سيدي أبو الحسن علي اللجائي (ت أواخر القرن الثامن ه)
هو الولي الصالح، الشيخ الناصح، الخائف الخاشع، المتخلق المتواضع، الناسك المبارك، الحسن الهدي، سيدي أبو الحسن علي اللجائي.
حفظ القرآن الكريم منذ الصغر وتلقى تعلميه الأولي على يد نخبة من علماء فاس، بعد ذلك تتلمذ وأخذ الطريقة والعلم معا عن الشيخ أبي عبد الله الحلفاوي العالم الكبير والصوفي الشهير، وأخذ أيضا عن شيخ شيخه سيدي يعقوب الزيات، ونظرائهم من الأكابر الذين كانوا في وقته، فاقتبس من علمهم وأنوارهم، واستفاد من فوائدهم، وتأدّب بآدابهم، وانتفع بخدمتهم وموالاتهم، وظهر عليه ما ناله من بركات صحبتهم، فما زال بعد مثابرا على الخير ملازما لطريقة البر، مشتغلا بزكاة نفسه وطهارة قلبه، حافظا لكتاب الله عز وجل. فحاز على مرتبة كبيرة من الولاية والصلاح، قال عنه الحضرمي: "أحد مشاهير الوقت، والظاهرين بطريقة الخير، المنتصبين لأفعال البر". وقال عنه ابن قنفذ: "ورأيت منهم –يعني من الصالحين بفاس- الشيخ الصالح أبا الحسن عليا اللجائي".
ما يثيرنا في حياة هذا الولي، أنه اشتهر بمجاهدته الكبيرة في العبادة والتقرب لله تعالى، فقد كانت له بداية اجتهادية كبيرة، وحالة مرضية، فمن ذلك أنه كان يجلس بعد صلاة الصبح ذاكرا لله تعالى متوجها في المسجد، فما يزال على حالته تلك إلى وقت الزوال فإذا رام القيام يؤثّر الحصير في لباسه، فكان يحرص كثيرا بتعمير أوقاته بالعبادة والطاعة، خاصة بذكر الله تعالى؛ على اعتبار أنه مفتاح الفلاح والدليل إلى مقامات الخير، فهو أول مقام التائبين، وبه تزول عن القلب آثار الغفلة، فالذكر كما يقول عنه الشيخ أبو القاسم القشيري: "ركن قوي في طريق الآخرة، بل هو العمدة في هذه الطريق، ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر". والمؤمن عموما مطالب بذكر الله كثيرا.
فكان سيدي اللجائي من أحسن من أدرك هذه الأهمية التي للذكر، فتحلّى به تحليا تراوح بين جلال العبادة وجمال الأنس والتقرب لله تعالى، امتثالا لقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا)، وقوله في الحديث القدسي: "أنا جليس من ذكرني"، فكان دائم الاشتغال بذكر الله تعالى، معمرا أوقاته ولحظاته به، وفيه يصدق قول الله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذي يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم)، فكان هذا حاله على الدوام.
إلى جانب ذلك، كان كثير الخدمة لشيخه، كثير المراقبة لأحواله، والنظر في أحوال المساكين، والوساطة في الصدقات عليهم، والمبالاة بأمرهم وعمل الخير لهم. وقد أدرك في ذلك درجة كبيرة من الولاية، إلى جانب ما ناله وحصّله من حظ وافر من العلوم الشرعية.
توفي سيدي علي اللجائي أواخر القرن الثامن ولا نعلم تحديدا السنة التي توفي فيها، وضريحه هو الكائن في حومة راس الجنان ورحبة الزبيب بمدينة فاس.
إن أبرز ما ميّز هذا الولي الصالح، إلى جانب فقهه وعلمه، وصلاحه ومجاهداته، أنه كان كثير النفع للناس، فقد كان منخرطا في مجريات الحياة الاجتماعية في وقته، سواء من خلال ما بذله من جهود في نشر المعرفة الدينية والشرعية، أو من خلال ما قدمه من مجهودات على الصعيد الاجتماعي، إلى جانب أخلاقه الفاضلة، وإشاعته الخير والمكارم بين الناس، قال عنه ابن قنفذ في "أنس الفقير": "ألين الفقهاء وأعذبهم كلامًا، إذا جلست معه لا تريد أن تفارقه. وله سعي في حوائج المسلمين، وتفريق الصادقات على الفقراء والمساكين. وكان يأخذ في إيصال الحقوق ونصر المظلوم، ويدعى إليه الغريم كما يدعى إلى الحاكم ولا يختلف بوجه، والعلماء ينتابونه –أي يرجعون إليه مرة بعد أخرى- وكان يُجْري على المحتاجين منهم النفقة المرتّبة اليومية. قلت لبعض الصالحين –والكلام لابن قنفذ-: من أين عيشك؟ فقال لي: من نفقة أجراها عليّ اللجائي: يأتي بها في عيشة كل يوم، وكذلك كان مع غيره، ويوفي بما يلتزم في ذلك وييسر الله له في قصده، وما زال يعين من أحتاج منهم إلى التزويج. وصناعته الخياطة، وكان كثيرًا ما يحبس الأجباء، ولباسه جبة صوف أبيض إلى أنصاف ساقيه. وله مجاهدة وعبادة، وإذا رأيته تعرفه بسيمته، وكان يمشي بعض الأوقات حافيًا في الطين في حوائج الناس، أو في تغيير منكر، ويدخل مجالس الأمراء بحالته، فإذا قضى حاجته غسل رجليه وأنتعل، وكان محسودًا فيما سناه الله له من طاعة الأمراء له، وخضوع الوزراء، مقولًا فيه كثيرًا بسبب ذلك -ضاعف الله أجره ونفع به". وله في حسن المحاولة في إصلاح ذات البين بين الناس قدم، وفي زوال الشحناء والتباغض بينهم، وبذلك حصل مرتبة جليلة في الولاية والصلاح وكان نموذجا لمن تحقق بتدينه على الوجه المطلوب والمرضي رحمه الله رحمة واسعة.
تنظر ترجمته في:
السلسل العذب، للحضرمي، ص: 83.
أنس الفقير وعز الحقير، ص: 120.
سلوة الأنفاس، ج2، ص: 342.