شرح حديث: ابن عباس رضي الله عنهما: ” فإن كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع”.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أَوْدع في بعض الشهور والأزمان عَظيم البَركات، وأَجْرى فيها من جميل النَّفحات، والصلاة والسلام سيدنا محمد ذِي الجَبين الأَزْهر، والوجه الأَنْور، وعلى أهل بيته الكرام الشُّرفاء، و أصحابه أعلام الهُدى، وسَادات الوَرَى.
وبعد؛ فإن المولى سبحانه وتعالى أنعم علينا في شهر محرم بأيام مباركة، تُضاعف فيها الأجور، وتُبارك فيها الأعمال والحسنات، ومن ذلك أيام التاسع والعاشر منه، والذي يعرف بيوم عاشوراء، الذي له فضل عظيم، وحُرمة قديمة؛ فقد صامه من قبلنا أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ وكانت العرب تصومه أيضا في الجاهلية، وصامه النبي ﷺ حين مقدمه المدينة، وقد ورد في ذلك حديث صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء، وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى !! فقال رسول الله ﷺ: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع». قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله ﷺ»[1].
ولأهمية هذا الحديث الشريف؛ فقد أفردته بهذا المقال الذي سأتناول فيه: تخريج الحديث، والوقوف على شرح ألفاظه، وما يستفاد منه من حكم ومعاني ودلالات من خلال أقوال العلماء.
فأقول وبالله التوفيق:
أولا: تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب: الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء [2]، وأبو داود في سننه في كتاب: الصوم، باب: ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع[3]، والطبراني في المعجم الكبير[4]، والبيهقي في السنن الكبرى[5]، في كتاب: الصيام، باب: صوم يوم التاسع.كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم.
ثانيا: شرح الحديث:
ومما ورد في شرح ألفاظ هذا الحديث الشريف الآتي:
* قوله: (يوْم عَاشُوراء):
قال ابن بطال القرطبي (449هـ) في شرح صحيح البخاري: "وعاشوراء وزنه: فاعولاء، وهو من أبنية المؤنث، وهو صفة لليلة، واليوم مضاف إليها، وعلى ما حكاه الخليل أنه اليوم التاسع يكون عاشوراء صفة لليوم، فيقال: يوم عاشوراء، وينبغي ألا يضاف إلى اليوم؛ لأن فيه إضافة الشيء إلى نفسه، ومن جعل عاشوراء صفة لليلة فهو أصح في اللغة، وهو قول من يرى أنه اليوم العاشر "[6].
وقال النووي (676هـ) في شرح مسلم: "والمشهور في اللغة: أن عاشوراء وتاسوعاء، ممدودان، وحكي قصرهما"[7].
* قولهم: (إنَّهُ يومٌ تُعظِّمه اليهُود والنَّصارى):
قال الشوكاني (1250هـ) في نيل الأوطار : "استشكل هذا بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون مما يدل على اختصاص ذلك بموسى واليهود. وأجيب: باحتمال أن يكون سبب تعظيم النصارى أن عيسى كان يصومه، وهو ما لم يُنسخ من شريعة موسى؛ لأن كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) [8]، وأكثر الأحكام إنما يتلقاها النصارى من التوراة"[9].
* قوله ﷺ: (فإذا كَان العَامُ المُقْبل إن شَاء الله صُمنَا اليَوم التَّاسع» قال: فلم يأت العام المقبل، حتَّى تُوفي رسُول الله ﷺ):
قال القرطبي (656هـ) في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم : "ظاهره: أنه كان عَزَم على أن يصوم التاسع بدل العاشر، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس رضي الله عنهما، حتى قال للذي سأله عن يوم عاشوراء: "إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا"[10]، وبهذا تمسَّك من رآه التاسع، ويمكن أن يقول من رأى صوم التاسع والعاشر: ليس فيه دليل على أنه يترك صوم العاشر، بل وعد بأن يصوم التاسع مضافًا إلى العاشر، وفيه بُعْدٌ عند تأمل مساق الحديث، مبنيًا على أنه جواب سؤالٍ سبق، فتأمَّل"[11].
وقال الحافظ ابن حجر (852هـ) في الفتح:" فإنه ظاهر في أنه ﷺ كان يصوم العاشر، وهَمَّ بصوم التاسع فمات قبل ذلك، ثم ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه: أنه لا يقتصر عليه؛ بل يضيفه إلى اليوم العاشر، إما احتياطا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم"[12].
وقال الزرقاني (1122هـ) في شرح موطأ الإمام مالك: "وإلى استحباب الجمع بينهما – أي: التاسع والعاشر - ذهب مالك، والشافعي، وأحمد؛ حتى لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر"[13].
ثالثا: ما يستفاد من هذا الحديث النبوي الشريف من معاني ودلالات وحكم:
من الدلالات والحكم والمعاني المستفادة من هذا الحديث الشريف: ما ورد فيه من معاني التشريف والتنويه باليوم العاشر من شهر محرم، وأنه يوم معظم مكرم عند أهل الكتاب اليهود والنصارى؛ وذلك لما وقع فيه من نصر للمؤمنين من قوم موسى على فرعون وجنوده؛ ونجاتهم من طغيانه وجبروته، وهلاكه؛ ولذلك ورد في الحديث قول الصحابة للنبي ﷺ:" يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى !! "[14]، ومن تم حرص النبي ﷺ على صيام العاشر من المحرم، وحث أصحابه رضوان الله عليهم على صيامه أيضا، وعزمه على صيام اليوم التاسع منه في العام المقبل؛ وذلك في قوله ﷺ:" فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"[15].
وما يستفاد أيضا من هذا الحديث الشريف: حرص النبي ﷺ والصحابة على مخالفة أهل الكتاب في بعض العبادات التي تتوافق في زمانها ووقتها .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح:" كان صلى الله عليه و سلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء؛ ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان؛ فلما فتحت مكة، واشتهر أمر الإسلام، أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا، كما ثبت في الصحيح؛ فهذا من ذلك، فوافقهم أولا، وقال: "نحن أحق بموسى منكم"[16]، ثم أحب مخالفتهم؛ فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله، ويوم بعده خلافا لهم "[17].
وما يستفاد أيضا من هذا الحديث الشريف: أن فيه إشارة وتصريح إلى أن مذهب عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما - راوي الخبر - : هو صيام اليوم التاسع من المحرم لا العاشر، وقد أفصح عن ذلك في حديث آخر رواه عنه الحكم بن الأعرج قال: "انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء؟ فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائما قلت: هكذا كان رسول الله ﷺ يصومه؟ قال: نعم"[18].
وقد خالف جمهور العلماء ابن عباس رضي الله عنهما في هذا المذهب، فقال النووي (676هـ) في شرح مسلم: " هذا تصريح من ابن عباس بأنه مذهبه، أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم... وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف: إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وخلائق ، وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ"[19].
وما يستفاد أيضا من هذا الحديث الشريف: أن فيه إشارة إلى ترجيح وفاة النبي ﷺ أنها كانت في شهر ربيع الأول لا في المحرم؛ لأنه لم يعش ﷺ إلى القابل من المحرم بعد قوله: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع»[20]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله ﷺ»[21]، وقال العظيم آبادي (1329هـ) في عون المعبود شرح سنن أبي داود:" قال الطيبي: لم يعش رسول الله ﷺ إلى القابل؛ بل توفي في الثاني عشر من ربيع الأول، فصار اليوم التاسع من المحرم صومه سنة؛ وإن لم يصمه؛ لأنه عزم على صومه"[22].
الخاتمة:
وما يستخلص من شرح هذا الحديث الشريف الآتي:
1- أن يوم عاشوراء من المحرم من أيام الله المباركة، الذي له فضل عظيم وحرمة قديمة، فقد صامه من قبلنا أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ وكانت العرب تصومه أيضا في الجاهلية، وصامه النبي ﷺ حين مقدمه المدينة.
2- أن حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيه من المعاني والحكم، والدلالات يستحسن الوقوف عندها، ومن بينها الآتي:
أ- أن يوم العاشر من شهر محرم فيه من معاني التشريف والتنويه ؛ لما وقع فيه من نصر للمؤمنين من قوم موسى على فرعون وجنوده؛ ولذلك فهو يوم معظم مكرم عند أهل الكتاب اليهود، والنصارى، وعظمه كذلك المسلمون.
ب- حرص النبي ﷺ والصحابة على مخالفة أهل الكتاب في بعض العبادات التي تتوافق في زمانها ووقتها، وذلك حين عزم ﷺ على مخالفتهم العام القابل في صيام التاسع .
ت- أن فيه إشارة وتصريح إلى أن مذهب عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما - راوي الخبر – هو: صيام اليوم التاسع من المحرم لا العاشر، وقد خالفه جمهور العلماء في ذلك.
ث- أن فيه إشارة إلى ترجيح وفاة النبي ﷺ ؛ أنها كانت في شهر ربيع الأول لا في المحرم؛ لأنه لم يعش ﷺ إلى القابل من المحرم بعد قوله: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع»[23].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
******************
هوامش المقال:
[1] سيأتي تخريجه إن شاء الله.
[2] صحيح مسلم (ص: 505)(1134).
[3] السنن (ص: 429)(2445).
[4] المعجم الكبير (10 /391-392)(10785).
[5] السنن الكبرى(9 /80-81)(8475).
[6] - شرح صحيح البخاري (4/ 144).
[7] - شرح صحيح مسلم (4 /264-265).
[8] - آل عمران: من الآية: (49).
[9] - نيل الأوطار (4 /289-290).
[10] - أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 505)، في كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1133).
[11] - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 194).
[12] - فتح الباري (4 /311).
[13] - شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (2/ 215).
[14] - تقدم تخريجه.
[15] - تقدم تخريجه.
[16] - أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 504)، في كتاب الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1130). بلفظ:" فنحن أحق، وأولى بموسى منكم".
[17] - فتح الباري (4/ 311).
[18] - أخرجه مسلم في صحيحه(ص: 505) ، في كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1133).
[19] - شرح صحيح مسلم (4/ 267) .
[20] - تقدم تخريجه.
[21] - تقدم تخريجه.
[22] - عون المعبود شرح سنن أبي داود (4/ 79).
[23] - تقدم تخريجه.
*************
لائحة المصادر والمراجع:
السنن الكبرى: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت:د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، القاهرة، ط1، 1432هـ/2011 م.
السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، اعتناء: مشهور حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض (د.ت).
شرح صحيح البخاري: لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال القرطبي، ت: ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد ، الرياض، ط2، 1423هـ / 2003م.
شرح موطأ الإمام مالك: لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري الأزهري، دار الفكر، بيروت، لبنان، 2018م.
صحيح مسلم بشرح النووي: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي ، ت: عصام الصبابطي، وحازم محمد، وعمار عامر، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1415هـ/1994م.
صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج النيسابوري، ت: نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1427هـ/2006م.
عون المعبود شرح سنن أبي داود: لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، اعتناء: مشهور حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 2009م.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لأحمد بن حجر العسقلاني، دار السلام، الرياض، ط1، 1421هـ/2000م.
المعجم الكبير: لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، (د.ت).
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ت: محيي الدين ديب ميستو، وأحمد محمد السيد، ويوسف علي بديوي، ومحمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، ط1، 1417هـ/1996م.
نيل الأوطار: لمحمد بن علي الشوكاني اليمني، ت: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث، مصر، ط1، 1413هـ/ 1993م.
*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري