مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

رمضان شهر الفرح

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين

 أما بعد؛

فإن الفرح  والسعادة مطلب وغاية مبتغاة، وهدف منشود لكل إنسان يسعى إلى فرح قلبه، وزوال همه وغمه، وتفرق أحزانه وآلامه.

والفرح الحقيقي والسعادة العظمى المنجية من الآلام والأتراح، تحصل بالامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، وأداء فرائضه من صلاة وزكاة وصوم .

وفي هذا المقال سأتناول فرح الصائم بصيامه، وكيفية كون هذا شهر رمضان المبارك شهر فرح، فأقول وبالله التوفيق:

إن الفرح لذة وبهجة وسرور، وأفضل وأجود الفرح يكون برحمة الله وفضله، قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[1]، وقال  تعالى:  (فرحين بما آتاهم الله من فضله) [2].

وأكبر شيء أحق أن يفرح به العبد المؤمن هو فضل الله ورحمته؛ لأنه الفرح الحقيقي الجالب لكل خير ولذة، والدافع لكل شر وألم.

والفرح بالله والإيمان به، وبرسوله صلى الله عليه وسلم،  وبالقرآن، والسنة، وبالعلم يعد من أعلى مقامات العارفين، وأرفع منازل السالكين.

وضده الحزن، الذي من أعظم أسبابه الجهل بأوامر الله، واجتناب نواهيه.

وأن الفرح يكون بالتقرب إلى الله، والتذلل والخضوع إليه، وبفعل جميع أنواع الخير، والابتعاد عن الشر.

قال ابن القيم: ” والفرح بالدنو منه والزلفى لديه إلا على جسر من الذل والمسكنة، وعلى هذا قام أمر المحبة، فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك، كما قيل:

تذلل لمن تهوى لتحظى بقربه *** فكم عزة قد نالها العبد بالذل

إذا كان من تهوى عزيزا ولم تكن *** ذليلا له فاقر السلام على الوصل”[3]

هذا وإن من أهم الفرائض والطاعات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، وينال بها نصيبا من الفرح غير منقوص: الصوم، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه”[4].

قال الإمام النووي: “قال العلماء: أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه، وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها”[5].

قال ابن رجب الحنبلي:” أما فرحة الصائم عند فطره، فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم و مشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعا، فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا و الصائم عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره، فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى الله و طاعة له، ويبادر إليها في الليل تقربا إلى الله وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع له في الحالين، ولهذا نهى عن الوصال في الصيام، فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة، أو بلوغ الرضوان بذلك “[6].

وقال أيضا: ” ثم إنه ربما استجيب دعاؤه عند فطره، وعند ابن ماجه : “إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد”. وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثابا على ذلك، كما أنه إن نوى بنومه في الليل والنهار التقوي على العمل كان نومه عبادة.

ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه، لم يتوقف في معنى فرحه عند فطره؛ فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[7].

وقال ابن رجب الحنبلي:”وأما فرحه عند لقاء ربه، ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا؛ فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا)[8].

وقال  تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) [9]

وقال تعالى:  (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) [10][11]هـ.

وإن فرح الصائم بصيامه لا تفوقه فرحة وسعادة؛  لإحساسه بتحقيق السعادتين الدنيوية:  تتحقق بزوال جوعه وعطشه عند فطره، والأخروية: بنيل الجزاء الوافر عند لقاء ربه. وهكذا يعيش المؤمن يومه في رمضان  في فرح وسعادة وسرور.

اللهم أفرح قلوبنا بالإيمان، والقرآن، والسنة، والعلم، والصيام.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

***************

هوامش المقال:

[1]  سورة يونس الآية: 58

[2]  سورة آل عمران الآية: 170.

 [3]   مفتاح السعادة (1 /66)

 [4]   أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله)، رقم: (7492)(9 /143).

 [5]   المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (8 /31)

[6]   لطائف المعارف(ص: 184).

[7]  سبق توثيقها.

[8]  سورة المزمل الآية: 18.

[9]    سورة آل عمران:30.

[10]   سورة الزلزة الآية: 8.

[11]   انظر لطائف المعارف(ص: 184).

*************

جريدة المصادر والمراجع:

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط1، 1432هـ.

صحيح البخاري  لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي  تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (نسخة مصورة)، ط1، 1422هـ.

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف للحافظ بن رجب الحنبلي، ضبطها وكتب هوامشها: إبراهيم رمضان ـ سعيد اللحام، دار الكتب العلمية.

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ط2، 1392.

Science

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق