وحدة الإحياءدراسات عامة

علم الأصول ومبدأ الاقتراض من العلوم المجاورة.. تحليل وتعليل

إن مساق هذا النظر يتجاوز كل مظاهر الإشادة بأهمية علم الأصول في تحقيق النهضة الحضارية للأمة، وتحصين مكتسباتها بما يمكنها من إدراك مقامات التكليف الشرعي المفضي إلى التحقق بصفة الخيرية المجتباة لها قدرا، ولتقوم بما جرى به التكليف شرعا؛ فيستقر أمرها شاهدة على الأمم.

وليست هذه الورقات دفاعا عن علم الأصول، كما أنها ليست تحيّزا إلى مقولة من المقولات النقدية الموجّهة إليه لوما عبر تاريخه، حين مد يده إلى معارف علوم مجاورة؛ يقتبس من معارفها قواعد يمهد بها لبناء نسقه المعرفي، ويقيم من مجموعها أصولا حاكمة لمختلف وجوه تدخلاته في المجال التشريعي؛ بدءاً من تحديد مدارك الأحكام تمهيدا لصياغة مفهوم الدليل، ومروراً بالتدقيق في قواعد الفهم وبناء قصد الإفهام، وانتهاءً برسم معالم اعتبار الواقع في اجتهادي التأويل والتنـزيل تحقيقا لمقصد الامتثال، ورعيا منه لمقصد التكليف بمقتضاها.

وإنما كان سعينا منذ أن كان مراجعا لعمل المجددين، باحثا عن الخلفية المعرفية، والمستند المنهجي، في التجديد مفهوما، ومنطلقات، ومنهجا.

وكان مجموع ما تعلق بالإشكال في هذا المقام، محكوما بضابط تحقيق المناط، هو ما اعتبره المجددون دخيلا في الأصول، لا يرجح اعتباره وجه من النظر معتبرا.

مبادئ العلم

وذلك لإجماع مختلف الدراسات، قديمها وحديثها، على أن العلوم التي تعتبر موئلا للفكر الأصولي عبر تاريخه، هي: علم اللغة العربية، وعلم الحديث، وعلم الكلام والمنطق[1].

وفي هذه الورقة مراجعة لدواعي اطراح تلك العلوم من الأصول، وتبيان مدى سلامة تلك العلل من القوادح، ومباحثة من جهة أخرى في سر تقلب الفكر الأصولي بين تلك المعارف. والقصد من ذلك هو إبداء نظرات نقدية في بعض محاولات تجديد العلم على مستوى المقولات، وعلى مستوى الجهاز المفهومي المعتمد مرجعا لعملية التجديد في نظر أصحابها.

وجامع ما تؤول إليه الدراسة نجمله في محورين:

المحور الأول: علم الكلام وبناء المرجعية التشريعية في علم الأصول: الرؤية والمنهج

ذلك أننا نعتبر أن من الشروط العلمية للتجديد هو امتلاك المجددين رؤية علمية للمفاهيم الأصولية في ذاتها، ولخلفياتها المعرفية ومنطلقاتها المبدئية، ولنسقيتها الداخلية، ولوظائفها المنهجية خدمة للغايات العلمية لعلم الأصول في المذهبية الإسلامية. فليس التجديد إلقاء لمفاهيم أصولية، أو إبقاءها أو الارتقاء بأخرى وحسب، دون بيان ضرورتها، وكفايتها النظرية، ودون تعليل مقنع برجحان ذلك، وهو ما ترجمنا له بالرؤية والمنهج.

وإذ لا يستقيم لنا الاعتراض على دعوات إخلاء الأصول من الكلام، ولا معارضتها بما يظهر معه نـزوح أسئلة المانعين عن التأثير، من دون إثارة سؤال مدى حاجة الأصولي إلى هذا الصنف من المعرفة، وهل تلك الحاجة ألجأتهم إليها ضرورة منهجية، أو اقتضتها خصاصة معرفية؟ أم إن ذلك كان ترفا فكريا لا ترهق إلى اعتباره إلا فضول معرفة، وإلف شب عليه الأصولي، وتمسك منه بعادة فاسدة؟

وذلك أن محل النـزاع هو كيف يكتسب علم الأصول سلطة منهجية لتدبير إشكال المرجعية في الثقافة الإسلامية، بما هو علم يؤسس لمناهج بناء مصادر المعرفة الإسلامية، ويحقق القول في مدارك الأحكام بما هي نظام من القيم الحاكمة على سلوك الإنسان، الفرد والجماعة، في سعيه للارتفاق بالمنافع، والنأي عن المضار.

 واقتضانا النظر المنهجي لمراجعة دعوات الاطراح تلك، أن نتبين أصول ذلك الاختيار أولا، ثم نجري عليه وجوه الاعتراض والمعارضة ثانيا.

أولا: أصول الاختيار ومستنداته

ونرى في هذا المقام أن ما يرجع إليه دعاة تخلية الأصول من علم الكلام، هو: أنه لا يعين على فقه، ولا يسن طريقا للاستنباط، وأنه يتحمل وزر انصراف الطلاب عن دراسة الأصول؛ بسبب تعقيد المباحث الكلامية، وأن إبقاءه اشتغال بغير المقصود، وإعراض عن المقصود؛ لأن محله في كتب علم الكلام، فمن رغب فيه فليطلبه من مظانه[2].

وإذا كانت تلك جوامع حجج ما اعتبره الداعون لتنقية الأصول من الدخيل، فإنها حجج لا تنهض دليلا على أصل الدعوى، اعتراضا ومعارضة.

أولا: الاعتراض، ومؤداه أن التعليل بانصراف الطلبة عن تحصيل علم الأصول بسبب إدراج قضايا الكلام فيه فغير مؤثر؛ لأنه ليس له تعلق بالعلم في ذاته، وإنما هو أمر نفسي، منشؤه اعتقاد انتفاء فائدة في علم الكلام أصلا، لا في علم الأصول، ولا في غيره، ولو فرض تغير هذا الانطباع لتغير بالتبع الاهتمام به.

وأما أن التحقق بعلم الكلام يتم بالرجوع إلى مظانه؛ فذلك ما نص عليه المحققون من الأصوليين، وليس ذلك محل نـزاع، وإنما محل النـزاع وجه حاجة الأصولي إليه. ومقدار تلك الحاجة، ومحلها.

ولعل أبلغ حجة وأقواها هو التشكيك في ما يوفره علم الكلام لطالب الأصول من فوائد، وهل ينبني على العلم به علم، أو يحقق عملا؟ ولعل التعلق بهذا الاستدلال لا ينتج؛ لأن عدم الوجود، أو عدم الإدراك، لا يدل على عدم الوقوع، أو عدم الإمكان، خصوصا في محل النـزاع[3].

ثانيا: المعارضة، ونقيمها من وجهين

1. المعارضة من جهة الفهم

 وهو نـزاع في فهم للنصوص التي اعتمدوها في إثبات أصل الدعوى، من ذلك قول أبي الحسين البصري في المعتمد: “فأحببت أن أؤلف كتابا، مرتبة أبوابه غير مكررة، وأعدل فيه عن ذكر ما لا يتعلق بأصول الفقه من دقيق الكلام[4]” و قد بين من قبل نوع القضايا التي وصفها بأنها كذلك، قال مبينا دواعي شرحه للعهد “وشرح أبواب لا تليق بأصول الفقه من دقيق الكلام، نحو: القول في أقسام العلوم، وحد الضروري منها والمكتسب، وتوليد النظر العلمي، ونفي توليد النظر إلى غير ذلك[5]” وسياق النص يدل على أنها قضايا كلامية معينة موصوفة بأنها من دقيق الكلام، فكيف جاز تعميم الحكم الوارد في مقام خاص.

ومثل هذا النص ما ورد عن الغزالي أيضا في سياق خاص شبيه بالذي تحدث عنه أبو الحسين البصري، قال في مقدمة المستصفى: “اعلم أنه لما رجع حد أصول الفقه إلى معرفة أدلة الأحكام اشتمل الحد على ثلاثة ألفاظ: المعرفة والدليل والحكم، فقالوا: إذا لم يكن بد من معرفة الحكم حتى كان معرفته أحد الأقطاب الأربعة، فلابد أيضا من معرفة الدليل ومعرفة المعرفة؛ أعني العلم ثم العلم المطلوب لا وصول إليه إلا بالنظر، فلابد من معرفة النظر، فشرعوا في بيان حد العلم والدليل والنظر ولم يقتصروا على تعريف صور هذه الأمور، ولكن انجر بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السوفسطائية وإقامة الدليل على النظر على منكري النظر وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة وذلك مجاوزة لحد هذا العلم وخلط له بالكلام وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة[6].”

وبين من هذا النص، نوع القضايا الكلامية التي اعتبرها أبو حامد مما وقع خلطه بالأصول، وبين أيضا هذا التوافق بينه وبين أبي الحسين البصري في تحديد نوع تلك المسائل التي ينبغي اطراحها من العلم.

ولعل مجموع ما في النصين من هموم معرفية في صياغة قضايا علم الأصول، ما قرره الإمام الشاطبي من أن الإضافة بحسب الحاجة المعرفية والمنهجية دون إبطال المبدأ[7].

2. المعارضة من جهة الوقوع

 وذلك ما نعتبره ينقض أصول المانعين، حيث إن أولئك الأعلام الذين ورد عنهم الدعوة إلى إخلاء الأصول من دقيق الكلام، هم أنفسهم أدرجوا قضايا كلامية ضمن مكونات الأصول؛ حيث اعتبر الأصوليون أن من مبادئ العلم، الكلام. ولا يرد عليه أن ذلك كان منهم شغفا به، وميلا نفسيا إليه؛ لأن ذلك التعليل غير سديد لإمكان أن يجري عليه اصطلاح الأصوليين بقضية عين، فيكون الحكم مخصوصا بها، ولا تعم إلا بدليل زائد، وهو غير موجود.

ولأن منهج المانعين يشوبه خلل في منهج الإثبات والنفي، حيث اعتمدوا منهج العثور دون منهج الاستقراء لتفسير الظاهرة تفسيرا علميا.

وصورته تعليل تعدد مسالك الأصوليين في اعتبار الكلام، وتوظيفه في بناء قضايا الفكر الأصولي؛ إذ بالرجوع إلى تاريخ المفاهيم الأصولية الكلامية، نجد أنها غالبا ما تذكر في بداية التصنيف الأصولي تحت مسمى مبادئ كلامية[8]. والسبب في هذا التصنيف هو أنه حين شق على بعض المتقدمين استيعاب وجه الحاجة إليها من الناحية المنهجية أدرجوها في مقدمة التآليف الأصولية، ورتبوها تحت مقدمات كلامية، أو مبادئ كلامية.

 وحين كبر على المتأخرين إدراك سر الاعتبار ابتداء، فضلا عن التصنيف القائم على محل الحاجة، دعوا إلى حذفها من العلم؛ بسبب خلل في الفهم عن المتقدمين.

وهو ما يفضي بنا إلى اعتبار الأصل، والنظر في نوعية المحتاج إليه، وتعليل وجه الحاجة ومحلها، وضابطه في تصورنا معيار التصنيف والتوظيف.

نحو بناء المرجعية التشريعية

 لقد أدرك محققو الأصوليين وجه الحاجة “إلى علم الكلام لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري سبحانه وصدق المبلغ[9].” وقد نص على وجه تلك الحاجة الإمام الغزالي، “وكذلك الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق، ثم ينظر في وجوده دلالته، وشروط صحته[10].”

ومن هذا المنطلق اتجه الشاطبي إلى بناء أصول الاستدلال وتحديد مدارك الأحكام قائلا: “الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع وهذا مبين في علم الكلام[11]” ومقصوده ما تم تداوله عند الأصوليين من قبله في مفهوم الحكم أو ما أدرجوه في مفهوم الحاكم[12]، من مسائل القبح والحسن هل هما عقليان أم شرعيان، وشكر المنعم هل يثبت بالعقل أم بالشرع، والأصل في الأشياء المستمد من حكم الأشياء قبل ورود الشرع.

وحين استوعب الإمام الشاطبي الوظيفة المنهجية لتلك القضايا، غاير في محال إيرادها بما يخدم مقاصد الفكر الأصولي في بناء العقل المسلم عموما، وعقل الفقيه على وجه الخصوص. فقد أورد مسألة شكر المنعم في بناء قضايا قصد الامتثال قال: “المسألة العشرون لما كانت الدنيا مخلوقة ليظهر فيها أثر القبضتين ومبنية على بذل النعم للعباد لينالوها ويتمتعوا بها وليشكروا الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى حسبما بين لنا الكتاب والسنة اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا، وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما[13].”

وإن طرد القول باطراح قضايا الكلام، فيه هدم لنظرية المقاصد بكاملها منطلقات ومنهجا، أما المنطلق فهو ما نص عليه الشاطبي في بداية كتاب المقاصد، ذلك قوله: “ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع، وهي أن وضع الشرائع، إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا. وهذه دعوى لابد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام[14].”

وأما منهجا، فلأن تحديد طرق إدراك المصالح والمفاسد في الأصل هل يتم بالشرع أم بالعقل والتجارب والعادات، “وذلك أن المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية[15]” و في هذا السياق، استدل بقضايا القبح والحسن، بل ورتب على هذا الأصل مراجعات لكثير من القواعد التي لها تعلق بهذا الإشكال العلمي.

وبهذا النظر نؤسس للرؤية المعرفية التي تحكم القول في التجديد الأصولي بإخلائه من الكلام، وتبيح لنا القول إنها دعوة لم تستوعب الوظيفة المنهجية للفكر الكلامي في الفكر الأصولي، وقد شدد الغزالي على ذلك بقوله: فإذاً، الكلام هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة؛ إذ منه النـزول إلى هذه الجزئيات[16].”

وبالتدقيق في مقاصد الإشكال ومعاقده يظهر أن مناط الأمر هو بناء المرجعية التشريعية سواء تعلق بالحكم أو بالمقاصد الشرعية، ومدارها على مفهوم الحاكم، وضبط مفهوم الحكم ومستنده، وهو ما يتيح لنا معالجة إشكالات العصر بخصوص ما يدعى بالمرجعية الكونية للحقوق والقوانين الدولية وكونية القيم.

المحور الثاني: نحو بناء المنهجية التشريعية: من الاقتراض إلى الإنتاج

غاية الفكر الأصولي في هذا المقام إقامة مسالك المنهجية التشريعية بتعدد مواردها، وتغاير محال اعتبارها، وقد توسل علم الأصول بمعارف وعلوم لبناء أنساق هذا النظر لييسر عملية فقه الدين بكل مستوياتها.

 وإذا كان الأصولي قد ولى وجهه شطر تلك العلوم، فهو لم يكتف بالنقل عنها إخلادا منه إلى الأرض وزعما أن الاجتهاد فيها ولا معها، ليس بفرض، ولذلك تجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الصياغة النظرية للقواعد الحاكمة، وذلك ببيان محال إعمالها وقيود الإعمال، كما انتقل اجتهادا منه إلى إبداع نظرات في تلك العلوم تحت ضغط الواقع ومسيس الحاجة غير باغ ولا عاد.

وجامع ما وقع إنتاجه، بحسب المقام، نصوغه في مستويين:

أولا: توثيق الدليل ومراتبه

 إن عمل الأصولي الممهد لعمل الفقيه كان من شأنه أن يبرهن على صحة اعتماد الأدلة الجزئية بالمباحثة في شروط اعتبارها، وذلك من خلال قواعد اتصال السند، وسلامة المتن من القوادح، واستمرار العمل به لعدم الناسخ، وترجيح آحاد الأدلة على بعضها بمرجح يبطل العمل بالدليل المرجوح، أو بترجيح المعاني الكلية على الجزئية مطلقا، أو بترجيح على بعضها البعض بحسب اقتضاءات التشريع. وهو بصياغة تلك القواعد كان يرسم معالم طريق الاستثمار ببيان المثمر المعتبر، وبترتيبه عند معارضته لغيره.

ولئن بدا رجوع كثير من تقنيات البحث في هذا المستوى إلى قواعد علوم الحديث؛ فإن ذلك لا يعني أنه كان مقلدا، بل لربما كان مجتهدا ومبدعا، وذلك بعض ما يشعر به قول ابن الهمام حين أشار إلى أن سبب ذلك هو تواردهما على محل واحد[17]، وإن الناظر في رسالة الشافعي يدرك بيسر الجهد النظري الذي أسس به الشافعي لمعايير نقد السند والمتن[18].

وحين نص متأخروا الأصوليين على استمداد الأصول من علم الحديث فإن قصدهم اعتماد نتائج أبحاثهم في نقل الأخبار وممارسة الجرح والتعديل خصوصا مع تطاول الأعصار، وصعوبة التحقق من الرجال[19]، دون أصول النظر النقدي للروايات سندا ومتنا خصوصا عند تعارض النصوص.

ثانيا: بناء قواعد الفهم، ومقصد الإفهام

لقد كان منطلق الشاطبي في صياغته لمقصد الإفهام من “أن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية[20]“، ومن قبله نبه الشافعي على العمق المنهجي لهذا الاعتبار فقال: “وإنما بدأت بما وصفت من أن القران نـزل بلسان العرب دون غيره؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها[21].” واستيعابا منهم لهذا المبدأ أسس الأصوليون قصد الإفهام، وأقاموا قواعد الفهم. واعتبروا أن من شروط المجتهد بلوغ رتبة الاجتهاد في اللغة[22] وضابطه ما نص عليه الغزالي بقوله: “أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه. والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد، وأن يعرف جميع اللغة، ويتعمق في النحو؛ بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة، ويستولي به على مواقع الخطاب، ودرك حقائق المقاصد منه[23].”

وهذا النظر لا يشهد لطبيعة المادة اللغوية، ولا محال اعتبارها، ولا ينص على مقدار ما يذكر في كتب الأصول؛ ومن ثم اجتهد الأصوليون في سعيهم لترتيب المادة العلمية في تفصيل ذلك، وهذا الاجتهاد هو محل المراجعة اليوم، حيث يرى كثير من دعاة التجديد ضرورة حذف المبادئ اللغوية، ومعاني الحروف[24].

ولئن كان هذا النظر التجديدي يسعى لتخفيف ذلك الحضور؛ لأنه يثقل على الدارسين، وهو وإن بدا من حيث الظاهر مقبولا؛ غير أنه نظر لا يقدم رؤية منهجية لهذا الإلقاء أو الإبقاء[25]، ذلك أن نظرة الأصوليين لهذه القضايا اللغوية لم تكن على وزان واحد[26]، ولعلنا نجد في صنيع أبي حامد الغزالي ما نبرهن به على أمرين اثنين هما محل الخلاف. حيث إن معيار الإبقاء أو الإلقاء محكوم في نظرنا بالمردودية العلمية لهذه القضايا، وفي محل ذكرها ومكان تصنيفها. ولذلك نقرر أن الأساس المعرفي لكل قواعد الدلالة مآخذها من نظرية الوضع والاستعمال، وهما أبرز قضايا المقدمات اللغوية.

وحاصل القول: إن علم الأصول كان يبتغي من تلك العلوم إقامة أسسه العلمية المعرفية والمنهجية؛ لصياغة قواعده في ضبط عملية فقه للدين، على مستوى بناء المرجعية والتأصيل للمنهجية التشريعية.

الهوامش


1. أما الذي نصه المتقدمون هو علم الكلام، وعلم الحديث، وعلم اللغة، ذلك قول الجويني: “فأصول الفقه مستمدة من الكلام، والعربية، والفقه” البرهان 1/84. وناقش ابن الهمام في التقرير والتحبير 1/179 وجه الاستمداد من علم الحديث. وأما ما أضافه المعاصرون، فهو علوم الاجتماع، ومجموع ما اقترحوه صاغته الباحثة د. غالية بوهدة تحت عنوان: التكامل المعرفي بين أصول الفقه والعلوم الإنسانية، ومنها علم النفس، والسيمنتك. انظر مقالها: “مجالات تجديد علم أصول الفقه” مجلة المسلم المعاصر العدد 118 ص39. وانظر كذلك ما أضافه أبو الفضل عبد السلام بن محمد بن عبد الكريم في كتابه: “التجديد والمجددون في أصول القفه” حيث اعتبر أن الأصوليين استمدوا من علوم القرآن والتفسير ص 377. وانظر كذلك د. نعمان جغيم المسلم المعاصر ع 125/126 ص195.

2. واختلفت مسالك المنتقدين بين المفصل والمجمل، ولعل المجمل يشير فقط إلى ما أثر عن بعض الأصوليين الأقدمين إلى تأثر الأصول بالكلام وضرورة تخليته منها د. نعمان جغيم المسلم العدد 125/126 ص187 ومن الفصلين التجديد والمجددون، قال معددا مساوئ المنهج الكلامي… 9. وضع مقدمات ومبادىء كلامية ومنطقية لا يعرف لها تأثير في تكوين الملكة الاستنباطية أو حتى التمهيد لها، بل هي مدركات عقلية صيغت بلغة هي في ذاتها تحتاج إلى غيرها ليمكن فهمها، فكان من آثارها أنها صدت كثيرا من الشادين عن هذا العلم نتيجة تصور أن هذه المقدمات من مسائله الأصلية.. ذلك أن طالب علم الأصول ليس بالضرورة راغبا في علم الكلام.. فليس من مصلحة علم الأصول بل ولا علم الكلام أن ينصرف طلاب الأصول عن دراستها، بمثل هذه المباحث نتيجة ما يجدونه من عناء وعنت في غير طائل وبغير هدف….

10. عقد مباحث كلامية صرفة لا حاجة بالأصول إليها عند التحقيق؛ لأن محلها هو كتب الكلام لا الأصول… وهذه البحوث الكلامية التي يثيرونها ” لا يترتب عليها عمل ولا تأصيل لناحية فقهية… ولا تسن طريقا للاستنباط”ص521-522.

3. وذلك أن علماء الأصول ما لبثوا ينبهون على سر الارتباط بين العلمين، قال ابن همام: “فَالتَّوَقُّفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ الأَدِلَّةِ. فَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ مِنْ جِهَةِ دَلاَلَةِ الأَلْفَاظِ عَلَى الأَحْكَامِ, فَهُوَ الْعَرَبِيَّةُ بِأَنْوَاعِهَا” الكوكب الكبير 1/19، وأوضح من ذلك قول الجويني بعد تعداد الأدلة السمعية “ومستند جميعها قول الله تعالى، ومن هذه الجهة تستمد أصول القفه من الكلام” البرهان1/85.

4. المعتمد، ص1/7.

5. المصدر نفسه.

6. المستصفى، ص10.

7. ذلك قوله: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له ومحققا للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه 1/42.

8. انظر، مثلا، إرشاد الفحول، باعتباره خلاصة جامعة لتاريخ الفكر الأصولي، مع ترجيحات الإمام الشوكاني. في اعتبار قضايا الكلام وفي تصنيفه لها قال: “اعلم أنا قد قدمنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكماً أولاً… وهاهنا مسألتان”، وهو منهج له ما يسوغه في تصوره، وهو ما نعتبره مدخلا لإقرار المبدأ والاجتهاد في التصنيف بحسب ما ترجحه الرؤية المعرفية وتشهد له الدلائل المنهجية. وكل ذلك تنظير يقوم على امتلاك رؤية منهجية في العلم، وهو ما نلحظه تفتقر إليه كثير من الدراسات التي تزعم اقتحامها حمى التجديد الأصولي.

9. إرشاد الفحول 1/7.

10. المستصفى، ص8.

11. الموافقات 1/35 يلزم أن ندرك أن إرجاع تلك المفاهيم إلى علم الكلام هو بحسب النشأة لقوله: “ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع لكان محسنا ومقبحا هذا خلف”1 /88.

12. قارن بين عملي الغزالي والشوكاني، مثلا.

13. الموافقات، 2/321.

14. المصدر نفسه، 2/6.

15. المصدر نفسه، 2/37.

16. المستصفى، ص7.

17. (وَمَا يُخَالُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ)؛ أَيْ وَمَا يُظَنُّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالٍ رَاجِعَةٍ إلَى مَتْنِ الْحَدِيثِ أَوْ طَرِيقِهِ كَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ لِعَمَلِ الصَّحَابِيِّ لَا لِرِوَايَتِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَعَدَالَةُ الرَّاوِي وَجَرْحُهُ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ كَمَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ فَيُظَنُّ أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ حَتَّى يَكُونَ الْأُصُولِيُّ فِيهِ عِيَالًا عَلَى الْمُحَدِّثِ، لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لَيْسَ اسْتِمْدَادًا)؛ أي لَيْسَ الْبَحْثُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي هَذَا الْعِلْمِ اسْتِمْدَادًا لَهُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ، (بَلْ) السَّبَبُ فِي تَوَارُدِ بَحْثِهِمَا عَنْهَا (تَدَاخُلُ مَوْضُوعَيْ عِلْمَيْنِ يُوجِبُ مِثْلَهُ)، فَقَدْ عَرَفْت جَوَازَ تَدَاخُلِهِمَا بِاعْتِبَارِ عُمُومِ مَوْضُوعِ أَحَدِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وَخُصُوصِ مَوْضُوعِ الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوجِبُ الْتِقَاءَهُمَا بَحْثًا فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عِيَالًا عَلَى الْآخَرِ فِي ذَلِكَ التقرير والتحبير1/179.

18. انظر في ذلك، مثلا، باب العلل في الأحاديث 210، وباب شروط حجية خبر الواحد من حيث العدالة والضبط والاتصال والانقطاع والإرسال، ص 370 وص410–471.

19. وقد نبه على ذلك الغزالي بقوله: “الثاني وهو يخص السنة معرفة الرواية وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود، فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه، والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الأمة فلا حاجة به إلى النظر في إسناده وإن خالفه بعض العلماء، فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، مثلا، اعتمد عليه، فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم. والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة أو بتواتر الخبر، فما نـزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم؛ ثم ينظر في سيرهم أأنها تقتضي العدالة أم لا؟ وذلك طويل وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير، والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح، فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح، فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة والمشاهدة في حقه ولو شرط أن تتواتر سيرته، فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر، فنقلده في تعديله بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل، فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها، قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الأمر وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط، ولا يزال الأمر يزداد شدة بتعاقب الأعصار” المستصفى، ص345.

20. الموافقات، 2/64.

21. الرسالة، ص51.

22. الموافقات للشاطبي في قوله: “والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده ولا التصريف وحده ولا اللغة ولا علم المعاني ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني، كيف تصورت ما عدا الغريب والتصريف المسمى بالفعل، وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية فإن هذا غير مفتقر إليه هنا وإن كان العلم به كمالا في العلم بالعربية.

23. المستصفى، ص345.

24. انظر القائمة من المواد اللغوية والنحوية والبلاغية المحضة التي اقترح حذفها من الأصول في كتاب التجديد والمجددون، ص383.

25. حيث اعتبر أبو الفضل ابن عبد الكريم، أن حاجة الأصولي إلى اللغة على نوعين: الأول: ما يفضي إلى إدراك مقامات الدلالة بالمعنى المشهور عند الأصوليين من المنطوق والمفهوم وما في دائرتهما، والثاني: مباحث اللغات الواردة في المباحث اللغوية، حيث اعتبرها تفيد غير الأصولي كالمفسر والمتكلم والفقيه وعالم القراءات، وأن فائدتها للأصولي قد تكون بصفة غير مباشرة 368، والواقع أن هذا ينم على عدم إدراك الخلفية المعرفية للقواعد الدلالية الأصولية، ذلك أن صياغة مفاهيم المجمل والمبين والظاهر والنص إنما يتحصل من دراسة تلك المقدمات اللغوية. وهي صياغة نظرية لمراتب الخطاب الشرعي وفق معياري الوضع والاستعمال اللغوي والشرعي، تمام مثل مصطلحات العام والخاص والمفهوم الموافق والمخالف القائم على كثير من معاني الحروف.

26. انظر الفرق بين تصور أبي حامد الغزالي وبين سائر الأصوليين.

Science

د. حميد الوافي

 أستاذ التعليم العالي، كلية الآداب/مكناس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق