د/مولاي ادريس غازي
باحث بمركز دراس بن اسماعيل
ج- أن ما جرى به العمل من ترجيح القصد على اللفظ في التحبيس يتخرج على القول المشهور في باب الأيمان، وهو اعتبار المقصد العرفي فيها دون المقتضى اللغوي، حيث ذكر الحطاب أن ما جرى في مسألة الأيمان من الخلاف وما تعلق بها من ترجيح هو جار أيضا ومتعلق بمسألة الحبس، وقد نص على ذلك بقوله: "والخلاف الجاري هناك يجري هنا والراجح من الأقوال في الأيمان هو الراجح هنا، وقد علم أن المشهور في المذهب من الأيمان تقديم العرف"[1].
قال السجلماسي بعد سوقه كلام الحطاب: "ومقابل المشهور في الأيمان لأهل العراق، فإنهم يعتبرون اللفظ دون المعنى والبساط. قال ابن رشد: وهو خطأ في الفتوى لأن الأحكام منوطة بمعاني الألفاظ دون ظواهرها، لأنه يقود إلى الكفر وإلى اللعب في الدين ومنه قوله تعالى:﴿فاعبدوا ما شئتم من دونه﴾[2]، فظاهره أمر ومعناه النهي والوعيد"[3].
د- إذا كان العمل بقصد المحبس دون لفظه عاما في سائر الصور، أي سواء المنطوقة أو المسكوت عنها كما هو مقرر عند المهدي الوزاني، فإن الكشف عن مقاصد المحبس يتحقق بالطرق والوسائل المقررة في استنباط الأحكام وبيان مقاصد الخطاب، كالعرف والمصلحة وغيرهما من الوسائل المفيدة في الكشف عن قصد المحبس، وبيان إرادته خاصة عند انبهام دلالة لفظه أو سكوت النص.
أما العرف، فقد نص العقباني على اعتباره في بيان القصد، إذ يقوم مقام اللفظ في الدلالة عليه فقال: "وإن لم يوجد للحبس مرسوم ببنان، فالعادة المطردة تقوم مقام الإفصاح باللسان، وتغني عما أغفل رسمه بالبنان"[4].
ومن أمثلة حمل نص التحبيس على المعنى العرفي، ما أورده الونشريسي في المعيار نقلا عن جواب لبعض العلماء عن سؤال متعلق بالحبس المبهم، وفيه أن نص التحبيس إذا عري عما يرشد إلى المقصود منه كالقرائن اللفظية والحالية، "نظر إلى المقصد العرفي فعليه يحمل، فإن وقع خلاف في الحمل فهو لاختلاف في حال العرف، كاختلاف بعض المتأخرين فيمن حبس حبسا مطلقا ولم يذكر له مصرف، فقال بعضهم يكون على المساجد إذا وقع في القرى إذ هو غالب تحبيس الناس في القرى، وأفتى أبو عمر ابن القطان فيما جهل سبيله من الأحباس أن يوضع في بناء السور، وقال ابن الحاج إنما يوضع في الفقراء والمساكين"[5].
وأما المصلحة فمجال الاجتهاد فيها فسيح، بل هي الأصل الذي ينبغي أن تحمل عليه تصرفات الواقف سواء عين وجوه المصلحة تصريحا أو التزاما أو لم يعين ذلك البتة، وبهذا الاعتبار ومن هذا الملحظ يرى الوزاني جواز الإحداث والتغيير في الحبس على الوجه الذي يوافق غرض المحبس وقصده، بل يرى جوازه للواقف نفسه في حياته إذا كان محققا للمصلحة المقصودة لديه. يقول الوزاني مبينا هذا المعنى: "فإذا كان يجوز إحداث ما يوافق غرض المحبس بعد وفاته، فلم لا يجوز له أن يفعل ما يوافق غرضه في حياته"[6].
[1] - انظر شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/4.
[2] - سورة الزمر، الآية 15.
[3] - شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/4-5.
[4] - انظر النوازل الكبرى للوزاني 8/466.
[5] - انظر المعيار 7/290-291، والنوازل الكبرى 8/331.
[6] - تحفة أكياس الناس، ص 383.