير في مقابل خاصية الاكتساب المعطاة لـ القُدر الحادثة (راجع -مرة أخرى-: تع. 3 أدناه).

(II)

من المحسوسِ إلى الـمجرَّد

  1. في تقاليد فلسفية كلاسيكية، وفي خضمّ مناقشة مسائل من الطبيعيات والسيكولوجيا القديمتين، قدّمتْ النفس الإنسانية Anima humana مشاركةً للنفس النباتية Anima vegetabilis والحيوانية Anima vitalis vel sensibilis والفلكية Anima caelestis (Celestial soul) في المعنى العامّ والشامل للنّفس بكل أنواعها المذكورة (ابن سينَا، 1975، مـ. VI، ج. III مق. 1: فـ. 3 ص. 26 سـ. 4-6)، ووضعَ هذا التقسيم النفوس وضعًا تراتبيا جُعلت فيه النفس الإنسانية في رتبة أعلى لتميّزها عن النباتية والحيوانية في قوة إدراك المعقولات، وذلك بعد طرْحِ الجهات المشتركَة بينها فيما يخص الحواس الظاهرة External senses والحواس الباطنة Internal senses. ويظهر من هذا البحث الفلسفيّ تفرد النفس الناطقة Anima rationalis بقوَّة إدراك الكليّ والتصرف في المجرَّدات (ابن سينَا، 1975، مـ. VI، ج. III مق. 1: فـ. 5. راجع: الإصفهاني، 2012، ج. II صص. 673-75). وحسب هذا التصور الفلسفي فإدراكاتنا Perceptions تبدأُ، بما أنّا نحن البشر ذوو نفوسٍ حيوانية قبل كونها ناطقة، بـ«الجزئيّ» المشخّص والمعيَّن عن طريق الإحساس به بتوسّط آلات عضويّة؛ ومن ثمّ تُحفظ صورة المحسوسِ المادية تخيّلا دون أن تكونَ هذه الصورة «مجرَّدة عن العلائق المادية»؛ ولنا، بعد ذلك، أن نحصِّل «معاني جزئية غير محسوسة» مرتبطة بـ«صورة خيالية» عن طريق قوة التوهم، وهذه الرتبة المعرفية أعلى من سابقتِها لكنها تبقى مشوبة بكونها إدراكا جزئيًّا ذا صلة بالمحسوس وإن لم يكن متعلقًا به (ابن سينَا، 1892، ص. 122، 123). وإذا طرحنا جانبًا التفسيرات والتوضيحات الفيزيولوجية للمعرفة، والمسندة بالنظرية الطبية القديمة كتحديد مواطن هذه قِوى في الدماغ (ابن سينَا، 1975، مـ. VI، ج. III مق. 1: فـ. 5، ص. 34، 35، 36)؛ فإنّ أهمية هذَا التفسير الدقيق تكمن في تضمينه تصويرًا فلسفيا تراتبيا للمعرفة من خلال رؤى ميتافيزيقية وفيزيولوجية. ومهما يكن من أمر فقد راح الفلاسفة يفسرون الطريقة التي تنتهي بها النفس البشرية، أو «الناطقة» تحديدًا، إلى مرتبة أعلى تمكنها من التصرف في معطياتها المعرفية تجريدًا وتوليدًا (السمرقندي، 2020، ج. II ص. 149، 159).
  2. لقد استطاع فخر الدين الرازي، ببراعته المعهودة في الحجاج والاستبطان، توظيفَ هذه الشبكة الفلسفية، المحللة لطريقة المعرفة، ضمن مقدمات كتابه تأسيس التقديس/أساس التقديس (الموضوع في إبرازتين: 596هـ/1199م-598هـ/1202م). وإلى كون الكتاب موضوعًا وفق بناء متراصّ ومحكم تقصّد معالجة مسألة كلامية واحدة هي تخليص الوجود الإلهي من أيّ شائبة ماديّة تخلُّ بمبدإ التنزيه Deanthropomorphism؛ فإنَّ صاحبه أخفى أكثر ما أبداه. ولن نتحدث، هنا، عن كل حيثيات توظيفه المعطيات الفلسفية والطبيعية العتيقة في العملِ مادمنا معنيينَ، إجمالا، بتبيّن كيفية إفادته من الوضع التقني والاصطلاحي لجزءٍ من مفردات النسق الفلسفي والطبيعيّ الوسيط؛ حيث يُظهر الرازي، في سياق نقاشاته الحجاجية المدافعة عن تجرّد الوجود الإلهي، استعمالاً لمصطلحاتٍ من قبيل «الوهم» و«الخيال» بدا أنّها كان ذات إجرائية كبيرة في تشييد رؤيته الكلامية الأشعريّة. ومن الواضح أن صاحب التأسيس قد استعار جزءًا من شبكة المفاهيم الفلسفية والطبيعيّة ذات الخلفية السينويَّة وغير السينويَّة، استعارةً واعيةً بأساسها الأنطولوجيّة والمعرفيّة، ومن غير المستغرب أنْ يتم ذلك في كتابٍ حُبّر في فترة خطيرة من تاريخ تطور أفكار الرجل وآرائه الكلامية؛ أي بعد منتصف ق. 6هـ/العقد الثامن من ق. 12م. ولئن كانت معالم فكرته في التنزيه صادرةً عن رؤية مذهبية عامّة ومسبقة، فإنَّ الرازي زكاها بما جعل مسألة التنزيه الأشعرية شديدة التماسك والقوة. وغير خافٍ، في هذَا السياق، أنّ الأشعرية آمنت بما للعقل، القاضِي بالمخالفة التامة بين طبيعتين في الوجود، من مستنداتٍ قطعيَّة ترجعُ إلى بديهيات أساسية جَعلت هذا التمييز الأنطولوجيّ معقولاً وإن كانَ غير قابلٍ للإدراك الحسي، مؤكدين أن الحكم باستحالة المكانية على الله قابل للتصديق المستند على العقل وإن كان هذا التصديق، في المقابل، غيرَ مسلَّمٍ به بادئ الأمر، أو غير مسلم به بالنظر لمعطًى معرفي غير العقل. وعلى هذا؛ خلصتِ الأشعرية باستلزام حكمها التنزيهي منع اتصاف الله بإحدى الجهات الأربع المكانية الاعتبارية: الفوقية، والتحتيَّة، واليمينيَّة، واليساريَّة؛ نظير استحالة وصفه بأنَّه «غير حالٍّ في العالم ولا مباين عنه»، رغم عدّ خصومهم -فيما درج الأشاعرة على نقله!- هذه النتيجةَ من جنسِ رفع التقابل المنطقي البديهيّ الذي لا يقبل العقلُ ارتفاعه عن موجودٍ ما (الرازي، 2011، ص. 47، 48).
  3. لتجنب هذا الاعتراض، القوي فيما يظهر، حرص المتكلمونَ على توضيح وتفسير أمرين مهمين:

         1) تعيين مورد هذَا الحكم؛ حيث توفروا على التمييز بين الحكم المتلقى من العقل، والقاضي بألاَّ صحة لإسناد المكانية والحيّزية لصنف من الوجود هو وجود الله، والحكمِ الحسيّ المتوهّم والمتخيل كونه عقليًّا؛ ومن ثمَّ أعطي للعقل الكفاية التامة، فيما يبدو، في إدراكِ طبيعة وجودٍ ذي أوصاف لا توافق العوالم المحسوسة؛ مما يعني الحفاظ على أدلة هذه الرؤية الأنطولوجية موافقةً للمبادئ العقلية الأولية من خلال عرضِ متوالياتٍ متسلسلة من الاستدلالات النسقية المركبة (الأنصاري، 2010، ج. I ص. 385-87). وحتى يقع التدليل على هذا الوجود المجرَّد تنبَّه الأشاعرة لما قد تنطوي عليه مقولة كونِ الله «ليس بمتحيز ولا حالٍّ في المتحيز» (الرازي، 2011، ص. 47 سـ3) من غياب للاتساق الذاتي المنطقيّ الناقض لمنع التناقض؛ لذا جادلوا على عدم قابلية ذات الله وطبيعته لأن تكونَ محلا لتوارد الجهاتِ الأربع المذكورة مادام التحيّز، والنسبة إلى المتحيّزٍ، شأنًا غير ذاتيّ لله ولا مما يقبله ووجوده أصلا؛ بل غاية ما وقع لخصوم الأشعرية في استدلالهم واعتراضهم، كما استنتج المتكلمون، يعود إلى نوع من التباسِ «الموهوم بالمعقول» (الأنصاري، 2010، ج. I ص. 387).

