مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

البعد التربوي لألفية ابن مالك الطائي الجياني (الحلقة العاشرة)

9- الهمة العالية:
قال الناظم – رحمه الله تعالى -:
وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ دَلْ
  كَجِدَّ كُلَّ الْجِدِّ وَافْرَحِ الْجَذَلْ
  
*   *   *
ورد البيتُ في باب «المفعول المطلق»، ويُبين فيه ابنُ مالك – رحمه الله تعالى – بعضَ ما ينوب عن المفعول المطلق، كلفظ «كل»، والاسمِ المرادف، كـ«الجذل» الذي يرادف الفرح.

 

9- الهمة العالية:

قال الناظم – رحمه الله تعالى -:

وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ دَلْ  /// كَجِدَّ كُلَّ الْجِدِّ وَافْرَحِ الْجَذَلْ

  *   *   *

ورد البيتُ في باب «المفعول المطلق»، ويُبين فيه ابنُ مالك – رحمه الله تعالى – بعضَ ما ينوب عن المفعول المطلق، كلفظ «كل»، والاسمِ المرادف، كـ«الجذل» الذي يرادف الفرح.

ويحثُّ ابنُ مالك – رحمه الله تعالى – في هذا البيت على الجِدِّ في الطلب، والتشمير في تحصيل المُنية والأرب، وعلى التّحلي بالهمّة الباذخة، والطموح إلى المراتب السّنية والشامخة، كما يحذِّرُ طالب العلمِ مِن الهوى والكَسل، والإخلاد إلى الدَّعة والرَّاحة والملل، لما في ذلك من فوت المآرب، وضياع الأماني والمطالب، فمن خاف أدلج كما قال سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم -(1).

والجِدُّ بابُ النجاح، وسبيل الفوز والتفوق والرباح، وعلى العبد التحلي به في كل الأمور، ومجانبة التَّواني والفتور، لاسيّما في العلم الذي لا تعنُّ نواصيه إلا للجادّ، ولا تدنُو قطوفُه إلا للمُجتهد الكادّ، حتى قالوا:”الْعِلْمُ شَيْءٌ لا يُعْطِيكَ بَعْضَهُ حَتَّى تُعْطِيَهُ كُلَّكَ ، وَأَنْتَ إِذَا أَعْطَيْتَهُ كُلَّكَ مِنْ إِعْطَائِهِ الْبَعْضَ عَلَى غَرَرٍ”، وقال يحيى بن أبي كثير – رحمه الله تعالى -:”لا يُستطاع العلم براحة الجسم(2)”.

وَمَن نظر في كتب الأخبار، وتَتبَّع سير العلماء الكبار، يكتشف هممهم العلية، وعزائمهم القوية، ويقف على مكابدتهم، وكثرة تحمَّلهم ومجاهدتهم، وعلى ما كانوا يتجشمونه من الإملاق، ويكابدونه من الأهوال والمشاق، محبةً للعلم ورغبةً فيه وحرصًا عليه، حتى بالَ أحدهُم الدّم، “قال أبو مسعود عبد الرحيم الحاجي: سمعت ابن طاهر يقول: بُلتُ الدَّم في طلب الحديث مرتين، مرةً ببغداد، وأخرَى بمكّةَ، كنتُ أَمشي حافيًا في الحرّ، فلَحقني ذَلك، وَما رَكبتُ دابّةً قطُّ في طلبِ الحديث، وكنتُ أحملُ كُتبي على ظَهْري، وما سألت في حال الطلب أحدًا، كنتُ أعيش على مَا يَأْتي(3)”.

 ومن ذلك أيضاً أن “اشترى جابر بن عبد الله راحلةً ورحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد(4)، وكذلك رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن عامر بمصر من أجل حديث واحدٍ(5)، وقال سعيد بن المسيّب: كنتُ أرحل الأيامَ واللياليَ في طلبِ الحديثِ الواحدِ(6)، – رضي الله عنهم أجمعين -.

ولم يقتصر جدُّهم هذا على تحمّل النصب والعناء، بل كانوا مثلاً أعلَى في حفظ الوقت والحرص عليه، فلا يُضيعون سويعةً في اللغو والفُضول، فها هو ابنُ عقيل الحنبليّ – رحمه الله تعالى – يقول:” أنا أقصِّر بغايةِ جهدي أوقاتَ أَكلي، حتى أختارَ سفَّ الكَعك وتحسّيه بالماء على الخُبز، لأجل مابينهما من تفاوت المضْغ، توفرًا على مطالعةٍ، أو تسطيرِ فائدةٍ لم أدركها فيه(7)”،  ومثله داود الطائي الذي كان يؤثر الفتيتَ – وهو فُتات الخبز – على أكل الخبز، ويقول: بين سفِّ الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آيةً(8)، كما كان فخر الدين الرازي يقول: “والله، إنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيزٌ(9)”.

وكان النووي – رحمه الله تعالى – حريصا على وقته أشدّ الحرص، مشتغلا بالعلم ليل نهار، لا تراه “إلَّا في وظيفةٍ من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطُّرق ومجيئه يشتغل في تكرار محفوظه، أو مطالعة(10)”، وكان “لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلةً واحدةً بعدَ عشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السَّحر، وكان لا يشرب الماء المبرّد(11)”.

فهذه نبذة عما بذله العلماء وعانوه، وطرَف عما كابدوه وقاسوه، وشيء يسير من خبرهم، وغيض من فيض أخلاقهم وسيرهم، من همة عالية وعزم، وجِدٍّ بلا كلالٍ في طلب العلم، مع عناية بالوقت، وصبر على نوائب الدهور، فقد أفلح واهتدى، من بنهجهم ائتسى واقتدى.

ــــــــــــــ

الهوامش:

1. المستدرك على الصحيحين، 4/343.

2. صحيح مسلم، 2/105.

3. سير أعلام النبلاء، 19/363.

4. الرحلة في طلب الحديث، ص:110.

5. الرحلة في طلب الحديث، ص:118.

6. الرحلة في طلب الحديث، ص:127

7. ذيل طبقات الحنابلة، 1/ 145.

8. قيمة الزمن عند العلماء، ص:59-60.

9. قيمة الزمن عند العلماء، ص:66.

10. تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين، ص:64.

11. تحفة الطالبين، ص:67-68.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق