“روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام” لابن الأزرق عرض ومناقشة وموازنة
خلود بناصر
مقدمة
ابن الأزرق غرناطي الأصل، مالقي المولد (831 –896هـ)، شغل وظيفة القضاء والإفتاء والتدريس، وعاش في عصر عرفت فيه غرناطة اضطرابات كبرى أدت إلى سقوطها.
ويعتبر مؤلَّفه "روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام" واحدا من أغنى مؤلفاته إلى جانب مؤلفات أخرى تحمل عناوين: "شفاء الغليل في شرح مختصر خليل"، "الإبريز المسبوك في كيفية آداب الملوك"، "تخيير الرياسة وتحذير السياسة"، و"بدائع السلك في طبائع الملك".
ويعد عنوان المؤلَّف أول ما يقرأ المتلقي، فهو العتبة الأولى إليه، فإما أن يلفت انتباهه وإما أن يصرفه عنه، ومن أجل ذلك سنتوقف عنده بغية تحليله من الناحيتين التركيبية والدلالية، كما يلي:
- الجانب التركيبي:
العنوان عبارة عن جملة اسمية على عادة العرب في اعتماد الجمل الاسمية دون الفعلية في عناوينهم لما تؤديه من وظيفة إخبارية. والمبتدأ محذوف تقديره "هذا" والخبر "روضة" وهو مضاف، "الإعلام" مضاف إليه، "بمنزلة" جار ومجرور، وهو مضاف، "العربية" مضاف إليه، "من علوم" جار ومجرور، وهو مضاف، "الإسلام" مضاف إليه.
ويتكون عنوان المؤلف "روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام" من سبع كلمات، وهو متوسط الحجم بالمقارنة مع عناوين بعض المؤلفات العربية القديمة التي يستغرق بعضها ما يزيد عن السطر الواحد، كعنوان المؤلَّف الشهير لابن خلدون: "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".
- الجانب الدلالي:
استعمل ابن الأزرق لفظة "روضة" للدلالة على مؤلَّفه، والروضة"البستان الحسن"(1) وقد صرح في المقدمة بسبب تسميته للمؤلَّف بـ"روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام"، حيث "دل بها على ما يبهج ويقيد بمحاسنه النواظر"(2)، وقد اعتادت العرب أن تستعمل المجاز في عناوينها، بل إن كثيرا من المؤلفات العربية استعملت نفس اللفظ في عناوينها، منها: "روضة التعريف بالحب الشريف" لابن الخطيب، "الروض المريع في صناعة البديع" لابن البناء المراكشي، و"روضة المحبين ونزهة المشتاقين"لابن قيم الجوزية.
ووجه الشبه بين المؤلَّف والروضة ما يحتويه من موضوعات متنوعة يتطلع إليها القارئ وتشد انتباهه إليها كالروضة التي تجذب الناظر ببهائها.
جرت عادة الحركة التأليفية العربية القديمة خاصة على سجع عناوين مؤلفاتها بحيث تكتسب جرسا موسيقيا يضفي عليها طابعا جماليا، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد، كما هو الحال بالنسبة لعنوان مؤلَّف ابن الأزرق.
والسجع: "أن تتفق الفاصلتان في الحرف الأخير، والفاصلة في النثر كالقافية في الشعر، وتسمى كل من الجملتين فقرة"(3).
ويمكن تقسيم العنوان تبعا للجرس الصوتي الخاص بالقافية إلي قسمين: روضة الإعلام - بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ويؤدي السجع إلى جانب وظيفته الجمالية وظيفة تنبيهية تواصلية بحيث يلفت انتباه القارئ إلى عنوان المؤلف، كما أنه ييسر له حفظه واسترجاعه.
فما الأطروحة التي يدافع عنها المؤلف؟ وما هي بعض جوانب مناقشتِها الممكنة؟ وما هي الآراء الأخرى المقابلة لما تثيره من موضوعات؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، قسمنا هذا البحث إلى ثلاثة محاور أساسية:
* العرض، وقمنا فيه بعرض شامل ومركز لأقسام المؤلف ومضامينه،
* المناقشة، وتناولنا فيها مختلف الجوانب الثاوية خلف الأطروحة من عنوان المؤلف،ومنهجيته،ومرجعيته، وموقعه من باقي مؤلفات ابن الأزرق وآثار العصر عليه،
* الموازنة، وانفتحنا من خلالها على بعض ما يتقاطع مع الموضوعات التي يثيرها المؤلف.
1. العرض
يتمحور المؤلَّف حول موضوع أساسي هو التعريف بمكانة العربية بين مختلف العلوم الإسلامية،والحاجة إليها لفهم الكتاب والسنة، باعتبارهما مجموعة من النصوص التي يتوقف فهمها على فهم بنياتها اللغوية.
وقد عالج المؤلِّف هذا الموضوع في أربعة أبواب مختلفة لكنها مترابطة بحيث يشكل كل منها عنصرا فاعلا في بنية المؤلَّف، وسنقوم بعرض تمفصلاته بدءا بمقدمته، مرورا بأبوابه ووصولا إلى خاتمته.
المقدمة الأولى:
افتُتِحت مقدمة المؤلَّف بالبسملة والتصلية على عادة المؤلفين العرب القدامى، ثم قُدِّمتْ أهم الوظائف التي شغلها ابن الأزرق؛ الإمامة والقضاء، وقد ابتُدئ بهذه الجملة "قال الشيخ الإمام الأوحد الصدر ..."، فنُسِب القولُ إليه، وأما مقولُ قوله فقسمان: الأول أخص وهو المقدمة، والثاني أعم وهو المؤلَّف كله.
تتمحور المقدمة حول الثناء على العربية، وتعظيم منزلتها، فهي الوسيلة لفهم السنة النبوية والنصوص القرآنية واجتناب تحريفهما، فالحاجة إليها ضرورية، ومن ثم جعلها واجبة التعلم.
كما عرض فيها المؤلِّفُ أقسام الكتاب ومضامينها، فجعلها أربعة أبواب مع مقدمة وخاتمة، كما يلي:
* "المقدمة: في مدلول اسم النحو لغة واصطلاحا.
* الباب الأول: في تقرير فضل العربية، وتحرير الحض على تعلمها.
* الباب الثاني: في منفعة النحو منها، وضرورة الاحتياج إليه في ملة الإسلام.
* الباب الثالث: في حكم استنباط النحو، والاشتغال به في نظر الشرع.
* الباب الرابع: في نسبة النحو من العلوم، ومرتبته في التعلم.
* الخاتمة: في آداب المشتغل به وبغيره من العلوم"(4).
وقد توقف بعد هذا عند عنوان مؤلَّفه؛ "روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام"، مشيرا إلى سبب اختياره له، مركزا على لفظة "روضة" وما تعكسه من دلالات تنسجم مع ما تضمنه الكتاب من "فوائد مختلفات، وفرائد في منظوم سبكه مؤتلفات، وروايات نقليات، واعتبارات عقليات، وحكايات مستظرفات، وآداب من أخلاق السنة مغترفات"(5)، وقد اختتم المؤلف مقدمته بالدعاء.
المقدمة الثانية:
تناول المؤلِّف مقدمتَه الثانية في ثلاثة مباحث؛ الأول لشرح مصطلح النحو لغة، الثاني لشرحه اصطلاحا، والثالث لتعليل التسمية به.
الباب الأول:
عقد المؤلف الباب الأول لبيان ما تحظى به العربية من منزلة رفيعة في الإسلام، مستشهدا على ذلك بآيات قرآنية وأحاديث نبوية عدة، ويدلنا عنوان الباب على ما تناوله فيه، خاصة الشق الأول من العنوان، وهو: "في تقرير فضل العربية".
وهذه الحاجة إلى "تقرير فضل العربية" تدفع القارئ إلى افتراض وجود منكِر لفضلها أو مجادل فيه، فلا دافع إلى تقريره إذا كان مُسلَّما به، وما دام الأمر غير ذلك، فنتوقع أن يتجه مضمون الباب إلى اتجاهين اثنين؛ أحدهما: الدحض، وثانيها: الإثبات؛ أي دحض دعوى المخالف وإثبات الأطروحة المُدافَع عنها.
عمد المؤلف في الدفاع عن أطروحته المتمثلة في اعتبار العربية علما هاما تحتاج إليه باقي العلوم الإسلامية، إلى اعتماد بنية حجاجية عكسية، تنطلق من الإثبات لتصل إلى الدحض، لا خلاف ذلك؛ أي الانطلاق من الدحض إلى الإثبات، حيث قسم الباب الأول إلى ما سماه: "الطرف الأول" وأثبت فيه فضل العربية، و"الطرف الثاني" ودحض فيه أقوال منكر ذلك الفضل.
فأما الطرف الأول فقسمه بدوره إلى قسمين، هما: المسلك الأول والمسلك الثاني، حيث جعل المسلك الأول للحديث عن فضل العربية بمعناها اللغوي العام بما هي لغة من اللغات، وخص المسلك الثاني للحديث عن فضل العربية بمعناها الاصطلاحي الخاص؛ أي بما هي علم "يختص بالتراكيب والجمل"(6).
وأما الطرف الثاني فاستعرض فيه أقوال معارضي فضل العربية، والرد على كل منها عن طريق الحجاج. كما أورد فيه مدحا لهذا العلم فجعله في قسمين: أحدهما لمنظومه وثانيهما لمنثوره.
وعقد في نهاية الباب خاتمة طويلة من ثلاثة فصول، عرض فيها لفضائل العلم العقلية المحضة، فضائله النقلية المحضة، وفضائله المركبة من العقل والنقل. وأورد في كل من الفصل الأول والثالث عشر فضائل، وفي الفصل الثاني أورد عشرين فضيلة.
الباب الثاني:
بعد أن تحدث المؤلف في الباب الأول عن منزلة النحو أو علم العربية في الإسلام، تناول في الباب الثاني الحديث عن منفعة هذا العلم وحاجة علوم الإسلام إليه، وفي الحديث عن منفعته بيان للأسباب التي تمنحه منزلته التي سبق تقريرها في الباب الأول.
وقد وضع قاعدتين لبيان منفعة النحو وحاجة علوم الإسلام إليه هما بمثابة مقدمتين ينبني عليهما الباب، وتتمثل القاعدة الأولى في كون أصول الشريعة الإسلامية من قرآن وسنة عربيةٌ خالصة، وتتمثل القاعدة الثانية في أن من أعظم مقاصد هذه الشريعة حفظ الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
وبناء على هاتين القاعدتين يُقسم المؤلِّف الباب إلى مقامين، يكشف أحدهما منفعة النحو باعتبار القاعدة الأولى، ويبين ثانيهما منفعته باعتبار القاعدة الثانية.
إن مجمل ما أورده المؤلف في المقام الأول يؤكد على منفعة النحو والحاجة الملحة إليه لفهم الكتاب والسنة إلى جانب باقي العلوم الإسلامية، وقد أورد المؤلف عشرة أمثلة على ما يؤدي إليه الجهل بالنحو من الخروج عن الصواب في فهم الكتاب والسنة فكانت هذه الأمثلة استشهادا على ما سبق من حديثه.
وفي المقام الثاني تناول الحديثَ عن منفعة النحو في حفظ الضروريات الخمس، وقد تطرق لكل واحدة منها على حدة.
فأما حفظ الدين فجعله في قسمين: قسم خاص بحفظ الجانب الاعتقادي منه وقسم يتعلق بحفظ الجانب العملي.
وأما حفظ النفس فجعله قسمين: الأول حفظها مما يصدر منها من كلام فيوجب حتفها، والثاني مما يرد عليها منه.
وأما حفظ العقل فقسمه إلى مطلبين: المطلب الأول لحفظ العقل من جانب الوجود، والمطلب الثاني لحفظه من جانب العدم.
وأما حفظ النسل فتناول الحديث عنه باعتبار أمرين: أحدهما يتعلق بالمعرفة به، وثانيهما يتصل بتجنب ما يفسده.
وأما حفظ المال فجعله في طرفين: طرف لاستجلاب المال، وطرف لحفظه بعد حصوله.
وقد انتقل المؤلف بعد هذا إلى استعراض منفعة النحو للعلوم الشرعية، بدءا بعلم التفسير، مرورا بعلم القراءات، وعلم الحديث، وعلم أصول الدين، وعلم أصول الفقه وصولا إلى علم الفقه.
الباب الثالث:
تقدم في الباب الثاني حديث المؤلف عن منفعة النحو للعلوم الإسلامية على اختلافها، والحاجة إليه لفهم الكتاب والسنة وتحقيق مقاصد الشريعة الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وبناء على هذه الحاجة يعقد المؤلف الباب الثالث لبيان الحكم الشرعي لاستنباط النحو من جهة والاشتغال به من جهة أخرى.
قسم المؤلف الباب الثالث إلى فصلين: الأول للحكم الشرعي لاستنباط النحو والثاني للحكم الشرعي للاشتغال به، وقد عالج الفصل الأول في أربعة مباحث، المبحث الأول للحديث عن أول من استنبط النحو وهو أبو الأسود الدؤلي، والمبحث الثاني للحديث عن سبب استنباطه وهو ظهور اللحن في اللغة العربية على لسان الناطقين بها، والمبحث الثالث للحديث عن أخذ الشرع بذلك السبب لوضع النحو حفظا للقرآن من الضياع، والمبحث الرابع لبيان الحكم الشرعي لوضع النحو وهو الوجوب.
أما الفصل الثاني فيتعلق في جملته بحكم الاشتغال بالنحو في نظر الشرع ويتمثل في كونه فرض كفاية، بحيث "يسقط التكليف به عمن لم يقم به إذا كان هناك من قام به"(7).
الباب الرابع:
خص المؤلف هذا الباب بالحديث عن نسبة العربية من العلوم الإسلامية ومرتبتها في التعلم، وقسم الباب إلى ستة مناهج تبعا لذلك.
وقد تناول في المنهج الأول الحديث عن نسبة العربية من العلوم الإسلامية، مستفيدا من جدلية الأداتية والغائية في تقسيم العلوم إلى قسمين: مقصودة لنفسها ومقصودة لغيرها، فالأولى غايات والثانية أدوات. وقد صنف النحو ضمن العلوم المقصودة لغيرها، فاعتبرها أداة لتحقيق غايات العلوم المقصودة لنفسها، كما اعتبرها علم آلة إلى جانب علوم الآلة الأخرى.
ويشبه المؤلف صناعة النحو في علاقته باللسان، بعلم المنطق في نسبته للعقل، وعلم العروض في نسبته لأوزان الشعر باعتبار أن كلا منها يعطي قوانين منطقية في مجاله الخاص.
فأما في المنهج الثاني فتحدث عن مرتبة العربية في التعلم فقدمها على ما عداها لأنها الوسيلة إلى غيرها، سواء تعلق الأمر بالعلوم الإسلامية أو العلوم القديمة التي تُرجمتْ إلى اللسان العربي، ويدخل ضمن تعلم العربية اللغة والنحو معا، مع التأكيد على أهمية المعرفة بالشعر في تعلمها.
وأما في المنهج الثالث فميز المؤلف بين ما يُعتمد عليه من العربية لخدمة العلوم الإسلامية وما لا يُعتمد عليه منها، على اعتبار أن لكل علم صلبا وملحا على حد تعبيره، أي أن لكل علم عمدا وفضلات، أصولا وفروعا.
وقد قسم العربيةَ إلى نوعين باعتبار ما سبق؛ فالنوع الأول يتضمن كل ما يُحتاج إليه للقيام بما يتطلبه التكليف الشرعي، والنوع الثاني هو ما قُصِدَ به غير هذا.
وأما المنهج الرابع فيعالج فيه مقام استعمال العربية، حيث يدعو المؤلِّف إلى صيانة العربية مما اعتبره إهانة لها باستعمالها مع غير أهلها، ويستشهد على ذلك بأدلة معقولة وأخرى منقولة، محددا مواضع لا يحسن بها الخطاب بمقتضى العربية، ويقصد المؤلف بالمواضع "المقامات التداولية" ونعني بالمقام التداولي "مجموعة العناصر التي تتوافر في موقف تخاطبي معين وأهمها زمان التخاطب ومكانه وعلاقة المتكلم بالمخاطب وخاصة الوضع التخابري بينهما؛ أي مجموعة المعارف التي تشكل مخزون كل منهما أثناء عملية التخاطب"(8).
وأما المنهج الخامس فعقده المؤلف لموضوع الإغراب في الخطاب، وجعله في مسألتين؛ أولاهما لبيان المناهي الشرعية، وثانيتهما للحديث عن ردود أفعال المتلقي تجاه هذا النوع من الخطاب.
وأما المنهج السادس فأفرده لبيان حكم تلقي المعلم مقابلا على تعليم العربية، وقد ميز بين ما عبر عنه بـ"أخذه للرزق"، وبين ما عبر عنه بـ"أخذه للأجرة"، فالأول عنده أقرب إلى الإحسان، والثاني أقرب إلى المكايسة، ومنه قسم المنهج إلى نظرين؛ الأول لحكم أخذ الرزق على تعليم العربية، والثاني لحكم أخذ الأجرة على تعليمها.
الخاتمة:
أفرد المؤلف خاتمة الكتاب للحديث عن آداب المشتغل بالعربية وغيرها من العلوم، حيث أوضح أنها أساس بناء عمله على أصل صحيح، ولهذا ينبغي له معرفتها.
وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام:
* أولها: ما يتخلق به مع معلمه، وجعلها تسعة آداب.
* ثانيها: ما يتخلق به المتعلم في نفسه، وهي عنده عشرون أدبا.
* ثالثها: ما يتخلق به المتعلم مع رفاقه في الطلب، وهي عنده عشرة آداب.
2. المناقشة
أ. مرجعية المؤلف:
يعكس المؤلَّف طابعا موسوعيا لشخصية ابن الأزرق، فهو يحتوي على معارف تنتمي لعلوم مختلفة، كالتفسير، والقراءات، والحديث، وأصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والنحو، والبلاغة، والمنطق، والمعجم، والأدب.
ويمكن التمثيل لحضور كل منها في المؤلف كما يلي:
1. التفسير:حيث أورد المؤلف العديد من الآيات القرآنية على امتداد مؤلفه متبوعة بتفسيرها، كما عقد محورا للحديث عن هذا العلم في الباب الثاني من مؤلفه، مع ذكره مصادره أحيانا، كذكره للزمخشري.
2. القراءات:حيث خص هذا العلم بمحور ضمن الباب الثاني واعتبره من أمهات العلوم الشرعية.
3. الحديث:حيث ذكر عددا كبيرا من الأحاديث النبوية من مصادر مختلفة، منها: صحيح البخاري، وصحيح مسلم وغيرهما، مما يعكس اطلاعه على الحديث الذي مكنه من توظيفه تبعا لسياقات المؤلف، كما أنه خص علم الحديث بمحور من كتابه في الباب الثاني، بالإضافة إلى استعماله لمصطلحات تنتمي لعلم الحديث منها: الراجح والمرجوح(9).
4. أصول الدين: حيث أورده في معرض حديثه عن أهمية العربية في فهم النص القرآني والحديث النبوي باعتبار فهمها أساسا لفهم الدين، كما أنه خص هذا العلم أيضا بمحور في الباب الثاني.
5. أصول الفقه:وفيه إلى جانب ما ذكر في "أصول الدين"، اطلاعه على مؤلفات في هذا العلم واستشهاده بما ورد فيها، ومنها: الرسالة للإمام الشافعي(10)، وقد خصص لهذا العلم محورا كذلك في الباب الثاني.
6. الفقه: إذ أورد المؤلف عددا من الفتاوى في سياقات مختلفة، كما خص الفقهَ بمحور ضمن الباب الثاني.
7. النحو: حيث طرح المؤلِّف عددا من المسائل النحوية، كما أنه ذكر كثيرا من أعلام النحو كأبي الأسود الدؤلي، يونس بن حبيب، الكسائي، الفراء، سيبويه، ابن جني، ابن الأنباري، وكان أحيانا يُعرِّفُ بهم(11).
8. البلاغة:لا يخلو المؤلَّف من إشارات بلاغية، منها ما هو منقول، ومنها ما يصدر عن المؤلِّف نفسه، مما يعكس ثقافته البلاغية، ومن أمثلته قوله: "فهو زناد الكلام: أي ما يقدح به ناره -على وجه الاستعارة- وهو جمع"(12).
9. المنطق: ويظهر جليا من خلال تقسيمه المكثف لعناصر الموضوع، واستدلالاته العقلية، وأيضا من خلال توظيف مصطلحات منطقية، منها: المعقول الاعتباري، والمنقول الوجودي(13).
10. المعجم:يقدم المؤلف إلى جانب ما سبق معلومات معجمية لشرح ما ورد في نقوله، ومنها ما عنونه بـ: "تفسير غريب"(14) وقد تضمنت هذه المعلومات المعجمية معلومات صوتية، كقوله "يغضون من العربية بالضم: أي ينقصون من قدرها" وأخرى صرفية، كقوله: "منابذة، من النبذ، وهو بمعنى إلقاء شيءٍ وطرحه"(15). كما استفاد المؤلف من عدة معاجم، منها: الصحاح للجوهري، ولسان العرب لابن منظور.
11. الأدب:سواء أ تعلق الأمر بالشعر أم بالنثر، أما الأول فقد أكثر المؤلف من إيراد الشواهد الشعرية، وأما الثاني فلاقتباسه من مؤلفات أدبية مختلفة، منها كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة.
والملاحظ أن مرجعية هذه المؤلفات ثنائية فهي مغربية مشرقية معا، فقد استفاد المؤلف من نتاجهما دون التقيد بإحديهما دون الآخر، ولذلك وجدناه كما ينقل عن شيخه الفتوح وأبي إسحاق الشاطبي، ينقل عن غيره كالإمام تاج الدين السبكي، وكذلك الأمر بالنسبة للمؤلفات.
ب. آثار العصر في المؤلَّف وموضعه من باقي مؤلفات ابن الأزرق
من المعلوم أن من أول الحاملين لقضايا أمة أو دولة ما هم علماؤها الذين يتصفون بالحكمة والبصيرة، ويملكون رؤى استشرافية لتحقيق النهضة، عن طريق إصلاح المجتمع. وقد سبق أن سجلنا بأن عصر ابن الأزرق قد عرف مجموعة من الاضطرابات السياسية التي انتهت بسقوط غرناطة، والمؤكد أن ابن الأزرق كان متابعا لأحوال عصره متأثرا بها، مدركا لمسؤوليته تجاهها، وقد انعكس هذا الوعي بشكل واضح في كتبه: "تخيير الرياسة وتحذير السياسة"، "الإبريز المسبوك في كيفية آداب الملوك" و"بدائع السلك في طبائع الملك"، فكلها تتناول مواضيع تندرج ضمن المجال السياسي، وقد انعكس كذلك بطريقة غير مباشرة على مؤلفه "روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام"، وسوف نخص هذا الأخير بالحديث فهو موضوع بحثنا.
يتمحور موضوع المؤلف حول منزلة العربية بين العلوم الإسلامية، ودورها في فهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وهو يقصد بالعربية معناها الخاص؛ أي النحو.
وغني عن القول أن اللغة واحدة من أهم عناصر الهوية، وهي المسؤولة عن حفظ عناصرها الأخرى، عن طريق التعبير عنها، سواء أ تعلق الأمر بالتاريخ الذي تدونه اللغة أم بالتقاليد والقيم الاجتماعية التي تمرر عبر الأجيال عن طريق اللغة أم بغيرها كعنصر الدين الذي يحتاج إليها لفهم نصوصه، والملاحظ أن مؤلَّف "روضة الإعلام" يولي عناية كبرى بهذين العنصرين؛ أي اللغة والدين، بحيث يعبران في اقترانهما عن النزعة القومية العربية الإسلامية.
وإلى جانب هذا تحدث المؤلِّف عن خطورة اقتران طلب العلم بطلب الرياسة دون استحقاق، وخصوصا في الخاتمة التي تناول فيها آداب المشتغل بالعربية وغيرها من العلوم، وهي إشارة بليغة تعكس ما ذكرناه من تأثير الأحداث السياسية عليه.
ج. منهجية المؤلف
1. الإحالة:
أ. الإحالة الداخلية: المقصود بها كل إحالة يكون مرجعها المؤلَّف نفسه، إذ تتم فيها الإحالة على مراجع من داخله سواء تقدمت عن موضع الإحالة أو تأخرت من حيث رتبتها، وبناء عليه فالإحالة نوعان: قبلية وبعدية.
أما القبلية فهي التي يكون فيها مرجع الإحالة لاحقا لها، بحيث يتم استشراف العنصر المحال عليه في ما يلي، ومن أبرزها في المؤلَّف الإحالة على أقسامه ومضامينها في المقدمة(16)، وفي هذا نوع من التعاقد بين الطرفين؛ المرسل والمتلقي، بخصوص موضوع المؤلَّف ومداره.
وأما البعدية فهي التي يكون فيها مرجع الإحالة سابقا لها، بحيث يتم استرجاع العنصر المحال عليه انطلاقا مما سبق، وقد تكررت هذه الحالة كثيرا في متن المؤلف، ومن أمثلتها قوله: "ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه على ما سبق في الفضيلة الثالثة"(17). ويقوم هذا النوع من الإحالة بوظيفة الربط، حيث يجعل من الموضوع بنيةً مترابطة من العناصر الفرعية، مما ييسر للقارئ متابعة تناميها.
وقد تقتصر الإحالة على الإشارة إلى العنصر المُحال عليه، كما في قوله: "وما تقدم في الفضيلة الثانية عشرة في الفصل قبل هذا دليل عليه"(18).
وقد تتعداها إلى تجديد إيراده، كما في قوله: "تقدم في الفصيلة الثالثة أن الإدراك العقلي أشرف من الإدراك الحسي"(19).
ب. الإحالة الخارجية: المقصود بها كل إحالة تتخذ مرجعها من خارج المؤلَّف، بحيث تحيل على نصوص معينة عن طريق الاقتباس، والمؤلَّف على امتداده أمثلةٌ لهذا، إذ لا تكاد تخلو صفحة من اقتباس، ومن أبرز مصادره: النص القرآني والأحاديث النبوية والدواوين الشعرية، إلى جانب مؤلفات أخرى في مختلف العلوم الإسلامية العربية.
2. التقسيم:
الوصف:
ينقسم المؤلَّف إلى أربعة أبواب، تحمل العناوين التالية: في تقرير فضل العربية والحض على تعلمها، في الفضائل النقلية، في الفضائل المركبة من العقل والنقل، في نسبة العربية من العلوم ومرتبتها في التعلم، وإلى جانب هذا التقسيم العام يُلاحَظُ منذ الباب الأول أن المؤلِّف يعتمد آلية التقسيم بشكل خاص ومكثف، بحيث يفرع الأصل ويجعل للفروع فروعا، ولفروع الفروع فروعا وهكذا، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال تتبع الباب الأول من الكتاب على سبيل المثال، وسيكون أجدى الاعتماد على خطاطة توضيحية، كما يلي:
ويختتم المؤلِّفُ البابَ بخاتمة طويلة من ثلاثة فصول وعناوينها: في الفضائل العقلية، في الفضائل النقلية، في الفضائل المركبة من العقل والنقل.
وهو على امتداد الباب يضع تفريعات مختلفة تحمل عناوين من قبيل: اللطيفة، اعتراف بشهود منة، حكاية، اعتبار بعكس، نادرة، تنبيه، تعريف، انعطاف، فوائد لغوية، معارضة مدح بأصدق ثناء ومدح، تفسير غريب.
والملاحظ أن التقسيم الذي اعتمده المؤلف لمفاصل الكتاب لا يأخذ بعين الاعتبار معيار الحجم، فهو متفاوت بالمقارنة بين أبواب الكتاب، ومن أمثلته أن الباب الثالث أصغر بكثير من باقي الأبواب، كما أنه متفاوت بالمقارنة بين الأبواب وخاتمة الكتاب، فقد طالت الخاتمة حتى استغرقت ما يزيد عن ثلاثمائة صفحة من أصل ما يقارب ألف صفحة.
التحليل:
يعكس هذا التقسيم المعتمد تفكير المؤلف ومنطقه الرياضي، فهو يستعمله بشكل لافت كما تقدم، ويظهر من خلاله تأثير علم المنطق فيه. ومعلوم أن التقسيم يفيد المؤلف في تبليغ رسالته/ مؤلفه إلى القارئ بسلاسة، كما يفيد القارئَ في تمثل عناصر الموضوع بشكل واضح ودقيق. وقد أدى هذا التقسيم إلى التنظيم وهو من أهم خصائص التفكير العلمي(20).
تمثل التفريعات المختلفة التي يحمل بعضها العناوين المذكورة ما يشبه الهوامش التي تذيل بها الصفحات، وهي تضطلع بوظيفة الاستدراك في كثير من السياقات. كما أنها بمثابة تعليقات، إلا أنها كثيرا ما تطول حتى تكاد تغطي على المتن، وكثيرا ما يجنح المؤلف من خلالها إلى الاستطراد كما تَنَبَّهَ إلى ذلك المؤلِّف فقال: "وتمام النظر في هذا المقام يُخرِجُنا عن المقصود"(21)، وقال أيضا: "وقد خرجنا بنقل هذا عن المقصود"(22).
3. تقديم الجهاز المفاهيمي:
مر بنا في العرض(23) أن للمؤلَّف مقدمتين، لكل منها عناصرها الخاصة، ورغم أنهما تحملان نفس الصفة؛ المقدمة، فإنهما متمايزتان. ويبدو من ملاحظة محتوى كل منهما أن المقدمة الأولى أحق بهذه الصفة من المقدمة الثانية.
وبيان ذلك أن المقدمة الأولى تحتوي على العناصر المتعارف عليها من بسملة وعرض لموضوع الكتاب، وأقسامه ومحتوياتها، ودعاء، في حين أن المقدمة الثانية تتمحور حول مصطلح النحو وشرحه اللغوي والاصطلاحي والعلاقة بينهما، ففيها شروع في معالجة موضوع الكتاب مما يستبعد أن تكون "مقدمة" بالمعنى الاصطلاحي التداولي، وإنما يمكن أن تكون تمهيدا لموضوع الكتاب.
ويتضح لنا بناء على هذا أن المؤلِّف استعمل لفظة "المقدمة" صفةً لقسمين من مؤلَّفِه، دون أن يكون قصده التسوية بينهما، ولكن أن تُحمل المقدمة الأولى على المعنى الاصطلاحي(24)، وتُحمل المقدمة الثانية على المعنى اللغوي.
4. الاقتباس:
تطغى على متن البحث كثرة النقول، فقد استعملها المؤلف بكثافة، مما يعكس سعة اطلاعه. ولا يقتصر الأمر على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي يمتد حضورها في مختلف أقسام المؤلَّف، ولكنه يشمل أيضا الأبيات الشعرية التي تندرج ضمن موضوعات جزئية متصلة بموضوع الكتاب من قريب أو بعيد، ويمكن لهذه الأبيات إذا جُمعتْ أن تُكوِّن ديوانا نظرا لكثرتها. وإلى جانب الشعر اقتبس المؤلِّف نصوصا نثرية متعددة المصادر، إذ عادة ما كان يميل في معالجته للموضوع إلى عرض الأقوال على اختلافها قبل أن يُتبِعها بقوله الخاص حتى تكرر في كل المؤلف استعمال العبارة التالية: "قال ... قلتُ ...".
كما أنه عادة ما يُتْبِعُ المؤلف نقوله بعبارة من قبيل: "انتهى ملخصا"(25)، و"انتهى على بعض الاختصار"(26)، أو يبتدئ بها كقوله: "وملخص ما احتجوا به على ذلك أمران ..."(27).
5. أسلوب المؤلف:
يغلب على المؤلَّف الأسلوب الحجاجي الاستدلالي، وهو أمر طبيعي فقد حدد المؤلِّف أطروحة معينة يدافع عنها ويسعى إلى إثباتها، وهو بذلك في حاجة إلى الاستدلال على صحتها وعلى خطأ ما يضادها، وقد اتخذ هذا الأسلوب مظاهر عدة من أبرزها توظيف الحجج والبراهين التي تعتمد على الردود العقلية المنطقية، فكان المؤلف يبتدئ بعرض الآراء المختلفة التي تتصل بموضوع مؤلَّفه ثم يعقب عليها مكررا عبارته: "قال: ...
قلت: ..."، كما وظف أثناء هذا أساليب مختلفة، نذكر منها ما يلي:
* أسلوب التقسيم، حيث كان يورد رده مفصلا إلى أقسام تبعا لأجزاء الأطروحة النقيض، يقول: "والجواب عن الأول: أنه لا دليل فيه على المعارضة من وجهين ... والجواب عن الثاني من وجهين ..."(28).
* أسلوب الاستفهام الخارج عن معناه الحقيقي لغرض حجاجي هو الإفحام، يقول: "فإن صح ذلك فما بالهم لا يطلقون اللغة رأسا، والإعراب، ولا يقطعون بينهما وبينهم الأسباب ... وهلا سفهوا رأي محمد بن الحسن الشيباني ... وما لهم لم يتراطنوا في مجالس التدريس ... وهل انقلبوا هزأة للساخرين، وضحكة للناظرين ...؟"(29).
* أسلوب التوكيد، وهو على امتداد الكتاب، باستعمال حروف مختلفة منها: إن، أن، إنما.
6. الأخلاق العلمية للمؤلف:
يتحلى المؤلف بمجموعة من الأخلاق العلمية التي أمكننا استنباطها من مؤلَّفه، وهي ما سنأتي على ذكره وإن كانت تحضر أحيانا وتغيب أحيانا أخرى.
* قيمة الإنصاف: ويمكن التمثيل لها بقوله: "وهذا الطريق هو الأولى بالاعتماد، وفي الاستدلال عليه كفاية لمن أنصف"(30)، وقوله: "ولا يخفى ما في هذا الكلام من التحامل والانحناء على أئمة النظر، وأعلام العلماء ..."(31) ، وأيضا قوله: "حال الشيخ في بلوغه مراتب الغاية العلمية لا ينكر، ومقامه في المجاهدات العلمية من أشهر ما يعرف به ويذكر"(32).
* قيمة الانفتاح: وذلك من خلال عرض مختلف الآراء حول موضوع معين، وتتكرر على امتداد المؤلف، بل أحيانا كان يورد أشد الآراء تعصبا ويرد عليها(33).
وتظهر قيمة الإنصاف كذلك في استشهاده بمن هم من غير مذهبه المالكي، أعني المعتزلة، خاصة منهم الزمخشري، وقد أتى على ذكره في مؤلفه في غير ما موضع، وأتبع ذكره بعبارة: "سامحه الله".
3. الموازنة
يعالج المؤلَّف موضوعا أساسيا يخبر به عنوانه: منزلة العربية بين علوم الإسلام، كما يدافع عن أطروحة مفادها أن للعربية مكانة عالية من حيث هي وسيلة لغاية دينية تتمثل أساسا في فهم الكتاب والسنة. ومن تم فإن العربية تستمد قيمتها من هذا الجانب، إذ لا يكون الاشتغال بها كعلم لذاته ولكن للتوسل بها إلى غاية دينية محددة.
ومن هذا المنطلق دافع المؤلف عن علم النحو والمشتغلين به، فخص الطرف الثاني من الباب الأول من مؤلفه لـ: "الجواب عن ظاهر ما يخالف دليل فضل هذا العلم ويعارضه"(34)، فأورد أبيات هجاء قيلت في التنقيص من أهل هذا العلم، ثم أتبعها بردود حجاجية تخفف من تحاملها المطلق، لكنها لا تُسقطه جملةً، يقول: "لَمَّا كان الملح لا ينفع في الطعام إلا إن اقتصر فيه على مقدار الحاجة، وإلا لم يحصل به كمال المنفعة مع النقص من قدر الحاجة منه وأدى إلى ضرر متناوله إذا زاد منه فوق المحتاج إليه، فكذلك النحو إن ابتغي بطلبه قدر المراد منه انتفع به، وإن وقف دونه، لم يظفر منه بتمام غرض، وإن تجاوز إلى الزيادة عليه دخلت عليه الفتنة بسفه المجانين وسخافة آرائهم"(35).
وإذا كان هذا قول ابن الأزرق في مؤلفه فإن للنحوي البلاغي عبد القاهر الجرجاني قولا آخر في نفس هذا السياق، يقول متحدثا عن النحو: "وضربوا له المثل بالملح كما عرفتَ، إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين، وآراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه، لتعوذوا بالله منها، ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بها، ذاك لأنهم بإيثارهم الجهل بذلك على العلم، في معنى الصاد عن سبيل الله، والمبتغي إطفاء نور الله تعالى"(36).
وفي قول الجرجاني رد على قول ابن الأزرق، وإن كان الأول متقدما عن الثاني من حيث الفترة الزمنية التي عاشا فيها، أي القرنان الخامس والتاسع الهجريان.
وفي نفس السياق يقول الجرجاني: "وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له، وإصغارهم أمره، وتهاونهم به، فصنيعهم في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدم، وأشبه بأن يكون صدا عن كتاب الله، وعن معرفة معانيه. ذاك لأنهم لا يجدون بدا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه، إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه، لا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه، وإلا من غالط الحقائق في نفسه. وإذا كان الأمر كذلك، فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه، ولم ير أن يستقيه من مصبه، ويأخذه من معدنه، ورضي لنفسه بالنقص والكمال لها معرض، وآثر الغبينة وهو يجد إلى الربح سبيلا"(37).
تركز حديث المؤلف بخصوص أهمية تعلم العربية على الجانب الصناعي، أي ما يسمى بـ: "صناعة العربية"، ولم يعنَ بالجانب الفطري، أو ما يسمى بـ"الملَكة"، وقد اعتبر الأولى كافية لحصول شرط "السيادة" فقال: "وقد اعتبر الأستاذ أبو القاسم ابن الأبرش -رحمه الله- حصول هذه السيادة بمجرد المعرفة بصناعة العربية"(38).وفي هذا ما يوهم بأن تعلم الصناعة العربية يكفي لسلامة التعبير من اللحن، بل وفهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.
ونجد أن لابن خلدون رأيا آخر في هذا الموضوع، فهو يقدم الملكة على الصناعة، ويلح على أهمية الأولى لتعلم اللغة، إذ يقول بأن "صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهو علم كيفية لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما، ولا يحكمها عملا"(39). ويقول أيضا مقابلا بين أهل الصناعة وأهل الملكة: "نجد كثيرا من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية، المحيطين علما بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيه عن الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي، وكذا نجد كثيرا ممن يُحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئا من قوانين صناعة العربية"(40).
خاتمة:
لقد حاولنا في هذا البحث القصير أن نقدم عرضا موجزا عن مؤلف "روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام" لابن الأزرق، ونقوم بمناقشته على عدة مستويات أساسية، ونغنيه بالموازنة بين آرائه وآراء أخرى، متخذين من كل خطوة وسيلة إلى الأخرى، حتى يحصل للبحث اتساقه وانسجامه المطلوبان، وقد كان ما يشغلنا أن يتوفر هذا البحث على قدر من الشمول رغم طول متن المؤلَّف، وصعوبة تقديمه في أوراق معدودة.
ولقد أفدنا في بحثنا من مقدمة التحقيق الذي قامت به الأستاذة الفاضلة سعيدة العلمي خاصة ما أوردته من معلومات تتعلق بالمؤلّف، مما يسر لنا طريق العودة إلى سيرة ابن الأزرق في مصادرها الأولى، وقد حاولنا تجنب تكرار ما ورد في هذه المقدمة، إلا حين تطلب الأمر إضافة مفيدة، مستثمرين فوائدها بشكل أكثر عمقا.
ــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط: 6/ 2008، المجلد: 6، ص: 262.
2- روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ابن الأزرق، تحقيق: سعيدة العلمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط: 1/ 1999م، ص: 80.
3- البلاغة فنونها وأفنانها، فضل حسن عباس، عمان، دار النفائس، ط: 12/ 2009، ص: 355.
4- روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ابن الأزرق، تحقيق: سعيدة العلمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط: 1/ 1999م، ص: 80، بتصرف.
5- المرجع نفسه والصفحة.
6- فقه اللغة في الكتب العربية، عبده الراجحي، دار النهضة العربية، بيروت – لبنان، 2009م، ص: 41.
7- روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ابن الأزرق، تحقيق: سعيدة العلمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط: 1/ 1999م، ص: 478.
8- المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العرب، الأصول والامتداد، أحمد المتوكل،دار الأمان، الرباط، ط: 1/ 2006، ص: 172.
9- ص: 269.
10- ص: 96.
11- انظر مثال ذلك في الصفحة 172 من المؤلَّف.
12- ص: 175.
13- انظر ذلك في الصفحة 357.
14- ص: 170.
15- نفس الصفحة.
16- روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ابن الأزرق، تحقيق: سعيدة العلمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط: 1/ 1999م، ص: 80.
17-المرجع نفسه، ص: 194.
18- المرجع نفسه، ص: 251.
19- المرجع نفسه، ص: 189.
20- التفكير العلمي، فؤاد زكريا، عالم المعرفة، 1978، ص: 23.
21- روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ابن الأزرق، تحقيق: سعيدة العلمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط: 1/ 1999م، ص: 474.
22- المرجع نفسه، ص: 762.
23- انظر ما يتعلق بعرض مقدمتي الكتاب.
24- والمعنى اللغوي مضمر في المعنى الاصطلاحي بالضرورة.
25- ص: 278، 839.
26- ص: 843.
27- ص: 362.
28- ص: 123، 126.
29- ص: 168، 169، وانظر أيضا الصفحة: 193، 285.
30- ص: 289.
31- ص: 436.
32- ص: 780، 781.
33- ص: 290.
34- روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ابن الأزرق، تحقيق: سعيدة العلمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط: 1/ 1999م، ص: 122.
35-المرجع نفسه، ص: 129.
36- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة: 3/ 1992م، ص: 8.
37- المرجع نفسه، ص: 28.
38- روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، ابن الأزرق، تحقيق: سعيدة العلمي، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط: 1/ 1999م، ص: 187.
39- مقدمة ابن خلدون، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، ط: 1/ 2004، ص: 385.
40- المرجع والصفحة نفسها.