       2) حرص الأشاعرة، ثانيا، على الإفادة الموسَّعة من لوحِ المتقابلاتِ، بخلفيتها المنطقية والوجودية-الفلسفية، لبيان تماسك رؤيتهم في الحكم بالإحالة المذكورة؛ فالقضايا التي من جنس قولنا -مثلا-: ”الجوهر ’ب‘ إما متحيّز أو ليس متحيّزًا“ تدخل ضمن فئة تقابل «العدم والملكة»؛ أي أن هذَا الإيجاب والسلب في «النسبة» يكون لـ«محلٍّ من شأنه» ذلك بأنْ يؤخذ في الاعتبار قابلية الجوهر ”ب“ لأن يكون متحيّزًا، ومادام هذِه القابلية نفسها مسلوبة عن الله فلا رفع للتقابل إذِن (بشأن هذَا التقابل انظر -مثلا-: الإصفهاني، 2012، ج. I ص. 457-58. الجرجاني، 1998، مـ. II، ج. IV صص. 92-94).

  1. لقد سعى فخر الدين الرازي نحو تخطيط منسّق ومعبّر عن مذاهب خصومِه -تحديدًا الكرَّامية والحنابلة- الذاهبينَ إلى الاعتقاد بأنَّ طبيعة وجود الله تماثل وجود الأجسام والأجرام في استلزامها للجهةِ والمكان والحيّز. ويجادل الرازي خصميه مستعينًا باستراتيجياتٍ حجاجيّة ترى أن معتَقدهما ليسَ إلا وهمًا لا صلة له بالعقل ولا ينتجه الاستدلال السليم. وتحيل بعض استعمالات التأسيس الاصطلاحية على معانٍ غير اعتباطية تدلّ على ما كان يبطنه الرازي من رؤى إبستيمة وفلسفية محدَّدة. فقد نصرَ صاحب الـتأسيس، مشقّقا الأدلةَ، مقالة الأشاعرة في تنزيه الله واعتبار وجوده ذا منزلة متعالية عن الوجود الممكنِ، وجودِ الخلْق؛ وذلك بعرض الافتراضات المولَّدة عن مقالة خصوصه بشكل لزوميّ؛ لكنَّا، وعند تفحص دعواه، نلفيها، أساسًا، تستبطن التفريق الإبستيمولوجيّ القاضي بأنَّ ثمةَ قضايَا تخالف معهود المعطياتِ الحسيَّة وبعض تصرفاتِ القوى المعرفية الإنسانية في الحس (ص. 49 سـ. 4-6؛ ص. 50 سـ. 5-6)؛ رغم ما قد يظهر من صعوبة في إبطال بعضها بسبب ظاهريتها المصادمة لبديهيات العقل، ذلك أننا «نجد من أنفسنا ميلا إلى القول بأن كل ما سوى العالم لا بدَّ وأن يكون حالاًّ فيه أو مباينا عنه بالحيّز والجهة»، إلا أنَّ هذَا لا يعدو، في دفاع الرازي، كونَه ظنَّا «حصل بسبب أنَّ الوهم والخيال لا يتصرفان إلا في المحسوسات»؛ ومن ثمة «فهذا الميل إنما جاء بسبب الوهم والخيال لا بسبب العقل ألبتة» (ص. 48؛ وانظر: ص. 51 سـ. 7، 8؛ ص. 52 فـ. 4).
  2. لا نجد في كتاب التأسيس، على عادة مجموعة من كتابات المتكلمينَ، فصلاً أو مواضع مفصولة تستعرضُ أحكام الجواهر والأعراض باستفاضة واستقلالية قبل الخوض في مسألة ما إذا كان الله مماثلا لصنفي العالم ذوي الوجود الممكن، وفي مقابل هذَا؛ لقارئ العمل أن يلاحظ حضورًا متواريًا للنظرية المعرفية التي شكلت مسند الرازي ورسمت حدود ومنطلقات استدلالاته؛ فكل ما يلزم خصمَه حتى يقتنع بجدوى ادعاء الرازي، والأشاعرة عمومًا، عزلُ أحكام الحسّ عن أحكام العقل، ورغم تداخل المعرفة الإنسانية وأهمية كل حكم على حدة بالنسبة لغيره إلا أنّ هذا التجريدَ والتفريق يبقى أمرًا بالغ الأهمية ليس من الناحية المعرفية الخالصة فحسب وإنما من حيث كونِه تفريقًا يعطي لكل صنف في الوجود صفاتِه الأنطولوجية التِي تبقي حقيقتَه المطلقة كما هي غير مداخلة ولا مماثلة للنظير. إنه، إذن، تفريق أنطولوجيّ للوجود يجعل من القياس وحمل النظير على النظير محكومًا بأمور أخرى لم يشأ الرازي التفصيل فيها في التأسيس. وهكذَا؛ استبطن الرازي جملة عديدة من الأنساق وهو يجترح استدلالاته وتأويلاتِه المقترحة لآيات وأحاديث صفات الله، منتهيا إلى تجريد وجود الله وعزل قوتي الوهم والخيال الحسيتين عن إمكانية معرفتِها لصفاتِ ذاتِه. وفيما يلي مخطط عاما لـ«المقدمات» الثلاث التي أوجب صاحب التأسيس تقديمها «قبل الخوض في الدلائل»:
  • المسلمات المطوية: نكتفي بذكر أربع مسلمات استدلالية طواها الرازي طيًّا ولم يصرح بها:
  • الاستواء في الذاتيات تمامًا يوجب التماثل في الحقائق؛
  • الاستواء في الحقائق يعني الاستواء في الذاتيات؛
  • الاستواء غير التام في الذاتيات لا يوجب الاستواء في اللوازم ولا يمنعه؛
  • الاستواء في اللّوازم لا يقتضي بالضرورة الاستواء التام في الذاتيات.

ويمكن تفسير هذه المسلمات بناءً على مجموعة من التوضيحيات المنطقية والفلسفية التِي تميزت بها مرحلة الأشعرية المتأخرة.

1. وجود ذو طبيعَة واحدة:

1.1 المباينة «عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة»؛ فـ«الإله في الجهة»: يرى خصوم الرازي المناقَشين؛ أي الكرامية والحنابلة، أنَّ الحكم بثبوت موجودٍ ليس حالاًّ ولا محلاًّ، ومن ثمة ليسَ ذا جهة أو حيّز؛ «باطل في بدائه العقول» (ص. 46 سـ. 11-14).

2.1 للموجود نظير ومثيل: تفرع عن الاستنتاج (1.1) القول الذاهب إلى أن طبيعة الوجود الإلهي ذات نظير ومثيل، من حيثُ إنّ لأحد فئتيها حقيقةً مقتضية للتحيّز والإشغال (ص. 46، 52 سـ. 5-7). وهنا؛ لا يمكن إلا أن نقول بأنَّ الرازي اصطنع هذِه الدعوى على لسان خصومه، وألزمهم بها بسبب قولهم بعدم إمكان تصور وتعقّل «وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه» ما داموا قد حملوا ذلك على مقايسة وجود بوجودٍ محسوس (ص. 56).

3.1 لـ«جهة الله» وذاته كيفيات جسمية ما: هاهنَا، واستنادًا على نقلِ الرازي التي يظهر أن بعضها استنتاجات مولَّدة، يتضاربُ مذهب «المشبّهة» في تحديد موحّد ومعقول لكيفيات وجود الله الجسميّة (ص. 57-58). ولا نحسب هذا الاضطراب، الذي أحسن الرازي عرضَه، إلا أمرًا خادِمًا لاستراتيجيات الرازي الحجاجية.

2. موجود ذو طبيعَة مجرَّدة:

1.2 وجود موجود لا يُـحَسّ: كون موجود ما مشارًا إليه بـ«الحس أنه ههنا أو هناك» -إخراجا لباقي أصناف الإشارات الحسية كإشارة الإبصار -مثلاً- لا يقتضي أن كل موجودٍ كذلك؛ وعليه يستنتج الرازي صحة دعوى المذهب بأنَّ ثمة موجودًا «غير مختصّ بشيء من الأحياز والجهات […] غير حالّ في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات الست» (ص. 46).

2.2 ليس كل موجود مقتضيا لمثيل: استنتج المتكلمون استنادًا على استدلالات عقلية متنوعَةٍ ثلاثة أصناف من الموجودات، ويظهر أنّها لا تأخذ نفس الصفات الذاتية العائدة إلى ماهياتِها رغم اشتراك صنفيها: الجوهر والعرض في لوازِم وجوديّة. ويدافع الرازي، كما أصحابه، عن صنف مجرّد موجود ومعقول ليس له مشاركة أو مماثَلة للصنفين الآخرين، فهو «موجود موصوف بصفات مخصوصة» بحيث إنَّ كل «ما سواه» يعدّ «مخالفًا له في تلك الخصوصيَّة» (ص. 56).

3.2 وجود الله مجرّد: يلزم من (2.2) القولُ بوجود موجود متعالٍ مجرَّدٍ ليسَ مقتضيا للوازم الأجسام أو مماثلاً لها في فئات صفاتِها الماهوية؛ ومن ثمة فهو ليسَ ذا حيّز أو مكانٍ أو جهة، إنه، إذن، موجود مجرَّد، مجرّد عن الصفات التي استلزمها الوجود الممكن وجعلت منه ذا حقيقة حسيَّة موسومة بالحدود والغايات الإمكانية.

ذيلٌ بـ: التعـقيبات

  • تع.1: في بعضِ المصادر غير المتأخرة يشار إلى العالم، أو المخلوقات (=«الخَلق»)، بـ«الموصوفات» و«الصفات» (المرادي، 2012، ص. 189 سـ4، 5). والحال أنَّ هذا التعبير الفنيّ غير دارجٍ في كتابات المتكلمين وأوضاعهم؛ لذَا قد يكون من اللازم عدم الاطمئنان إلى التفسير القائل بأنَّ «الموصوفات» تعنِي، هكذَا وبنحوٍ آليّ، «الجواهرَ» أو «الجواهر الفردةَ»؛ حيثُ جاءَ في التعليق على صيغة المرادي (ت. 489هـ/1106م) الأنطولوجيَّة: «يريد المؤلِّف بالموصوفات: الجواهر التي تكون محلا للأعرض». (ص. 189 هـ4). من الواضح أنَّ هذَا التفسير، من ضمن أخرى، لا يبدو دقيقا لسببين؛ الأول، استغناء بعض المصادر، ومنها عقيدة المرادي، عن البحث في نظرية الجوهر الفرد بما هي مقدَّمة أساسيَّة، كما زعم لأسبابٍ يطول شرحها، في إثبات حدوث العالم. والثاني، تداخل الاصطلاحات التالية: الجوهر، الجوهر الفرد، الجسم، والموصوفات؛ إلى حدٍّ كبير؛ إذ من المعلوم أن الجوهرَ قد يطلق، وربما تجوزًا، على «الجسم» خصوصا عند عدم تقييده بـ«الفردِ»، فيما يعطي «الموصوف»، بحسب دلالته اللغوية، معنًى أعمَّ من الجوهر وغيرَ مكافئ له رغم تضمّنه له وصدقِه عليه؛ فكأن «الموصوف» يعني القابل لـ«كل جنسٍ من الأعراض» عرضًا واحدًا على الأقل إذا كان له ضِدّ واحد (الجويني، 1938، ص. 13 سـ. 16-19). ويبقَى حمل «الموصوفات» على معناها العامّ أظهر من الناحية الفنية، وإن كانت مصادر المتقدمين لا تساعدنا على مزيد تحقيق، وهي ثغرة نعترف بإيرادها على هذا التحليل.
  • تع.2: في نشرة اللمع (ص. 147) للدراس المصري حسن الشافعي ترد زيادتان تفضل نشرتي العمل السابقتين (اللمع، 1952، فـ.36 سـ.17. اللمع، 1955، ص. 38)، وهما زيادتان، ضمن أخرى، تسعيان إلى تجاوز مزالق القراءات السابقة لمتن كُتيّب اللمع ونشراتِه؛ حيث سيتمّ اعتبارها من قبيل التقويمات القرائيّة «المعالجة» للنص (الشافعي، 2022، صص. 93-98؛ 104) بإزاءِ بواعث تقريبية تحاول تسهيل متن العمل وصياغاتِه الفنية. وأيَّا كان، فالزيادتان اللتان اقترحهما الشافعي هكذَا: «ومحال عدم القديم، [لأن فيه بطلان الواجب] كما [هو] محال حدوث القديم؛ [لأنَّ فيه تحصيل الحاصل]» (ص. 147) لا يمكن، بأي حال، عدّهما من صميم النصِّ، سيما الزيادة الأولى المعللة لاستحالة «عدم القديم» بـ«بطلان الواجب»، وأقصى ما هنا اعتبارها تفسيرًا توضيحيًّا وتقريبيا يصعب تسويغُ إدراجه في متن اللمع، ذلك أنَّ عبارة: «لأن فيه بطلان الواجب»، فيما نحسبه واضحا، منطوية على معالم فكريّة مست بنيات الأشعرية في وقتٍ لاحق من تاريخها الحافل بعد شيخ المذهبِ أبي الحسن الأشعريّ (ت. 324 هـ/336م)، وإدراجها في متن النصّ، ولو لغرض التقريب، قراءةٌ له في غير سياقه التاريخي والفكري. ونحن نترك الإطالة في شرح هذا إلى موْضِع آخر.
  • تع.3: إذا كان مفهوم ”التأثير“ يحيل، في التقاليد الأشعرية، على الإيجاد والإعدام؛ فإنَّه، وضمن هذا، لا يوجد اتفاق، بين الأشاعرة خصوصا، حولِ اعتبار «القدرة»، من حيث إنها صفة ”مؤثِّرة“، متعلِّقةً بــ: العدَم. لقد جرى تفسير عَدم الأشياء الممكنة، نعني فئتيْ الجواهر والأعراض، بما قد يفهم منه كون عدمها أمرًا تلقائيًّا لا يحتاج سوى إمساك القادر عن إيجادِه الشيءَ المعيّن المخصَّص بإرادتِه (راجع-مثلا-: الغزالي، 2008، ص. 105، 106. الشريف، 2011، ص. 92). هذا؛ وإنّ للمسألة أبعادًا أخرَى أكثرَ دقةً من هذَا المستوى نعرض عن ذكرِها هنا.

الهوامش:

 [*] مدين بشكرٍ كبير لصديقي وأخي السيد ياسين الحجراوي (جامعة عبد المالك السعدي، تطوان) على ما وفّرته مكتبته لي من مراجعَ ومصادر حال عارضُ سفري وبعدي عن مكتبتي الخاصة دون الإفادة منها. ولا يفوتني شكر كل من صديقي وأخي الباحث إسماعيل أصبان (دار الحديث، الرباط) الذِي مكّنني من نسخة مصورة لنشرة لوسياني إرشاد أبي المعالي الجويني بعدَ أن حرّرت طرفًا من المقالة؛ والدكتورة إكرام بولعيش (مركز أبي الحسن الأشعريّ، تطوان) على مناقشاتها وملاحظاتها المفيدة للغاية.

[**] مقتبسٌ من حوار ذي بُعدٍ فلسفيّ من فيلم  The Matrix (1999م)، ترجمته: «ما ’الواقع؟‘ كيف تُعَرِّف ’الواقع؟‘ إذا كنتَ تعني ما نستطيع تذوقه وشمه وسماعه والإحساس به؛ إذن الواقع ليس سوى إشارات كهربية يترجمها دماغك» (فيسترهوف، الواقِع – مقدمة قصيرة جدًّا، 2017: ص. 33).

[***] انظر-مثلا-: مجموعة مؤلفين. 2017. ثلاث رسائل في نفس الأمر. تح. س. ع. فودة. الأردن: الأصلين للدراسات والنشر.

[****] اعتُمِدتْ الخطوط العريضَة لإرشادات الإحالة والتوثيق الموضوعة من قِبل الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA Ref. Guide) مع اختصارات. كما ذيلت المقالة بـ: تعقيبات شارحة ملحقة تعد تفسيرا واشتباكا مكمِّلا لبعض المحتويات التِي حسنَ توضيحها أو قولها: تع. 1، تع. 2، تع. 3. وحتى يسهل استعمال المقالة لغرض ما لاحقًا اخترتُ تنصيفها إلى قسمين: I، II يحوي كل قسمٍ فقراتٍ مرقمةً فرعيا: 1، 2، 3 …إلخ.

وفيما يلي رموز بعض الاستعمالات:

  • ص: صحيفة
  • سـ: سطر
  • ج: الجزء
  • بـ: الباب
  • فـ: الفصل
  • مـ: المسألة
  • مق: مقالة
  • تع: تعليق
  • هـ: هامش

بيبليوغرافيا:

  • ابن الأمير أبو الفتح. (2010). الكامل في اختصار الشَّامل، تحقيق جمال عبد المنعم. القاهرة: دار السلام.
  • ابن التلمساني شرف الدين. (2011). شرح المعالم في أصول الدين. تقديم وتحقيق وتعليق عواد محمود عواد سالم. القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث.
  • ابن التلمساني شرف الدين. (2018). شرح لمع الأدلة. اعتنى به نزار حمَّادي. الكويت: دار الضياء للنشر والتوزيع.
  • ابن خمير السبتي. (2004). مقدّمات المراشد. تحقيق جمال علال البَختي. تطوان: مطبعة الخليج.
  • ابن سينا أبو علي. (1975). الشفاء، الطبيعيات II: النفس. تحقيق جورج قنواتي سعيد زايد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  • الأشعري أبو الحسن. (2022). اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع. تحقيق وحاشية حسن محمود الشافعي. القاهرة: مشيخة الأزهر الشريف.
  • الإصفهاني شمس الدين. (2012). تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد. صححه وقدم له وعلق عليه خالد بن حماد العدواني. الكويت: دار الضياء للنشر والتوزيع.
  • الأنصاري أبو القاسم. (2010). الغنية في الكلام، قسم الإلهيات. تحقيق مصطفى عبد الهادي. القاهرة: دار السلام.
  • البغدادي أبو منصور. (1928). كتاب أصول الدين. إستانبول: مدرسة الإلهيات بدار الفنون.
  • الجرجاني الشريف (1998). شرح المواقف في علم الكلام. ضبطه وصححه محمد عمر الدمياطي. بيروت: دار الكتب العلمية.
  • الجويني أبو المعالي. (1981). الشامل في أصول الدين. تحقيق ر.م فرانك. تهران [طهران]: مؤسسهٔ مطالعات اسلامی.
  • الرازي فخر الدين (1966). المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات. طهران: مطبعة الأسد.
  • الرازي فخر الدين. (2011). تأسيس التقديس. عني به أنس محمد عدنان الشرفاوي، أحمد محمد خير الخطيب. دمشق: دار النور الصباح.
  • الرازي فخر الدين. (2012). معالم أصول الدين. اعتنى به نزار حمَّادي. الكويت: دار الضياء للنشر والتوزيع.
  • السمرقندي. (2020). بشارت الإشارات في شرح الإشارات والتنبيهات. تحقيق علي اوجي. تهران [طهران]: مركز پژوهشى ميراث مكتوب.
  • الشريف زكريا الإدريسي. (2011). شرح العقيدة البرهانية والفصول الإيمانية (*منسوب إلى التقي المقترح). اعتنى به نزار حمَّادي. بيروت: دار مكتبة المعارف.
  • الغزالي أبو حامد. (2008). الاقتصاد في الاعتقاد، تحقيق أنس محمد الشّرفاوي. بيروت: دار المنهاج.
  • المرادي أبو بكر. (2012). العقيدة. دراسة وتحقيق جمال علال البختي. تطوان: مركز أبي الحسن الأشعري.
  • المقترح تقي الدين. (2014). شرح الإرشاد في أصول الاعتقاد. دراسة وتحقيق نزيهة أمعاريج. تطوان: مركز أبي الحسن الأشعري.
  • اليفرني أبو الحسن. (2017). المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية. دراسة وتحقيق جمال علال البختي. تطوان: مركز أبي الحسن الأشعري.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق