مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

شعبان شهر ترفع فيه الأعمال

  بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

        يعد شهر شعبان كالمقدمة لشهر رمضان، حتى تستعد النفوس وتتهيأ وتعتاد العبادة والطاعة، ومن أجلِّ هذه العبادات : “الصيام”، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حرصا على صيامه، كيف لا؟ وهو الشهر الذي ترفع فيه أعمال العباد على الله تعالى مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: “ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”([1]) ، من أجل ذلك أحببت أن أنجز فيه مقالا، أتناول من خلاله النقاط الآتية:

1-معنى الرفع لغة واصطلاحا،

2-أدلة رفع أعمال العباد عامة، وفي شهر شعبان خاصة من السنة النبوية

ثم خاتمة المقال.

وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق والسداد:

1-معنى الرفع لغة واصطلاحا.

الرفع لغة:

من معاني الرفع لغة: “العلو  وهو ضد الوضع، يقال: رفعته فارتفع، فهو نقيض الخفض”([2]) والرفع: “تقريبك الشيء”([3]).

الرفع اصطلاحا:

يقال: “رفع الشيء، رفعا، ورفاعا: أعلاه، وفي التنزيل العزيز: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) ([4]) ورفع الشيء: حمله ونقله، يقال: رفع الزرع بعد الحصاد إلى الجرن، ويقال: ارفع هذا خذه واحمله”([5]).

2-أدلة رفع أعمال العباد إلى الله عامة، وفي شعبان خاصة من السنة النبوية

  • أدلة رفع أعمال العباد إلى الله تعالى عامة في السنة  النبوية

لقد دلت نصوص  من السنة النبوية على رفع أعمال العباد إلى الله تعالى، ولا شك أن هذا الرفع إنما يكون لأجل الحساب والجزاء، وقد وكل عليها ملائكة لكتابتها كما في قوله تعالى: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) ([6]). وقوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ([7]) ومن هذه النصوص أذكر منها:

الحديث رقم (1)

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: “يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا           نفسه” ([8]).  

فهذا الحديث حديث عظيم، تناوله العلماء بالشرح واستنباط الفوائد والأحكام منه، وممن أفرد له مؤلفاً شيخ الإسلام ابن تيمية  (ت 728هـ)- رحمه الله – فإنه شرح هذا الحديث في كتاب مستقل([9])، قال رحمه الله: “ياعبادي إنما هي أعمالكم … فبين أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانا يستحق به الحمد، لأنه هو المنعم بالأمر بها والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها، فكل ذلك فضل منه وإحسان، إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ..وكما بين أنه محسن في الحسنات، متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها، بين أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال: “ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”.. ” ([10]).

الحديث رقم (2)

حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: “إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفِض القسط ويَرْفَعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار، وعملُ النهار قبل الليل…”([11]).

قال النووي (ت 676هـ): ” الملائكة الحفظة يصعدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار ، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل والله أعلم” ([12]).

الحديث رقم (3)

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر ،ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون”([13]).

قال النووي (ت 676هـ): “يتعاقبون تأتي طائفة بعد طائفة ومنه تعقب الجيوش وهو أن يذهب إلى ثغر قوم ويجيء آخرون وأما اجتماعهم في الفجر والعصر فهو من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين وتكرمة لهم أن جعل اجتماع الملائكة عندهم ومفارقتهم لهم في أوقات عباداتهم واجتماعهم على طاعة ربهم فيكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من         الخير “([14]).

الحديث رقم (4)

حديث أبي هريرة كذلك رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين، يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبدًا بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا ، أو اركوا هذين حتى يفيئا ([15]).

وفي رواية له: “تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين ، فيغفر الله عز وجل  في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرءًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اركوا هذين حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا ” ([16]).

قال المبارك فوري (ت  1353هـ) : ” قال ابن الملك وهذا لا ينافي قوله عليه السلام يرفع عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل للفرق بين الرفع والعرض لأن الأعمال تجمع في الأسبوع وتعرض في هذين اليومين” ([17]).

ب-دليل رفع أعمال العباد في شهر شعبان من السنة النبوية:

   إن من مزايا شهر شعبان : أن أعمال العباد فيه ترفع إلى الله تعالى؛ بهذا أخبر  الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:   “ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”([18])

فبين صلى الله عليه وسلم وجه صيامه فيه دون غيره برفع الأعمال فيه؛ ولا شك أن هذا الرفع للأعمال رفع خاص كما قال المباركفوري (ت 1353هـ): “والمراد برفع الأعمال في حديث أسامة الرفع الخاص، لا الرفع العام الذي يكون صباحاً و مساءً، أو المراد الرفع الإجمالي لا التفصيلي”([19]).

ثم إن العلماء جمعوا بين هذا الرفع للأعمال من خلال الأحاديث المتقدمة وهذا            الحديث ؛ بأنه: رفع يومي وأسبوعي وسنوي؛ قال العلامة ابن القيم الجوزية (ت 751هـ): ” فإن عمل العام يرفع في شعبان ؛ كما أخبر به الصادق المصدوق:” أنه شهر ترفع فيه الأعمال قال: فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”، ويعرض عمل الأسبوع يوم الاثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، …وعمل اليوم يرفع في آخره قبل الليل ،وعمل الليل في آخره قبل النهار ، فهذا الرفع في اليوم والليلة أخص من الرفع في العام ، وإذا انقضى الأجل رفع عمل العمر كله وطويت الصحف ، وهذا عرض آخر “([20]).

 ومسك الختام فإنه ما من شك أن في تكرار الرفع اليومي لأعمال العباد ، ثم الأسبوعي، ثم السنوي في شهر شعبان إلى الله تعالى ،إنما هو فرصة  للمسلمين للاجتهاد في هذه الأوقات، و الإكثار من أعمال الخير والطاعات، ومراجعة النفس، والتوبة والإنابة إلى الله  تعالى، حتى إذا فات المسلم فعل ذلك  في اليوم، فله فرصة في الأسبوع، وإذا غفل عن ذلك فله فرصة في شهر شعبان، وهذا كله  رغبة منه سبحانه في محو الخطايا والذنوب والسيئات وملء الصحيفة بالحسنات رحمة بعباده مصداقا لقوله تعالى: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) ([21]) ، وقوله تعالى: (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم  ودود). ([22])،

ولله در القائل:         

مضى رجب وما أحسنت فيه *** وهذا شهر شعبان المبارك

فيا من ضيع الأوقات جهلا *** بحرمتها أفق، واحذر بوارك

فسوف تفارق اللذات قسرا *** ويخلي الموت كرها منك دارك

تدارك ما استطعت من الخطايا *** بتوبة مخلص واجعل مدارك

على طلب السلامة من جحيم *** فخير ذوي الجرائم من تدارك([23])

*************************

هوامش المقال:

([1]) أخرجه أحمد في مسنده (36 /85-86)، برقم: (21753).

([2]) لسان العرب (8/ 129) مادة: “رفع”.

([3]) مختار الصحاح (ص: 250) مادة: “رفع”.

([4]) سورة البقرة من الآية: (127).

([5]) المعجم الوسيط (ص: 360) مادة : “رفع”..

([6]) سورة الانفطار  الآيات: من (10-12).

([7]) سورة ق الآيتان: (17-18).

([8]) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في صحيحه (2 /1198-1199)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، برقم: (2577).

([9])  شرح رياض الصالحين (ص: 503).

([10])  شرح حديث أبي ذر: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي”(ص: 60).

([11]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /96)، كتاب: الإيمان، باب: في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه،برقم: (179).

([12])  شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 18).

([13])  متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه في عدة مواطن منها (1 /190-191) كتاب: مواقيت الصلاة، فضل صلاة العصر، برقم: (555)، ومسلم في صحيحه (1 /284) ، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر  والمحافظة عليهما برقم: (632).

([14])  شرح النووي على صحيح مسلم (3 /145).

([15]) أخرجه مسلم في صحيحه (2 /1194)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الشحناء والتهاجر برقم: (36) (2565).

([16]) أخرجه مسلم في صحيحه (2/ 1194)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الشحناء والتهاجر برقم: (36) (2565).

([17]) تحفة الأحوذي (3 /451).

([18]) تقدم تخريجه.

([19]) مرعاة المفاتيح (7/ 36).

([20]) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 75).

([21]) سورة البقرة من  الآية: (143).

([22]) سورة هود الآية: (90).

([23]) لطائف المعارف (ص: 259).

*******************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي. لمحمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري. أشرف على مراجعة أصوله وتصحيحه: عبد الوهاب عبد اللطيف.  دار الفكر بيروت (د.ت).

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ.

شرح حديث أبي ذر “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي” لتقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية. مطبعة المدني مصر. (د. ت) .

شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين. لمحمد صالح عثيمين.  دار الكتب العلمية بيروت 2002مـ

صحيح مسلم بشرح النووي . حققه وضبطه وفهرسه: عصام الصبابطي – حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة. (ج2). ط4/ 1422هـ- 2001مـ.، (ج3) ط1/ 1415هـ- 1994مـ.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج لمحمد بن محمد مرتضى الزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ..

طريق الهجرتين وباب السعادتين. لمحمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية. دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1995مـ

لسان العرب. لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور. دار صادر بيروت. (ج 8) (د.ت).

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. حققه: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير بيروت لبنان. ط5/ 1420هـ – 1999مـ

مختار الصحاح. لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي. عني بترتيبه: محمود خاطر. دار المعارف القاهرة 2019مـ

مرعاة المفاتيح. شرح مشكاة المصابيح. لأبي الحسن عبد الله بن محمد عبد السلام المباركفوري. الناشر: إدارة البحوث الإسلامية والدعوة والإفتاء بالجامعة السلفية الهند (د.ت).

مسند أحمد. لأحمد بن حنبل (ج 36). تحقيق: مجموعة من الباحثين..مؤسسة الرسالة بيروت لبنان ط1/ 1421هـ- 2001مـ

المعجم الوسيط. مجمع اللغة العربية مصر. مكتبة الشروق الدولية. ط4/ 1425هـ- 2004مـ

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق