مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

شيخ الجبل القطب المبجل سيدي عبد السلام بن مشيش 622/559هـ

   تعددت ألقابه، لجلالة قدره، وعلو همته، فلقب بشيخ مشايخ الصوفية، وبإمام أئمة الطريقة الصوفية الشاذلية، وبالقطب الشهيد، والكنز المطمور، والغوث الأشهر وغيرها، هو من العلماء العارفين، والزهاد الورعين، وكبار المتصوفة المتحققين.

   إنه أبو محمد سيدي عبد السلام بن مشيش- وقيل ابن بشيش- ابن أبي بكر بن علي ابن حرمة بن عيسى بن سلام بن مزوار بن علي بن محمد بن مولانا إدريس دفين فاس، ابن مولانا إدريس دفين زرهون، وفاتح المغرب، ابن مولانا عبد الله الكامل بن مولانا الحسن المثنى بن مولانا الحسن السبط بن سيدنا علي ومولاتنا وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيد العالمين، عليهم من ربهم جميعا الصلاة والسلام،[1] ولد سنة (559ھ/1198م) بالحصين،[2] إذ ينحدر من قبيلة بني عروس، كان معروفا بذله لله تعالى، وبتواضعه بين الخلق، كان إقباله على الله وإدباره عن الخلق سمة من سماته، عاش في بيئة سليمة، وترعرع بين أحضان أسرة كريمة من آل البيت التزمت بدين الله وشرعه.

  وقد ظهرت عليه بوادر الصلاح والتقوى منذ صباه، قال عنه أحد مؤرخيه: “هو الذي أنواره منذ كان في المهد صبيا، ثم طوى في السياحة في صباه الأرض طيا…، حفظ القرآن بالروايات السبع وهو ابن الثانية عشرة، وقضى في سياحته أكثر من خمسة عشرة سنة، درس وتعلم على يد كبار العلماء والشيوخ، من بينهم: الولي الصالح سيدي سليم شيخه في القرآن، والفقيه العلامة سيدي أحمد الملقب بأقطران، شيخه في الدراسة العلمية، ثم شيخه في التربية والسلوك العارف بالله سيدي عبد الرحمن بن الحسن الشريف العطار المدني، الشهير بالزيات، الذي أخذ عنه الطريقة، وشرب من يده عوالم الحقيقة”.[3]

  كان مولاي عبد السلام بن مشيش عالما فاضلا، ومتصوفا عارفا، وعابدا من الصادقين، فكان يصعد إلى الجبل، قصد التعبد والخلوة، ورغم زهده، وطول سياحته، لم يغفل الجانب الأسري ولا العلمي من حياته، فأعطى لكل ذي حق حقه، دون الخروج عن جادة الشريعة.

  قُسّمت حياته إلى ثلاث مراحل حسب بعض المؤرخين: سخر المرحلة الأولى منها للحياة العلمية، فنهل من علوم النقل وعلوم القوم ما نهل، وفي المرحلة الثانية جعل اشتغاله بتربية أولاده الأربعة تربية صوفية، دون أن يغفل جانب الجهاد منه، فكان راعيا، وخادما لأهله، مستعدا ومتحمسا للشهادة من أجل دينه ووطنه.

  وأما في المرحلة الثالثة فقد كانت مسك الختام، حيث فناها في الخلوة والعبادة والزهد،[4] حتى اشتهر بذلك، فكان رضي الله عنه، “في العلم في الغاية، وفي الزهد في النهاية، جمع الله له الشرفين الطيني والديني، وأحرز الفضل المحقق اليقيني، حيث كان متمسكا بالكتاب والسنة، عاملا بهما، ملتزما لهما”،[5]فهذين العاملين بالنسبة لمولاي عبد السلام بن مشيش، كانا هما الموصلين لمقام الصديقين، في عبادة المؤمنين لربهم، حيث فصل ذلك في قوله “عبادة الصديقين عشرون: كلوا، واشربوا، والبسوا، وانكحوا، واسكنوا، وضعوا كل شيء حيث أمركم الله، ولا تسرفوا، واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، واشكروه فإنها نصف العقل، والنصف الثاني: أداء الفريضة، اجتناب المحارم…والتفقه في دين الله… وكل ورع لا يصحبه العلم والنور فلا تعد له أجرا”.[6]

   لقد عمت شهرة مولاي عبد السلام بن مشيش المشرق والمغرب، في حياته كما في مماته، حتى أن ضريحه كان ولا يزال من أعظم مزارات المغرب المشهورة عبر العصور والأجيال، “فلم تزل الوفود تأتي إليه من سائر الآفاق، من عارفين وصوفية وعلماء وفقهاء، وعامة الناس”،[7] لزيارته و التبرك به، والبعض لإحياء ذكراه، حيث أصبح مقامه في المغرب كمقام الشافعي بمصر، كيف لا، “وهو أستاذ الأقطاب الثلاثة: سيدي إبراهيم الدسوقي، وسيدي أحمد البدوي، وسيدي أبي الحسن الشاذلي”،[8] هذا الأخير الذي لم يكن سيدي عبد السلام بن مشيش أستاذا له في التربية والسلوك والعلوم فقط، بل أيضا في التوجيه، ورسم معالم الطريق، والصمود على مواصلة السير فيه.

   فهو الذي قال عنه العلامة الشيخ إدريس الفضيلي: “…هو البدر الواضح…، المشتهر في الدنيا قدره، الطالع في فلك المعاني بدره، وقال عنه الشيخ ابن عجيبة: …وأما علو قدره، وجلالة منصبه، فذلك أمر شهير، وقد تغلغل في علوم القوم التي مدارها التخلق بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام”.[9]

   ولقد خلف مولاي عبد السلام بن مشيش، من أسرار المعاني والمعارف الربانية، التي فتح الله بها عليه، ما أبقاه قطبا منفردا في زمانه، وشيخا جليلا في حبه وفنائه، ذو كرامات عجيبة، ووصايا جليلة، فمن أكبر تلك الكرامات المعنوية: تلميذه الشيخ أبو الحسن الشاذلي، الذي بصحبته ووصاياه له، أصبح من بعده مؤسس، وشيخ الطريقة الشاذلية، المنتشرة في العالم الإسلامي، والتي اتبعها العديد من المريدين، منذ ذاك العهد إلى يومنا هذا.

   ومن كراماته التي رواها عنه تلميذه، قوله: “كنت يوما بين يدي الأستاذ، فقلت في نفسي: ليت شعري هل يعلم الشيخ اسم الله الأعظم؟ فقال ولد الشيخ وهو في آخر المكان الذي أنا فيه: يا أبا الحسن، ليس الشأن من يعلم الاسم، الشأن من يكون هو عين الاسم. فقال الشيخ، من صدر المكان أصاب وتفرس فيك ولدي”.[10]، ومنها أن زُفّت ولادته لسيدي عبد القادر الجيلاني، رضي الله عنه، عبر بهاتف رباني، جاء فيه: “ارفع رجلك عن أهل المغرب، فإن قطب المغرب قد ولد في هذا اليوم -أي سيدي عبد السلام ابن مشيش- وكان إذا هلّ هلال رمضان، يمتنع عن ثدي أمه، فإذا أذن المغرب قاربه، وارتضع منه”.[11]، “وكان صاحب جذب لا يصل إليه مريد صادق ويتجرد من علمه وعمله، إلا رقاه ووصله إلى ربه”.[12]

   لقد ترك سيدي عبد السلام بن مشيش  لتلميذه ووارث سره، إرثا ثمينا تجلى في وصايا نفيسة، شأنها شأن وصايا لقمان لابنه، حيث شكلت مهد الطريقة الشاذلية، وشعلتها الأولى، يقول على لسان تلميذه: “يا علي، الله الله، والناس الناس..، عليك بحفظ الجوارح، وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عندك”.[13]

   وقال له أيضا: “لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن غالبا من معصية الله، ولا تصحب إلا من تستعين به على طاعة الله، ولا تصطفي لنفسك إلا من تزداد به يقينا وقليل ما هم”.[14]

   وقال: “أفضل الأعمال أربعة، بعد أربعة، المحبة لله، والرضا بقضاء الله، والزهد في الدنيا، والتوكل على الله، هذه أربعة، وأما الأربعة الأخرى، فالقيام بفرائض الله، والاجتناب لمحارم الله، والصبر عما لا يعني، والورع من كل شيء يلهي…،”[15] وعن الطهارة الروحية قال لأبي الحسن: “إلزم الطهارة من الشكوك، كلما أحدثت تطهرت، من دنس الدنيا وكلما ملت إلى شهوة أصلحت بالتوبة ما أفسدت بالهوى أوكدت،…”،[16] وقال لأحد الرجال ناصحا: ” …الفرائض مشهورة، والمعاصي معلومة، فكن للفرائض حافظا، وللمعاصي رافضا، واحفظ قلبك من حب الدنيا، وحب النساء، وحب الجاه، وإيثار الشهوات، واقنع بذلك بما قسم الله لك، إذا خرج لك مخرج الرضا فكن لله فيه شاكرا، وإذا خرج مخرج السخط فكن عنه صابرا”.[17]

   وعن الصحبة قال: “…واصحب من إذا ذكر، ذكر الله، فإنه يغني به إذا شُهد، وينوب عنه إذا فُقد، ذِكرُه نور القلوب، ومشاهدته مفتاح الغيوب”.[18]

   ولعل من بين أعظم آثار سيدي عبد السلام بن مشيش الدينية، رضي الله عنه، صلاته المعروفة بالصلاة المشيشية، فهي جوهرة طريقه الفريدة، وأكبر بصمة تركها خالدة بعد مماته، وهي عبارة عن “نص فريد من بين التصليات التي سجلها أدب التصوف منذ أواخر القرن السادس الهجري حتى الآن…، في عباراته المنتقاة، ومعانيه الراقية، تنساب فيه العبارات في رقة وعذوبة، محملة بدفق الإيمان وصفاء المحبة، التي ما إن تخالطها الروح وتستعذبها المسامع، حتى تحلق بصاحبها في أجواء من السمو، وملكوت الجمال…، لأنه صادر عن عالم عارف، وبليغ أريب…”.[19]

   حيث يستفتح نص صلاته قائلا: “اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم، فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم، فلم يدركه منا سابق ولا لاحق… “.[20]

   لقد اشتهرت الصلاة المشيشية بجمال معناها، وجلال مبناها، حيث عكف كثير من العلماء على شرحها وإيضاحها، ولعل أقدم من تناولها بالشرح” العلامة محمد بن أحمد بن داود التونسي المعروف بابن زغدان (ت881ھ) وتوالت شروحها على يد علماء أجلاء من المغرب والمشرق، أمثال العلامة العارف أبي محمد بن علي الخروبي الطرابلسي(ت963ھ)، والعلامة عبد الرحمن بن ملاحسن الكردي(ت1195م)”[21] وغيرهم كثير.

   مات مولاي عبد السلام بن مشيش شهيدا سنة (622ھ/1225م)،[22] وقيل سنة (625ھ) حيث قتله جماعة وجههم لقتله ابن أبي الطواجن،[23] بالجبل المسمى بالعلم، غرب جنوب مدينة تطوان وهو جبل مرتفع كان معبده ومكان خلوته، وقد دفن بالقرب منه، حيث ضريحه الآن، رحمه الله ونفعنا بسيرته ووصاياه وحكمه. 

   ظل مولاي عبد السلام بن مشيش في المرحلة الأخيرة من عمره، منزويا في الجبال، متواريا عن الأنظار، ككنز مخفي، أحب التفرد بعبادة ربه، والغوص في فضاء أنسه، فلم يخالط الناس إلا لنشر العلم وفضائله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن شاءت قدرة الله تعالى أن يُعرف ويشتهر هذا القطب الجليل في مماته أكثر مما كان عليه في حياته، ويصبح بذلك علما شامخا من أعلام التصوف بالمغرب، وتُتداول صلاته المشيشية في ربوع العالم الإسلامي، ويرجع الفضل في ذلك بعد الله سبحانه وتعالى، لتلميذه الشاذلي، الذي حمل رداء شيخه مولاي عبد السلام بن مشيش، فكان ظاهر وباطن ذلك الرداء الكتاب والسنة، اللذين سلكهما أبي الحسن الشاذلي في تصوفه.

الهوامش: 

[1]– المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله بن عبد القادر التليدي (950ھ)، دار الأمان للنشر والتوزيع، ودار البشائر الإسلامية، الرباط، ط 4/2003، ص ص:90-91.

[2]–  القطب الرباني مولاي عبد السلام بن مشيش، عبد الصمد العشاب، دار العلم للملايين لبنان، مطبعة المعارف، ص:11.

[3]– المطرب، ص ص:92-93.

[4]– القطب الرباني، ص ص:16-17.

[5]– قطب المغرب سيدي عبد السلام ابن مشيش، عبد الحليم محمود، دار الكتاب المصري، القاهرة – ودار الكتاب اللبناني، بيروت، د.ط، د.ت، ص:27.

[6]– القطب الشهيد، عبد السلام بن مشيش، عبد الحليم محمود، دار المعارف القاهرة، د.ط1997م، ص ص: 115-129.

[7]– المطرب، ص:104.

[8]– طبقات الشاذلية الكبرى، محمد بن القاسم الكوهن الفاسي المغربي (ت1247 ھ)، دار الكتب العلمية:لبنان ط2/2005، ص:60.

[9] – القطب الرباني، ص ص:14-25.

[10]– لطائف المنن، ابن عطاء الله الاسكندري، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 3/2005م، ص:61.

[11]– طبقات الشاذلية الكبرى، ص: 59.

[12]– سلوة الأنفاس، إدريس الكتاني، تحقيق: عبد الله الكامل وحمزة بن محمد الطيب ومحمد حمزة علي الكتاني، دار الثقافة ، ط1/2004، 1/6.

[13]–  قطب المغرب، ص:33

[14]– المطرب، ص: 99.

[15]– القطب الرباني، ص ص:24-25.

[16]– المطرب، ص:98.

[17] القطب الرباني، ص:25. [17]

[18]– شرح صلاة القطب بن مشيش، أحمد بن عجيبة، سلسلات نورانية فريدة، جمع وتقديم: العمراني الخالدي عبد السلام، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، د.ط، د.ت، ص:14.

[19]– القطب الرباني، ص:37.

[20]– الإلمام والأعلام، محمد زكري الفاسي (ت1144ھ)، تحقيق: هشام حيجر الحسني، دار الكتب العلمية، لبنان، ط:1/2010، ص ص:1/100-124.

[21]– القطب الرباني، ص ص:37-38.

[22]– الأعلام، خير الدين الزركلي، ط 17/2007، 9/4.

[23]– مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفاسي الفهري، (988-1056ھ)، دراسة وتحقيق: محمد حمزة بن علي الكتاني، دار ابن حزم لبنان، ط1/2008، ص:387.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق