مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةشذور

شرح الدعاء الناصري (الحلقة الثالثة)

بِكَ اسْتَغَثْنَا يَا مُغِيثَ الضُّعَفَا     ///     فَحَسْبُنَا يَا رَبِّ أَنْتَ وَكَفَى

        قال الشيخ، رحمه الله تعالى: بك استغثنا. والاستغاثة: طلب الغوث والنصرة ممن بيده التخليص من شدة، أو الإعانة على دفع بلية. وقدم شبه الجملة (بك) على العامل (استغثنا) للاختصاص. إشارة إلى أن الاستغاثة، لمن يطلبها، لا تكون بغير الله تعالى.

        ثم أعقب ذلك بقوله: يا مغيث الضعفا. إشارة إلى أن تخصيص الله تعالى بالاستغاثة ثمرة معرفة أنه ليس للضعيف سواه. فإذا قيل: إن القوي أيضا لا يستغني في هذا عن الله عز وجل. قلنا: لفظ الضعيف هنا ينصرف إلى معنيين:

        المعنى الأول: هو معنى الفقر والحاجة، وتضعف الناس له، وتجبرهم عليه لفقره، ورثاثة حاله. وبهذا المعنى ورد في الحديث: أهلُ الجنة كل ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ.

        والمعنى الثاني: هو معنى الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة. وهو المعنى الذي ورد في حديث الجنة: ما لي لا يدخلني إلا الضعفاء؟. فالضعفاء، هنا، هم الذين يُبَرِّؤون أنفسهم من الحول والقوة.

        وهذا المعنى الثاني مناسب جدا لمعنى الشطر الثاني، وعلقته به أقوى. لأنه يكون قد عبر عن التفويض بطريقتين.

 الأولى: هي لفظ (الضعفاء) الدال على التفويض، كما بينا.

والثانية: عبارة: فَحَسْبُنَا يَا رَبِّ أَنْتَ وَكَفَى. فإن: حسبي الله وكفى. كلمة تفويض وتوكل. يقولها من غلبه أمر، ويجعلها عوض: لو كان.

وقد ورد في الحديث: حَسْبِيَ الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ أمانٌ لِكُلِّ خائِفٍ. فهي عبارة دالة على متحدث خائف يطلب الأمان، ويفوض أمره لربه، ويتوكل عليه، ويقر بضعفه، ويعلم أن الناس لا تملك له شيئا، وأن الأمر كله بيد الله تعالى.

قال  – عز وجل -: “قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ”.

وقد ذكروا أن نقش خاتم مالك بن أنس، رضي الله عنه: حسبي الله ونعم الوكيل. فسئل عن ذلك، فقال: سمعت الله تبارك وتعالى قال لقوم، يقصد المسلمين في الخندق: “وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ”.

فهذه عبارة يقولها مستغيثٌ قد أيقن بالنجاة، والنصرة، والفوز، والأمان. وذلك بعد أن ترك العجز، وأخذ بالأسباب، واستعمل التيقظ والحزم. وفي الحديث: إنّ الله تَعَالَى يَلُومُ على العَجْزِ ولَكِنْ عليكَ بالكيْس فَإِذا غَلَبَكَ أمْرٌ فقُلْ: حسْبِي الله ونِعْمَ الوَكِيلُ.

وهذه معان لا تدرك حق الإدراك إلا بتربية خاصة. فناسب ذلك دعاءه الله، عز وجل، باسم الربوبية دون غيره من الأسماء. فإن الله تعالى هو المربي جميعَ عباده بالتدبير وأصناف النعم، غير أنه خص أصفياءه بتربية خاصة، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم، وأخلاقهم. ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل، لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة.

ولذلك فإن التوسل بصفة الربوبية في مقام الكرب أشد مناسبة من التوسل بغيرها من الصفات، إذ من مناسبات ذكر الرب كونه مناسباً لكشف الكرب الذي هو مقتضى التربية.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق