أصدرت الشبكة العربية للأبحاث والنشر، كتاب "سوسيولوجيا الإسلام.. المعرفة والسلطة والمدنية، في طبعته الأولى للأكاديمي الإيطالي أرماندو سالفاتوري، والذي ترجمه إلى العربية، ربيع وهبة. شمل الكتاب ذو الحجم المتوسط، ثلاث مائة وسبعة وستون صفحة، توزعت بين مقدمة وثلاث أقسام بفصولها السبعة وخاتمة، تناول خلالها بالدراسة والتحليل الدين والسلطة والمعرفة منذ نشأة العالم الإسلامي وإلى حدود الفترة الزمنية الحديثة.
وجاءت مقدمة "سوسيوجيا الإسلام..المعرفة والسلطة والمدنية" أرماندو سالفاتوري لتضع الكتاب في سياقه التاريخي والمعرفي، مقدمة في ذلك أول نقاش للمفاهيم الأساسية المعتمدة في هذا المؤلف. ويأتي بعدها الفصلان الثاني والثالث، ليوضحا الحقبة التي أسماها المؤرخ الأمريكي مارشال هودجسون الفترات الوسطى، أواسط القرن العاشر إلى أواسط القرن الخامس عشر، واللذان أفرد فيهما سالفاتوري مساحة لتقديم دليل على كيفية تمحور المنظور الإسلامي في الواقع حول نمط من المدنية عابر للمحليات ومتعدد المراكز.
أما الفصلان الخامس والسادس، فيتناولان بداية العصر الحديث والمرحلة الكولونيالية في أواخرها. في حين يناقش الفصلان الأول والسابع المسائل النظرية ذات الصلة المباشرة بالتحليل، ليتبنى الفصل الرابع منظورا مقارنا صريحا، فيما تلخص الخاتمة نتائج الاستكشاف، مقدمة جسرا مبدئيا إلى دراسات وأعمال مستقبلية.
ويوضح سالفاتوري أن القصد من وراء هذا الكتاب هو تجاوز النموذج القياسي الراسخ الذي يمعن في وصم الإسلام بالاستبداد الشرقي، أي ذلك الخط الأحمر الذي يجري عبر التقاليد السياسية والفكرية الغربية منذ القرن الثامن عشر، والذي غالبا ما يمنح الغرب حسا بالهوية والتفرد على أنه مركز العالم ومصدر الديمقراطية والحداثة والنزعة الإنسية.
يعتبر سالفاتوري أن المنعطف الانعكاسي في علم الاجتماع والذي قادته مبادرة إعادة قراءة عدد من المؤلفين الرئيسيين، قد خلق نوعا من التشابك بينه وبين علم اجتماع الإسلام، والسبب في ذلك يرجع، بالدرجة الأولى، إلى التحدي المبدئي الذي طرحته دراسة الإسلام أمام التصنيفات السوسيولوجية المتصلبة، بما في ذلك الحداثة، إن لم تكن هي في الأساس، حسب رأيه دائما.
فخلال القرن التاسع عشر، استهدف تيار واسع من التخصصات الأكاديمية، بصورة متزايدة، دراسة مقارنة للأديان، والثقافات (اللغات في الأساس) والحضارات، معتبرا الإسلام نموذجا مضادا ذا قوة هائلة لكنها مقاومة وعنيدة، سواء في الماضي أو الحاضر، للحداثة الغربية التي روضت سلطة التقاليد الدينية وكيفتها.
غير أن تطبيع الإسلام الكامل وتطويعه ضمن ما هو "معياري سوسيولوجيا" لم يفلح أيضا، حسب سالفاتوري، بدعوى أن الإسلام ظل يمثل قوة قادرة دائما على زعزعة طموحات علم الاجتماع، في تفسير عوامل التحولات الاجتماعية وعوائقها والتماسك الاجتماعي على مستوى عالمي.
وفي تحليل سالفاتوري للصلة القوية التي اكتسبها "سوسيولوجيا الإسلام"، خلال عقد الثمانينيات، حول طبيعة العلاقات بين الدين والمجتمع والسياسة في سياقات إسلامية، يرى أن متانة هذه الصلة هي التي مكنت علم الاجتماع من التحرر من "الخطيئة الأصلية"؛ بما لها من صقل خاص، يتمثل في العزوف عن الاعتراف بالدينامية الاجتماعية والمدنية لمظاهر الإفصاح غير الغربية عن الدين.
ويستشهد في معالجته لموضوع الحداثة الإسلامية، بذلك النوع من علم الاجتماع الذي بدأ في التعامل بجدية، واحتمال رؤية ظهور قدرة تحولية حقيقية للإسلام فيما يتعلق بالمجتمع، وذلك حتى في غياب تلك العوامل الدقيقة للعقلانية الحديثة التي ظلت مؤثرة في المسار الغربي. وهو الواقع الذي دفع بالإسلام بألا يكون إستاتيكيا، بل "في حالة حركة". الأمر الذي مكن سوسيولوجيا الإسلام من الإسهام في إثارة قضية "الحداثة الإسلامية" كسؤال بحثي للدراسة والتتبع، وليس مجرد توارد لفظتين متناقضتين، وأيضا مساعدة علم الاجتماع عامة وعلم اجتماع الدين خاصة، على اكتساب مفهوم أغنى عن الدين، أقل تمركزا حول أوروبا، دون إغفال النظر إلى الدين على أنه نوع من السلطة قائم على المعرفة، وقابل للتعميم.
وبما أن سوسيولوجيا الإسلام لا يمثل مجرد علم اجتماع ديانة أو حضارة بعينها، فإن سالفاتوري يعتبره قناة للتدخل في مسائل ومفاهيم رئيسة في علم الاجتماع، والعلوم الاجتماعية عموما (ولا سيما الأنتروبولوجيا)، والإنسانيات جميعها (خصوصا التاريخ)، مفترضا فيه أن يكون الشرارة الشاحذة التي يمكن أن تجعل المشروع السوسيولوجي أكثر حوارية وفائدة في تفسير عالم جديد متعدد من أنماط المدنية في العالم. إلا أن دمج الإسلام وعلم الاجتماع، جنبا إلى جنب، مع مجموعة من المفاهيم الرئيسة التي نجح في إنتاجها ونشرها (من الكاريزما، مرورا بالعلمنة، وصولا إلى الحداثة نفسها)، في نظر سالفاتوري لا يفضي إلى نفس النتيجة.
ويشير سالفاتوري وبوعي تام على امتداد رحلة هذا البحث إلى أن الإسلام يمثل "معمورة"، وهو المصطلح الذي لا يكاد يستخدم في علم الاجتماع، وينبغي اعتباره متميزا عن الحضارة بمفهومها الأقرب إلى مجال العلوم الإنسانية.
وانحيازا منه إلى التفسير الذي يصف الأمة بأنها مجتمع تقليدي، خصوصي، غير حديث، يقصد من مصطلح "معمورة" كل من الأبعاد الدينية والمدنية التي يتقاطع بعضها مع بعض لوشائج ترابطية تحمل إمكانية عالمية.
أما فيما يخص المعمورة الإسلامية، يؤكد على ضرورة فهمها على أنها مجموعة شديدة الحركية من أنماط المعيارية والمدنية التي توفر كلا من التماسك والتوجيه نحو شبكات عابرة للمحلية وتنوع من المحليات.
وعن كيفية امتزاج المعرفة والسلطة، يركن سالفاتوري إلى ما قدمه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، باعتباره العمل الأبرز في هذا السياق، والملهم لعدد من النقاد. ويعد فوكو من المؤطرين لمعادلة المعرفة-السلطة عبر بؤرة أو عدسة القوة التاريخية للانضباط الغربي، والقوى المؤسسية والذاتية التي أماط عنها اللثام في سلسلة من "الدراسات الأركيولوجية" ودراسات الأنساب" الرائعة.
ولم يكتف سالفاتوري بإثارة النقاش حول البديل النابوليتاني المعاصر لحركة التنوير الاسكتلاندية الذي قدمه فوكو في الفصل الأول فحسب، بل تم استخدامه أيضا في الفصول اللاحقة للمساعدة على إظهار عدم إمكانية بناء مسار عملية التحضر في المعمورة الإسلامية كصيغة معيبة لنموذج شامل منشأه الغرب.
وبخصوص موضوع المدنية العالمية وتجلياتها الإسلامية، فقد أفرد لها الفصل السابع، حيث عمل على فهم المدنية في انتشارها العالمي وفي تجلياتها الخاصة، شريطة عدم الوقوع فريسة الإغواء والوهم المرتبطين برؤية المدنية مفتاحا لكل شيء لفهم تطور سلس طويل المدى ميز بين النماذج الأساسية والتقليد المعيب، بعدما كان قد تناول بالبحث والمناقشة في الفصول السابقة، أنماط المدنية، والمدنية الإسلامية من المنظور التاريخي المقارن...
وبناء على ما جاء في الفصل الثاني وما تلاه، اتضح لمؤلف "سوسيولوجيا الإسلام" أن المنظور الإسلامي متميز بدرجة عالية ومتصاعدة من التداول الكوني والتواصل عبر الحدود، وهو ما يشكل، حسب رأيه، علامة بارزة على المدنية في المنطقة الحضارية الأفرو-أوراسية حتى بداية العصر الحديث.
وقد سعى في هذا الجزء التمهيدي من ثلاثيته "سوسيولوجيا الإسلام.. المعرفة والسلطة والمدنية" إلى إظهار إمكانية إعادة توجيه الفكرة الإلياسية/القائمة على المركزية الأوربية لعملية التحضر/عن عملية التحضر من منظور إسلامي؛ إذ يمنح هذا المنظور، حسب تحليله، رؤى في التفاعل بين عملية التحضر والطرائق التي تبث بها التقاليد الدينية الحياة في أنماط حديثة من المدنية، مضيفا أن سوسيولوجيا الإسلام، تساهم في اكتساب المنظور الإسلامي المتعدد لملامح أصلية تعكس البحث عن نمط من الحداثة يبدو غريبا فيما يتعلق بالمحور الحضاري الأحادي لعملية التحضر العالمية التي تسير بقيادة غريبة؛ ذلك المنظور الذي ساعد في الإلمام، على نحو أفضل، بتنوع "شبح" المدنية العالمية، وقابليته للنقض، وإلى حد ما، مرونته، ولا مركزيته.
تناول سالفاتوري بالشرح والتحليل مدى حاجة سوسيولوجيا الإسلام كمجال ومشروع، إلى بحث وتحقيق في مقاربة إسلامية متميزة لبناء أنماط من سلوكيات الحياة والأنشطة الاجتماعية التي يمكن أن تندرج تحت عنوان "المدنية"، في إطار من التشابكات والتفاعلات الكثيفة والعوالم الحضارية الأخرى، والتي يرى أنها مستحيلة الوقوع بمعزل عن مؤسسات الحكم المتغيرة إلى حد كبير والمرنة في الغالب.
فقد اهتم هذا الجزء، بعرض مسار التطورات التي تجلت في التاريخ والمجتمع الإسلامي انطلاقا من معادلة المعرفة-السلطة الحضارية بطرائق أصلية ومرنة في أغلبها. تلك التطورات التي انبثقت عبر تنوع من تفاعل العوام والنخب عبر الأوساط الحضرية، والزراعية، والبدوية، معتبرا أن جزء ثلاثيته هو تبسيط لمجموعة من القضايا ، ما تزال في حاجة إلى مزيد من الاستكشاف والبحث والتمحيص لأوجهها العديدة، وهو ما سيتناوله الجزءان المستقبليان للكتاب، مستفيدا من التلخيص الأول لبعض الحجج الرئيسية في كتاب مارشال هودجسون "مغامرة الإسلام"، لما يتضمنه من إسهام ثمين في إلهام مشروع سوسيولوجيا الإسلام.
واعتمد عمل هودجسون الذي عمل على توضيح أن الإسلام يحتضن مجموعة متكاملة غنية من التقاليد الدينية والفقهية والأدبية التي أفعمت توسعا ثابتا من رابطة الشعوب عابرة الحضارات الواقعة في القلب من الكتلة الأرضية الأفرو-أوراسية (الشطر الشرقي من الكرة الأرضية).
وأثبتت مقاربة هودجسون التي يعتبرها سالفاتوري "مستنيرة نظريا" فائدتها بعد مناقشتها وسط المؤرخين، وعلماء الاجتماع، ومحللي الحضارات في العقدين الأخيرين؛ إذ ركزت على الطريقة التي يفترض أن تمد بها التقاليد الثقافية والدينية الحياة في أوصال عملية التحضر الواسعة التي يتشكل من خلالها الأفراد وتتبلور المجتمعات، لتبقى الحالة التي يوجد عليها الإسلام/العالم الإسلامي مهمة لإظهار مدى اعتماد الحضارة أيضا على السلطة، وذلك في استنادها أيضا إلى المعرفة.
وعلى المستوى النظري، اعتبر سالفاتوري أن مساهمته تعبر عن محاولة لإعادة بناء برنامج مفتوح قابل للتحقق لسوسيولوجيا الإسلام بإلهام من هودجسون، فضلا عن التطلع إلى تجديد جهازه المفاهيمي وإثرائه، وهي محاولة مضاعفة ثنائية، ركزت بالدرجة الأولى على المحاولة الإنسانية لبناء عالم مدني وإعماره وتشكيله وما يدعمه من روابط اجتماعية. وهي الخطوة التي تطلبت التمييز تحليليا بين عاملين رئيسيين، هما المعرفة والسلطة، والناقل الاجتماعي لكل منهما.
واستنادا إلى فكرة الفصل التحليلي، أفرد سالفاتوري لناقلي المعرفة وضعا خاصا، لأن تفاعلهم مع أصحاب السلطة لا يسفر عن مؤسسات متميزة فحسب، بل عن درجات مشروعة من مأسسة العلاقات الرسمية.
ويبقى الشق الثاني من محاولته الثنائية هو وصفها بعملية تحضر قائمة على أنماط ما أسماه بـ"مدنية"، والتي اعتبرها المحصلة الأكثر ارتباطا والأوضح لمعادلة المعرفة-السلطة، وهي معادلة حديثة الاستخدام، تحتاج حسب رأيه، إلى تعميق في التحقيقات البحثية المنتظرة.
ليخلص إلى أن المقاربة التي تبنتها سوسيولوجية الإسلام في جزء من ثلاثيته، خاصة لو كانت معززة برؤية عن التشابكات العابرة للحضارات، تحصن من الوقوع في تشوهات المركزية الأوروبية التي أصبحت عتيقة أكثر من أي وقت مضى، رغم كونها ما تزال تساهم في بناء أرضية تحليلية أكثر ثراء.
وللإشارة، فإن الأكاديمي الإيطالي، أرماندو سالفاتوري، سبق له أن أصدر العديد من المؤلفات التي تخص القضايا الإسلامية باعتباره أستاذ علم اجتماع "المجال العام الحداثة الليبرالية والكاثوليكية والإسلام" سنة 1975، وأيضا "الإسلام والحداثة..قضايا رئيسية ومناظرات" سنة 2009 إضافة إلى مشاركته في مجلة الحولية السوسيولوجية الصادرة (1988-2008).