مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

صنعة التعليم و حلية المعلم

قال الله تعالى: “وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ” [النحل:78] في هذه الآية تذكير بأصل الجهالة التي خرج بها الإنسان إلى الوجود، كما فيها امتنان على البشـرية بما أودع الله فيهم من وسائل تحصيل العلوم وامتلاك المعارف.
فالمرء عندما يخرج للدنيا يفد إليها جاهلا، لكن عنده من المؤهلات الوهبية ما يمكِّنه من تحصيل المعرفة، إن وظفها التوظيف الرشيد، وصادف من يساعده في توجيهها وتنميتها، و الذي لا يتشوف إلى هذا الكمال يبقى على أصل خروجه للدنيا؛ على الهيئة التي خرج بها من رحم أمه، ولذلك ينسب إليها فيقال: أمي؛ نسبة لأمه، أي بقي كما ولدته أمه، لم يطور نفسه، لم يتلق التعليم الذي يرقيه مدارج الكمال، بدءا بتحصيل وسائل المعرفة الأولى، ثم انفتاحا على المحيط من حوله اكتشافا لأسراره، و غورا بفكره للإحاطة بخباياه، ثم تخصصا في مسلك من مسالك المعرفة تبعا لميوله و مؤهله، وبالتدرج في هذا السلم المعرفي يفهم كثيرا من الحقائق، ويتوصل إلى كثير من النتائج المسعفة في فهم الذات، واستجلاء المسلك السواء في مسيرة الحياة، ثم إن وفق للاسترشاد بنور الوحي، و جعل له الحاكمية في الفصل في طوارئ الملمات، أدرك غاية امتلاك المعرفة، واكتسب العلم النافع الذي ينتفع به في دنياه، ويغنم به يوم لقاء مولاه، فيكون بذلك صالحا في نفسه مسهما في إصلاح مجتمعه وبيئته ومحيطه، قال تعالى: “فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ” [طه:123] تلكم بعجالة مسيرة التكوين والغاية المنشودة منه، لكن الملاحظ أن كثيرا من الناس يخفقون في تحقيق هذا المقصد الأسمى ولمَّا يمتلكوا أدوات التحصيل الأولى، فينقطعون عن مواصلة الدرس في مستوياته الأولى، و ذلك مرتب عن عوامل كثيرة، يأتي في مقدمتها فقدان المؤهلات الضـرورية والشروط الأساسية في المربي المباشر لعملية التعليم، والتي عبر عنها في صدر الكلام بوجود من يساعد المتعلم ويحنو عليه.
وهذا شرط أساس في المشرف على العملية التعليمية التعلمية، فتحبيب مسيرة العلم الطويلة منوط بكيفية تعامل القائم والمباشر للتعليم، وذلك مذ مراحل التعلم الأولى إلى آخر مستويات التحصيل؛ رفقا بالمتعثر منهم، وحلما على بعيد الفهم فيهم، وصبرا وتحملا على ما يجده منهم، وتحبييا لمسيرة الطلب في نفوسهم، ورسما لأفق جميل ومستقبل زاهر أمامهم.. وذلك بتقريب المادة العلمىة، ونهج الأسلوب المشوق، وشحذ الهمم بحكي قصص النوابغ، و الوقوف على صبرهم، على معاناة الطلب والتحصيل، وما يتوج به الجلد والصبر من تحقق المأمول..
وإنه بإهمال هذه الأساليب تتسع الفجوة، وتحصل الجفوة، يكبو الطالب الكبوة تلو الكبوة، فكم من انقطع عن التعليم بسبب سلوك المعلم، وكم من نفر عن التحصيل بجفاء وغلظة المربي، وكم من هدر مدرسي حصل بسبب إهمال الرفق واللين في والتعليم، واطراح التشجيع والتحفيز.
فما أفلحت أمة في مناهج تعليمها إلا بإيلاء هذا الجانب عظيم الرعاية، وأضفت عليه كبير العناية، إضافة إلى مستتبعات أخرى مسهمة في النهوض بهذا الجانب المحوري لإعداد جيل الاستخلاف.
ونحن نسمع الآن كيف أن مناهج التعليم الغربية يختارون لهذه الخطط الأنسب، ويضعون لهم مساطر التعليم ومناهجه المبنية على مراعاة الظروف الملائمة لتحصيل المتمدرس، وإلزام المدرسين و المربين بحضور دورات تكوينية للإفادة من المناهج والأساليب الحديثة، كل ذلك لإعداد الإنسان السوي المتزن الذي يعتمد عليه مستقبلا إذا ما أسندت له المسؤوليات والمهمات.
وإذا ما يممنا وجهنا نحو شرعتنا نتلمس هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليم، نلفي أن ملتنا قد سبقت المناهج الحديثة بمفاوز في وقت لو تعرف فيه البشرية الطرق البيداغوجية، ولا الأساليب الديداكتيكية، وفي سنة نبينا صلاى الهع عليه وسلم نماذج حافلة من التعامل الراقي، رعيا للمؤهلات، وعفوا عن الزلات، والتدرج بالمتعلم لبلوغ الكمالات، وهي أكثر من أن تحصـى، شعاره في مجموعها التحبيب والتأليف والتقريب…
منها قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وكيف عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف، فما كان إلا أن جادت نفس الأعرابي انسيابا لاهجة برفق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “بأمي هو وأمي فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب..” وكذا تعامله صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا، وكيف أخذه بحلمه ورفقه، مبينا له فحشه ووخيم مسلكه، وكيف علم الرجل الذي تكلم في الصلاة، فأبان له برفق ولين حرمة الصلاة، وأنه لا يحسن فيها شيء من كلام الناس، وكل هذه الحوادث حوادث كبيرة، و منها فعال هي في عرف الشرع شنيعة، لكنه احتواها صلى الله عليه وسلم بحكمته، فآتت أكلها، وحققت معالجته غايتها، وكسب معها ود من وجه له النصح فيها، وحديث أنس الصريح في منهج رسول الهش في العشرة يلخص هدي رسول الله في التعامل، روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لي لشـيء لم أفعله ألا كنت فعلته، ولا لشـيء فعلته لم فعلته .”
وفي ذلكم تأسيس وتأصيل لما ينبغي أن يكون عليه من يتولى مسؤولية تكوين الأجيال، وما ينبغي أن يتحلى به من جميل العوائد والفعال.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق