وحدة الإحياءدراسات محكمة

رعاية النسل ومقصد الاستخلاف في الاجتهاد الأصولي

وجهت الشريعة الإسلامية عناية مجتمعها إلى رعاية النسل وضمان التناسل وفق الشروط المطلوبة شرعا، فتكفلت بعدد من حقوق الرعاية التي تضمن النماء المعقول والتكاثر المتوازن للنسل، ثم ربطت هذه الحقوق بحجم المعاملات التي يقدمها النسل لأمته ومجتمعه. فكان النسل المرغوب فيه هو النسل النافع، الذي يخدم المجتمع ويقوم بمسؤولياته، بل هو عين المجتمع؛ لأنه يمثل الذرية، والعقب، الذي هو خليفة الله في الأرض الذي من أجله كان تبرير خلق النسل في الأرض كما ذكر القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَليفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فيِهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّْي أَعْلَمُ مَا لا َتعَلَمُونَ﴾ (البقرة: 29). ويفهم من ذلك أن حقوق الرعاية تتصل بمقصد الاستخلاف المشروع، المبني على ضمان العبودية لله في الأرض بسلام واطمئنان، ثم ضمان استقرار النسل بعيدا عن أي إفساد أو اعتداء، أو سفك للدماء، أو إساءة إلى حرمة الخلق بأي نوع من أنواع الإساءات المادية والمعنوية.

لذلك يمثل موضوع الرعاية وأثرها في مقصد الاستخلاف، مسألة أساسية جديرة بالبحث في علم الأصول؛ بالنظر إلى حجم المستجدات التي يشهدها المجتمع الإسلامي المعاصر. وقد أبانت القواعد الأصولية المستنبطة التي اعتمدت في هذا الموضوع عن تصور استقرائي مفيد، خصوصا في موضوع التناسل والمناكحات الذي هو السبب المباشر في توازن الوجود؛ لأن بانقطاع النسل، كما يقول الأصوليون، يرتفع النوع الإنساني[1].

 كما قرروا، من خلال هذه القواعد، بأن مقصد الشارع من الاستخلاف ينصرف ابتداءً إلى رفع الضرر عن الخلق، وجلب المنافع الدنيوية، والأخروية، كما يقول الشاطبي:لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات، والتحسينيات، وكانت هذه الوجوه مبثوثة، في أبواب الشريعة، وأدلتها غير مختصة بمحل، ولا بباب، ولا بقاعدة دون قاعدة، كان النظر الشرعي فيها أيضاً عاماً لا يختص بجزئية دون أخرى؛ لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها[2].”

فالرعاية الاجتماعية الشاملة للنسل، تحتاج إلى أن يكون المجتمع واعيا بفقه كليات النسل وفهم خصوصياته وتوازناته في إطار النمو الحضاري وليس فقط في جانب العبء الحضاري، لذلك فإن توجيه النسل وتقويم بيئته كفيلان بخلق نظرية للتأمل في فقه النفس ما لها وما عليها[3]. كما أن ضابط الاجتهاد في موضوع النسل يجب أن ينبثق من عمق الشريعة الإسلامية في استلهام الضوابط التي تقدم الآليات السليمة للفاعلين التربويين والنشطاء الحقوقيين في مجال النسل، الذين يحاولون تقديم البدائل الحضارية الملائمة لرعاية النسل، في ظل ما يطرأ في العصر الحديث من نوازل ومستجدات.

1. مفهوم النسل ودلالاته اللغوية

أطلق اللغويون مفهوم النسل على الولد، سواء أكان من إنسان أو حيوان، كما أطلقوا معناه على مفهوم الحمل، فجاء في لسان العرب: “النسل الخلق، والنسل الولد والذرية والجمع أنسال، وكذلك النَّسِيلةُ، وقد نَسَلَ يَنْسِل نَسلا وأنسَل وتناسلوا أنسل بعضهم بعضا، وتناسل بنو فلان إذا كثر أولادهم وتناسلوا؛ أي ولد بعضهم من بعض، ونسَلت الناقة بولد كثير تنسُل بالضم قال ابن بري يقال نسَل الوالد ولده نَسْلاً وأنسَل لغة فيه[4].”

فإذا كان مصطلح النسل يتصل بمعنى النماء والتكاثر كما أشار النص إلى ذلك، فإنه يتصل كذلك بكل ما تحصل به المنفعة والاستثمار في جوانبهما المتعددة في الحياة. فيقال: “نسلت الناقة بولد كثير الوبر، وفي حديث وفد عبد القيس إنما كانت عندنا حصبة تعلفها الإبل فنسلناها؛ أي استثمرناها وأخذنا نسلها[5].” كما يعبر مفهوم النسل في وضعه اللغوي عن مصلحة التكاثر والنمو في الأشياء المخلوقة التي من أوصافها الحركة والتحول. ولذلك، جاءت دلالاته لتدل على معنى السرعة في المشي والخفة في التحول: “نَسَلَ الماشي يَنْسِل ويَنْسُلُ من حَدَّيْ ضرب ونصر نَسْلاً بالفتح ونَسَلاً ونَسَلاَناً بالتحريك فيهما… ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهِم يَنْسِلُون﴾، قال أبو إسحاق: أي يخرجون بسرعة. وفي الحديث: أنهم شكوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الضعف فقال: “عليكم بالنسل” قال ابن الأعرابي: وهو الإسراع في المشي. وفي حديث آخر: أنهم شكوا الإعياء فقال: عليكم بالنَّسَلان وقيل: فأمرهم أن يَنْسِلُوا؛ أي يسرعوا في المشي وفي حديث لقمان: إذا سعى القوم نسل؛ أي إذا عدوا لغارة أو مخافة أسرع[6].”
كما استعمل العرب مجازا مفهوم النسل ليفيد معنى النماء وذلك من خلال دلالة مصدر التناسل الذي يفيد معنى إخراج الشيء من الشيء ونسله عنه. فجاء في قول الشاعر:

نسلان الذئب أمسى قاربا           برد الليل عليه نسل[7]

فأصل النسلان للذئب وهو سرعة عدوه كنسول الريش وهو مجاز.

ومن عجائب الاستدلال بمصطلح النسل في اللغة العربية؛ أنه يأتي للدلالة على نجاعة الإنتاج بجميع الصيغ الاشتقاقية الممكنة وصفا وحالا، زمانا ومكانا. فقد استدل به الأدباء مثلا للدلالة على المكان المنتج المنهمر كأن يدل على الوادي، كما يقول الشاعر:

أعاشني بعدك واد مبقل             آكل من حوذانه وأنسل[8]

وفي أسماء الأمكنة نجد واديا من أودية الطائف يسمى بالنسل. كما تطلق النسيلة أوالنسيل ليراد بها الحلاوة التي تنتج من الشيء؛ فالنسيلة العسل إذا ذاب وفارق الشمع. والنسل محركة اللبن يخرج من التين الأخضر. والنسولة ما يتخذ للحلوبة والركوبة على سبيل المجاز.

ومن دلالة نشاط مفهوم النسل في اللغة أن نجد له أمثلة مضروبة وحكما مصوغة[9]، فيقال مثلا في باب النسل: رجل عسال نسال؛ أي سريع العدو. و”فلان ينسل الوديقة ويحمي الحقيقة.” كما نجد له مرادفات تحمل هذا المعنى مثل: الطَّيْسُ الذي يعني النسل الكثير والوَشِيُّ الذي يحمل المعنى نفسه، والنَّجْل الذي يعني النسل. وهكذا يدل التحديد اللغوي بجميع معانيه على أن النسل يفيد النماء والزيادة النافعة في الأشياء.

2. مفهوم النسل في الاصطلاح الأصولي

اهتم الأصوليون بموضوع النسل وخصوا مفهومه بدراسات واجتهادات هامة، تناولت قضاياه المختلفة في أبواب متخصصة منها ما يتصل بباب المقاصد، ومنها ما يتصل بباب المعاملات كالحدود والوقف والزكاة والرهن والغصب والدية. ويلاحظ في هذه الأبواب اهتمام الأصوليين وعنايتهم الخاصة بدقائق النسل وما يتصل بموضوعه من الأسباب الشرعية التي تضمن بقاءه ورعايته في الوجود. ولأجل ذلك، وضعوا قواعد وضوابط مستنبطة للحفاظ على ضرورته، ورعاية دوامه وسلامته في المجتمع الإسلامي. لكن الباحث في عرض الأصوليين لموضوع النسل يجد بأن موضوع الرعاية في النسل أخذ أبعادا مهمة؛ بحيث ربطوه بعدد من المصطلحات الأساسية التي تمثل أسبابا شرعية؛ يمكن استثمارها في الوضع الاجتماعي المعاصر، باعتباره يتصل بالمقاصد وبفقه المعاملات وبالواقع الإنساني للنسل.

فقد عمدوا أولا إلى تقريب فهم الناس من موضوع النسل وأحكامه، عن طريق بيان مقاصده الشرعية التي تبنى عليها مصالح الناس، التي هي أصل لكل نماء ومنفعة، ثم تطرقوا إلى بيان رعاية النسل عن طريق علاقته بعدد من المصطلحات منها؛ الضرورة، والمناسبة، والعلة، والمناسب وغيرها، فكان تحديدهم لمفهوم النسل لا يبتعد عما أشار إليه اللغويون في معناه العام الذي يفيد التكاثر والنماء في كل شيء. “وهو الدر والنسل والسمن في الإِسَامَة وزيادة المال في التجارة.. والنسل في الحيوان يحصل بِسَوْمِها في المرعى وسَفادِها، وزيادة المال في أموال التجارة يحصل بكثرة رغبات الناس وتغير الأسعار الحادث بخلق الله تعالى[10].”

لكن ما يميز تحليل الأصوليين، أنهم ربطوا مصلحة النسل بتوجيهه نحو البناء الهادف، والنماء المفيد للمجتمع والوطن في جميع الأمور التي تتوقف عليها المصلحة العامة؛ التي بانقطاعها تضمحل الحياة وتقل فاعليتها زمانا ومكانا. ولهذا السبب، ربطوا ظروف النماء بالزمن الذي يتضمن الحيوية والنشاط في أصل الأشياء. وقد لخص الأصوليون هذه الإشارات اللطيفة بقولهم: “(طريقه)؛ أي النماء، إقامة للسبب المؤدي إلى الشيء مقام ذلك الشيء؛ لأن الحول مشتمل على الفصول الأربعة التي لها تأثير في النماء بالدر والنسل، وزيادة القيمة بتفاوت الرغبات في شراء ما يناسب كل فصل. فصار الحول شرطا، وتجدده تجدد للنماء، وتجدد النماء تجدد للمال الذي هو السبب[11].”

كما أدرك الأصوليون الأهمية المنوطة بالنسل في الوجود، فألحقوه بالمقاصد الضرورية التي تعني الأصول التي من أجلها شرع الحكم. فإن اختلفوا في ترتيب العناصر الخمسة المشهورة بالضروريات بعد طول الاستقراء للنصوص الشرعية المبنية على مصالح الناس في الدين والدنيا، فإنهم لم يختلفوا في عددها وأهميتها في ضبط مصالح الناس وتنميتها. فكان النسل أو العرض أو النسب حسب إطلاقاته الأصولية، من الضروريات التي يندرج ضمنها تقدم ونهضة الأمم والشعوب. يقول الآمدي: “فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية فإما أن يكون أصلا، أو لا يكون أصلا. فإن كان أصلا؛ فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات، وهي أعلى مراتب المناسبات[12].” كما أكد الشاطبي المعنى نفسه بقوله: “فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد[13].”

فالنسل وفق هذا التحديد باعتباره ضرورة من ضروريات الحياة يهم الملل والنحل، ويعني الأمم في نماء حضاراتها واستخلافها في الأرض. فهو ضرورة تجب صيانتها ورعايتها في الوجود، كما تجب العناية بكل ما يناسب أحوالها في الدين والدنيا. لذلك قرن الأصوليون النسل في مسألة التأثير والعلة بمصطلحي المناسب والمناسبة؛ وهي من التحديدات الدقيقة التي تصب في مجاريها مصلحة الشرع التي تعنى بمستوى الاعتدال والتوازن الخلقي الذي يصون نماء النسل. وهذا الجانب، يعتبر من الجوانب الأساسية التي يمكن للاجتهاد الفقهي الحالي أن يستثمرها في المقارنات التي تهم التأصيل والتجديد في موضوع النسل. وإلى هذا المعنى أشار سراج الدين الأرموي إلى طبيعة مفهوم المناسب وأنواعه في إطار المصلحة بقوله: “المناسب إما حقيقي أو إقناعي، والحقيقي إما لمصلحة دنيوية أو دينية، والدنيوية إما في محل الضرورة أو الحاجة أو لا أحدهما، الأول: حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل[14].”

فقد اعتمد الأصوليون السبب الذي يربط بين مصطلح المناسب والنسل، في قياس حجم المنفعة والمضرة التي تترتب على حفظ أو إتلاف ضرورة من الضروريات المذكورة في علاقتها بالنسل؛ أي النظر إلى النسل في بعده الإنساني وما يلائمه في الوجود. ولذلك عرفوا المناسبة بملاءمة أفعال العقلاء للعادات، يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة، ومن يعللها يعرفها بجلب المنفعة ودفع المضرة[15]“؛ أي أن الله تعالى خلق النسل ويعرف ما يناسبه من أحكام في الدين والدنيا معا، كما أن الله تعالى وهو العالم بأحوال النسل تكفل بكل ما يناسب بيئته التي يعيش فيها، ومحيطه الاجتماعي الذي يليق بتنشئته وتربيته.

أما علاقة النسل بمصطلح العلة، فلكونها وصفا ضابطا يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع، وهذه الحكمة تدل عليها المناسبة؛ التي تفيد بالنسبة للنسل أن الله شرع جميع أحكامه لعلة الرعاية لمصالحه ومقاصده[16].” فيكون الحكم مقترناً بوصف مناسب، يترتب بناء الحكم عليه مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة، أو دفع مضرة، فالمناسبة ترجع إلى رعاية المقاصد. كالزنا فإنه مناسب للتحريم؛ لأن منع الزنا فيه مصلحة حفظ الأنساب وعدم ضياعها، أو دفع مفسدة وهي اختلاط الأنساب وعدم التمييز بين الأولاد. وقد عرفه ابن الحاجب بقوله: “وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من جلب منفعة، أو دفع مضرة[17].”

وهذه المصلحة التي تدل عليها المناسبة لها أحوال ومقتضيات يجب على الناس أن يفقهوا أمرها في الدين ومقتضياتها في الوجود الإنساني في كل زمان ومكان. وقد أشار الأرموي إلى بعضها في الوصف الآتي: تخصيص الواقعة بالحكم المعين بمرجح عائد على العبد، أنه تعالى حكيم، والحكيم من يفعل لمصلحة؛ إذ الفعل لا لمصلحة عبث، أنه خلق الآدمي مكرما، أنه تعالى رءوف رحيم[18].

ومن ضوابط المناسبة كما قال الشنقيطي: “المناسبة والإخالة عند الأصوليين: هو أن يقترن وصف مناسب بحكم في نص من نصوص الشرع، ويكون ذلك الوصف سالماً من القوادح، ويقوم دليل على استقلاله بالمناسبة دون غيره، فيعلم أنه علة ذلك الحكم[19].” فالله تعالى خلق النسل ويعرف ما يناسبه من أوضاع، حتى بالنسبة للزكاة في الماشية التي هي من النسل، ميز بين مراتبها ومناسباتها في الاستحقاق وفصل مناسبتها تفصيلا محكما؛ بحيث بين عللها وأسبابها المناسبة، يقول ابن القيم: “والفرق بين الخيل والإبل أن الخيل تراد لغير ما تراد له الإبل؛ فإن الإبل تراد للدر والنسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد. وأما الخيل، فإنما خلقت للكر والفر والطلب والهرب وإقامة الدين وجهاد أعدائه، وللشارع قصد أكيد في اقتنائها، وحفظها والقيام عليها وترغيب النفوس في ذلك بكل طريق؛ ولذلك عفا عن أخذ الصدقة منها[20].

فأظهرت المصلحة في باب المعاملات، أن الزكاة التي تعني النمو والزيادة، أن بقاء هذا النوع من النسل خلقه الله لمصلحة، وأن كل شيء منها لأمر يناسبه. “وأن الإنسان كالمالك المخول فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه؛ فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط، ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط، ومنها ما هو للجمال والزينة، ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء؛ ففيها عبرة للناظرين وآيات للمتوسمين. وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها، وألوانها ومقاديرها ومنافعها وأصواتها صافات وقابضات وغاديات ورائحات ومقيمات وظاعنات أعظم عبرة وأبين دلالة على حكمة الخلاق العليم. وكل ما أوجده الناس وأولوه بالا بالأفكار الطويلة[21].”

فكانت مصطلحات المناسب والعلة والمناسبة والضرورة كلها مصطلحات استعملها الأصوليون في علاقتها بالنسل لرعاية مقصد الاستخلاف الذي ربطه الشارع برعاية النسل ورعاية بيئته الاجتماعية والمعيشية بصفة عامة. ويستوجب هذا المقصد الحفاظ على أنواع النسل بنمائها، وأن يهيئ لها أسباب الوجود بتكاثرها، وأن يجعلها محل الاعتبار الذي يدل على عبادته في الأرض ليضمن استمرار رسالة التعبد التي من أجلها خلقت الأنسال في أشكالها المتعددة وضمنها الإنسان. ولأجل هذه الأسباب، اهتم الأصوليون بوضع قواعد أصولية تشير إلى مقصد الاستخلاف وعلاقته برعاية النسل في الوجود الإنساني، ونذكر منها:

أ. القاعدة الأولى: شرع في الأنكحة للنسل ما لم يشرع في المعاملات

أكد الأصوليون، من خلال هذه القاعدة، على أن رسالة الله إلى خلقه الذي هو النسل المقصود بالاستخلاف تدعو إلى البقاء والصلاح، وتدعو إلى الرعاية والتكافل والتآزر. يقول العز بن عبد السلام: “لما علم سبحانه مسيس الحاجات إلى المناكحات شرع الأنكحة لتحصيل مقاصدها من المودة، والرحمة، وكثرة النسل، والتعاضد، والتناصر، وشرع في الأنكحة بما لم يشرعه في غيرها من المعاملات[22].”

فقد أشار النص إلى طبيعة المعاملات الاجتماعية والخلقية الضرورية التي تترتب على المناكحات التي هي سبب في النسل من جهة، ثم إنها مقصد أساسي تتوقف عليه المصالح العليا للأمة. وبناء على ذلك، تتحقق المطالب الأساسية التي هي التعاضد، والتناصر، وهي من الأمور الهامة التي رعت الشريعة من خلالها مبدأ التوالد، ودعت إلى حمايته عن طريق مبدأ التوازن في رعاية حقوقه التي تضمن له البقاء وحسن الاستمرار.

وقد اعتمد الأصوليون في هذا الإطار، على منطق القاعدة السابقة في الدلالة على الأسباب التي تضمن رعاية هذا التوازن في مجالها العام، إلى جانب باقي المصالح التي تنظم وجود النسل في المشروعات. فذكر الزنجاني في كتابه (تخريج الفروع على الأصول) أن: “المشروعات أصلها حسن عند أهل الرأي؛ لأن العبادات إظهار العبودية والخضوع لله تعالى، وتعظيم الخالق، وشكر المنعم. والمعاملات سبب لإقامة المصالح وقطع المنازعات. والمناكحات سبب للتناسل، والتكاثر من العباد والعباد والعقوبات والحدود، سبب لاستبقاء الأنفس والعقول والأديان والأبضاع والأموال[23].”

كما أكد السرخسي في كتابه (أصول السرخسي)، مقصد هذه القاعدة في موضوع التناسل وعلاقته بالمعاملات، فقرر أن السبب المشروع من المعاملات هو تعلق البقاء المقدور بتعاطيها[24]. وقد وضح أصول هذه القاعدة بقوله: “بيان ذلك أن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة، وهذا البقاء إنما يكون ببقاء الجنس وبقاء النفس، فبقاء الجنس بالتناسل، والتناسل بإتيان الذكور الإناث في موضع الحرث، والإنسان هو المقصود بذلك، فشرع لذلك التناسل طريقا لا فساد فيه ولا ضياع[25].”

ويفهم من مبدأ هذه القاعدة؛ أن بقاء العالم مرهون بمقصد الاستخلاف وهو بقاء النسل في توازن وانسجام، وكلما كان النسل صالحا كلما تحسنت أوضاع العالم وحافظ على نظامه الأكمل. “والسبب لشرعية المعاملات من بيع ونكاح وغيرهما؛ البقاء للعالم على النظام الأكمل، إلى الوقت المقدر بقاؤه إليه. فإن الله سبحانه قدر لهذا النظام المنوط بنوع الإنسان بقاء إلى قيام الساعة؛ وهو مبني على حفظ الأشخاص؛ إذ بها بقاء النوع[26].”

فقد استقرأ الأصوليون من خلال هذه القاعدة أوضاع النسل ومتطلباته الخاصة في أمر الاستخلاف الذي يتوقف عليه الوضع الاجتماعي، الذي يحتاج إلى الرعاية بتحقيق المعاونة والمشاركة إلى جانب التناصر والتعاضد الذي سبق ذكرهما، ولذلك قرر الأصوليون، بشأن القاعدة السابقة، سُلَّما حجاجيا تراتبيا ومنطقيا يظهر من خلاله حجم الرعاية التي أولتها الشريعة الإسلامية لمسألة استخلاف النسل وتعهده بالرعاية، فجاءت قيم الرعاية مرتبة بحسب الوصف الآتي: أن الإنسان الذي يمثل النسل الإنساني يحتاج إلى بقاء، أن البقاء يحتاج إلى استقرار اجتماعي، أن الاستقرار الاجتماعي يحتاج إلى تعاون ومشاركة، أن التعاون والمشاركة يحتاجان إلى التوالد والتناسل، أن التوالد والتناسل يحتاجان إلى نظام وحماية.

وهذه القيم نجدها مفصلة فيما أشار إليه الأصوليون بوضوح فيما يمكن أن نعتبره أصولا نظرية للرعاية الاجتماعية للنسل، حيث يقول عنها ابن أمير الحاج في كتابه (التقرير والتحبير): “الإنسان لفرط اعتدال مزاجه يفتقر في البقاء إلى أمور صناعية في الغذاء، واللباس، والمسكن، ونحو ذلك. وهي لعدم استقلال كل فرد بها وعدم تهيئها له يفتقر إلى معاونة، ومشاركة فيها من أفراد النوع ثم يحتاج للتوالد والتناسل إلى ازدواج بين الذكور والإناث وقيام بالمصالح. وكل من هذه الأمور يفتقر إلى أصول كلية مقررة من الشارع، تندرج تحتها الأحكام الجزئية المتعلقة بمصالح المعاش، والمعاد ليحفظ بها العدل والنظام بينهم في باب المناكحات المتعلقة ببقاء النوع، والمبايعات المتعلقة ببقاء الشخص؛ إذ كل أحد يشتهي ما يلائمه ويغضب على من يزاحمه فيقع الجور، ويختل النظام وهي المعاملات[27].”

ب. القاعدة الثانية: كون مقاصد النسل دالة بالتبع لا ينفى كونها دالة بالقصد

تقرر هذه القاعدة المستنبطة من اجتهاد الأصوليين؛ بأن مبدأ انسجام النسل مع الفطرة الكونية يقتضي عدم إهمال فهم مقصد المعاشرة الزوجية، لما قد يترتب عنه من سوء فهم المقصد الشرعي من الحياة، ويعني ذلك أن النظرة للنسل على أنه شيء زائد غير مرغوب فيه أو جاء بمحض الصدفة من غير أن يقصده الزوجان في عملية النكاح، هو تجاهل لمبدإ النسل وشرط وجوده. وذلك لأن رعاية النسل تتصل بالعفة بقضاء الوطر كما يذهب الأصوليون إلى ذلك، لكن العفة والوطر وما يتبعهما من شهوة تعتبر مقصدا تابعا وأن النسل الذي يعقبها مقصد أصلي، وهو سر أساسي في توجيه المقاصد وفهم ترتيب مصالح النكاح كما يقول الشاطبي: “لا يقال إن كونها دالة بالتبع لا ينفى كونها دالة بالقصد، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية إنها مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة، والجميع مقصود للشارع، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية[28].”

كما أشار الماوردي إلى طبيعة انسجام النسل مع الفطرة في القاعدة السابقة فقال: “والأصل فيه أن الله تعالى خلق الحيوان ذكورا وإناثا جمع بينهما في الشبه ليأنس الذكر بالإناث، وفرق بينهما في آلة التناسل فجعل للرجل ذكرا، وللمرأة فرجا ليجتمعا على الغشيان بما ركبه في طباعهما من شهوة الاجتماع فيمتزج البنيان في قرار الرحم، وهو محل العلوق ليحفظ بالتناسل بقاء الخلق[29].”

فإذا كان الله، عز وجل، قد خلق النسل في أحسن تقويم، وجعله محبوبا، ثم خلق له أوضاع التناسل التي تنسجم مع الفطرة السليمة في الوجود، فإن رعايته بخلق الغرائز الفطرية من شهوات تلائم طبيعة خلقه، هي من عجائب الله المستورة في أعماق الروح البشرية التي خلقها لغاية ومقصد؛ وهو حصول اللذات العقلية والجسدية التي تستقيم بهما الحياة البشرية، وتتعزز بهما الحلاوة في الأشياء وبها يدوم الاستخلاف. وقد عبر ابن سينا عن هذا المقصد بقوله: “كل مستلذ به فهو سبب كمال يحصل للمدرك هو بالقياس إليه خير، ثم لا يشك أن الكمالات وإدراكاتها متفاوتة؛ فكمال الشهوة، مثلا، أن يتكيف العضو الذاتي بكيفية الحلاوة مأخوذة عن مادتها ولو وقع مثل ذلك لا عن سبب خارج كانت اللذة قائمة وكذلك الملموس والمشموم ونحوهما[30].”

لكن مقصد العفة والشهوة ما هو إلا مقصد تابع في استخلاف النسل عند الأصوليين؛ لكونه يتصل برعاية الاستقرار النفسي الذي يجب أن يكون عليه الزوجان في حياتهما العادية. كما يقول الرازي: “مصلحة الشهوة الفرجية هي بقاء النوع بتوليد الشخص، وهذه المصلحة لا تحصل إلا بوجود الولد، وبقائه بعد الأب، فإنه لو وجد ومات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأول[31].”

فمقصد الشهوة بالنسبة للجنس البشري تابع لا ينبغي أن يكون أصلا عوض الإيجاد الذي هو النسل؛ أي الولد الذي هو أساس الشهوة وخلاصتها. ولهذا الغرض شرع نظام الزواج وفقا للأسس والقواعد التي تحمي الجنس البشري في نعمة التوالد التي يترتب عليها الاستقرار وتعمير الأرض، وضمان الاستقرار المنسجم مع كل الأزمنة والعصور؛ “فالشهوة والولد مقدران وبينهما ارتباط، وليس يجوز أن يقال المقصود اللذة، والولد لازم منها كما يلزم قضاء الحاجة من الأكل، وليس مقصودا في ذاته؛ بل الولد هو المقصود بالفطرة والحكمة والشهوة باعثة عليه[32].” ويترتب عن ذلك أن الحفاظ على الفطرة بمقتضياتها المذكورة تستدعي الاعتبار واستيعاب التحذير من الإفراط غير المعقول في تذويب الفطرة الإنسانية في جرم الهوى الفاحش، الذي لا ضوابط له في عالم الماديات المتنامية المهددة لحياة النسل وأخلاقه.

فوعي المكلف بالمقاصد التابعة والمقاصد الأصلية تمكنه من الحفاظ على التوازن الفطري فيما يتصل بالنكاح، كما تعينه على فهم الأحكام التي تربط تصرفاته وجميع أعماله بعبودية الله ومرضاته. فإنجاب النسل ورعايته ليست شيئا زائدا، بل هو عبادة، لا تتوقف نيتها على قضاء الوطر الذي هو جزء منها، بل تتجاوزه إلى الاستخلاف وتعمير الأرض. وكلما اتحدت المقاصد واتجهت إلى المصلحة العليا كلما تعززت النتيجة فكان الوطر مأجورا، وما يخرج من الصلب نسلا محمودا. وهو ما يشير إليه الشاطبي في قوله: “إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا من حيث كان مؤكد للمقصود الأصلي من النكاح وهو النسل، فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع.

فكذلك نقول في مسألتنا: إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى؛ وما دلت عليه هو المعنى الأصلي. فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي وهو المطلوب[33].”

وقد أولى الأصوليون عناية كبيرة لفقه القاعدة السابقة من خلال بيانهم لمعنى الأصلي، والتبعي في المصالح، وتوجيه وعي المكلفين إلى الفهم الصحيح الذي يجب أن تتجه إليه العقول في أمر النسل وعلاقته بالتعمير الصالح للأرض. فوجهوا الاهتمام إلى إدراك ما هو أولى بالعناية؛ فقدموا في ذلك وجهات نظر مبسطة لإزالة اللبس الذي يمكن أن يقع فيه المكلف بشأن الضروريات وما يتبعها. ففي موضوع النسل، وجهوا عناية المكلف إلى أن الغرض من النكاح هو إيجاد النسل، وأن ما يلازم هذا المقصد من جميع وسائل اللذة وما يتصل بها من قضاء الوطر، كل ذلك تابع ينبغي توجيهه نحو المقصد الأصلي الذي يحتاج إليه المجتمع الإسلامي. وأن المقصد له وضع معروف في الشرع لا يمكن الخروج عنه، وذلك حتى لا يتخذ ما هو تابع حكم ما هو أصلي.

ولأجل مزيد من توضيح معطيات القاعدة الأصولية السابقة وضح الإمام الشاطبي الأبعاد النظرية لهذه القاعدة في كتابه: (الموافقات في أصول الشريعة)، فقال: “إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي. فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعى زيادة على المعنى الأصلي وهو المطلوب. وأيضا فإن بين المسألتين فرقا، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات؛ لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم وقضاء أوطارهم ورفع الحرج عنهم. وإذا دخل تحت أصل الحاجيات صح إفراده بالقصد من هذه الجهة ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية، بخلاف مسألتنا فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكد للأولى؛ لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد، فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره، والثالث أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضى أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة، فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها وذلك غير صحيح ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى، فيكون استفاده الحكم من جهتها[34].”

ويفهم من كلام الشاطبي أن موضوع المعنى الأصلي والتبعي في القاعدة المذكورة بخصوص مقاصد النسل؛ ينبغي أن يفهم في إطاره الاجتماعي، وهو أن قضاء الوطر يدخل في المجال الحاجي؛ أي التبعي الذي تتوقف عليه حاجات الناس، وأن المقصد الضروري والأصلي هو النسل أو الولد؛ الذي تتوقف عليه حياة الأمة في بنائها ونمائها الحضاري. وكلما فقه العبد المكلف التمييز بين الحاجي والضروري في موضوع النسل وغيره، كلما تولد عنده الشعور بإدراك المصالح وأولويتها في الوجود، وبالتالي يدرك دوره الاجتماعي ومعنى وجوده الذي هو مقصد الاستخلاف وتعمير الأرض بما ينفع الأمة. “فإن بين المسألتين فرقا وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات، فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات؛ لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم وقضاء أوطارهم ورفع الحرج عنهم، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات صح إفراده بالقصد من هذه الجهة[35].”

وكأن صيانة النسل تقتضي من المكلف أن تتجه مقاصده وهو يحرص على مصلحة الوجود بالمناكحة أن تكون عنده نية الاستخلاف وهو يباشر لذة النكاح وشهوته، فتتجه عنايته إلى النسل الذي هو السبب في إيجاده. ولطالما حجبت الشهوة واللذة الإنسان أثناء المعاشرة بالجماع عن إدراك هذا المقصد الذي نبهت إليه السنة النبوية الكريمة في آداب الجماع وهي اللحظة التي تؤسس بداية التكون للنسل الصالح الذي تراهن عليه الأمة في بناء القيم والأخلاق الحضارية.

ج. القاعدة الثالثة: كل فاسد الوضع فاسد الاعتبار من غير عكس

أشار الأصوليون في هذه القاعدة الهامة التي يمكن استثمارها في مجال النسل ومقصد الاستخلاف، إلى أن ما يقيسه الناس من أفعال ومعاملات على رأي الآخر ولو كان فاسدا يعتبرونه صالحا وهو ما أطلقوا عليه “فساد الوضع والاعتبار”. ومن جملة ما قرروه في هذا الجانب، أن كل فاسد الوضع فهو فاسد الاعتبار أصلا، ومن جملة ما ذكروه أن: “فساد الاعتبار من جهة عدم اعتباره فقط، وذلك لأنه لا يمكن اعتبار القياس في ترتيب الحكم عليه، لا لفساد في وضعه وتركيبه وهو أن لا يكون على الهيئة الحاصلة لاعتباره في ترتيب الحكم عليه لصحته، بل لمخالفته النص فقط. فعلى هذا، كل فاسد الوضع فاسد الاعتبار من غير عكس؛ فيكون فاسد الوضع أخص مطلقا من فاسد الاعتبار وهو ظاهر كلام الآمدي وقيل هما واحد، وعليه أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين[36].”

وهم يقصدون بذلك أن الله تعالى خلق للعباد مصالح وجعل لهذه المصالح عللا باعتبار الأمر والنهي، ثم ربط الأسباب بمسبباتها؛ أي لماذا أمر بهذا الفعل ولماذا نهى عن الآخر؟ وتكون العلة في هذه الأوضاع إما معلومة أو غير معلومة؛ فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد أو عدمه. فمثلا؛ علة وجود النكاح لمصلحة التناسل وبقاء النوع، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، والحدود لمصلحة الازدجار.

وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه، فإذا تعينت، علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه ومن التسبب أو عدمه، وإن كانت غير معلومة فلابد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا. إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر أحدهما: أن لا نتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين؛ لأن التعدي مع الجهل بالعلة كالحكم من غير دليل، وضلال على غير سبيل. والثاني: أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي؛ لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي؛ إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ووضع له مسلكا، فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع[37].

فهذه الإشارات الأصولية تدل على أن الاجتهاد في النوازل الطارئة وضمنها فقه النسل مطلوب في الأمة ويحتاج إلى فقهاء يفهمون مسالك العلل، ويدركون قصد الشارع من وضعها، اعتبارا بأن أقضية الناس في تجدد مستمر، وأن المجتمعات الإسلامية تعرف ظواهر اجتماعية مستحدثة بسبب تأثير الأمم الأخرى. وحينما لا يجد الناس اجتهادا فقهيا معينا يبصرهم بآفات الخروج عن المقصد من النسل وتذكيرهم بأصول الفطرة، فإن هناك عادات باطلة ستستحدث، وطوارئ اجتماعية ستعصف بالسلوك الإنساني حسب رغبات العصر وما يعج به من إكراهات غريزية توجه النسل حسب هواها.

ومن أخطر ما يدب إليه الابتداع في هذا المجال موضوع النكاح الذي يرتبط بالنسل بشكل مباشر، الذي عرف عدة نوازل منذ العصر الجاهلي، حيث خروج الناس عن مدار الفطرة إلى طقوس جامحة تخضع لهوى النفس. وأخطر النوازل ما وقعت نوازلها مخالفة لأصول الدين الذي تدين به الأمة، حيث يعتقد الناس أنها مدار الصلاح وأنها نوع من المنفعة، وما هي إلا اعتبار فاسد وأنها “أصول لهم فاسدة، اعتقدوها وبنوا عليها أعمالهم، ومنه ما يقع في النسل كما في أنكحة الجاهلية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم، عليه السلام، ولا غيره، بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا وهي أنواع منها نكاح الاستبضاع، وهو أن يقول الرجل لامرأته: إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب[38].

فالقاعدة الأصولية “كل فاسد الوضع فاسد الاعتبار من غير عكس” تحذر من الابتداع المحرم في مجال النسل الذي يؤدي إلى قطع شجرة الأنساب من أصولها الثابتة التي يتفرع عنها النسل النافع. ولا غرابة أن تكون من نوازل هذا العصر، أن تظهر عدد من الأنكحة التي تعددت ألقابها وقوالبها تحتاج إلى نظر من قبل المجامع الفقهية والعلمية رعيا لتطور رغبات الناس ومصالحهم في المجتمع الإسلامي.

فلا غنى للمجتمع الإسلامي المعاصر عن فقه نوازل النسل الذي يبحث في هذه المواضيع ويرصدها كما يرصد الوسائط الحديثة المتصلة بالزواج؛ كاستعمال ما يسمى بـ”الدردشة” في الخطبة والزواج، وكذا استعمال مواقع الشبكات العنكبوتية في إبرام العقود بواسطة الآلات التواصلية المستحدثة كالهاتف والناسوخ ونحوها من وسائل التواصل الحديثة. وهي من الأمور التي تتوقف على تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعوب، وتحمل تأثرا بطبيعة الآخر في الحضارات الأخرى في السلوك والأنماط والآداب. لذلك، فإن نوازل النسل في تجدد مستمر، وأن أقضيته خاضعة للهوى ودواعي الفتن التي تحرك الغرائز وتدعو إلى الابتداع والتحرر من الضوابط الشرعية التي تنظم سيره. ولما كانت النازلة الفقهية غير مجردة عن الواقع، بل هي اجتهاد يعكس الظواهر الاجتماعية للنسل، لزم في فقه نوازله معرفة المصالح وعللها وما يتعلق بحكمة الشارع من وضعها، ثم الاجتهاد وفق ما يقتضيه النص الشرعي منها.

فيكون المعنى المخالف للقاعدة الأصولية السابقة هو “كل صالح الوضع صالح الاعتبار أو العكس” وينبني على هذا المعنى أن المعلوم من الزواج في عرف الناس مقرون بالتراحم وبناء الأنساب، وهو المحبة الفطرية، وأن هذه المحبة تحتاج إلى ديمومة في الحياة وتحمي نظام الأسر، وتبدأ باختيار الزوج بالضوابط الشرعية المعروفة، وتستمر عاطفة النسل مع الزواج وحنوه مع الآباء والأبناء. وهو أمر مهم يسعى إلى تأسيس كيان التواد والتراحم الذي ينمي الأدوار المعنوية للاستقرار النفسي للنسل. ولا سبيل إلى رعاية المودة في المجتمع أفضل من ترغيب شبابه في الزواج مع توعيتهم بفضائله ومزاياه. لذلك؛ أدرك علماء المسلمين أهمية الزواج ودوره في بعث المحبة والمودة بين الذكر والأنثى اللذان يربطهما ميثاق الزواج، فاهتموا بوسائل الأنس التي تشجع على الديمومة والرغبة في النسل. ومن لطائف التعامل مع دفء المودة المقرونة بالزواج الذي فيه صلاح الاعتبار، أن أطلق عليه الطاهر ابن عاشور مصطلح التآنس[39]؛ “إذ جعل قرين الإنسان متكونا من نوعه، ولو لم يجعل له ذلك لاضطر الإنسان إلى طلب التآنس بنوع آخر فلم يحصل التأنس بذلك للزوجين. وهذه الحالة وإن كانت موجودة في أغلب أنواع الحيوان فهي نعمة يدركها الإنسان ولا يدركها غيره من الأنواع، وليس من قوام ماهية النعمة أن ينفرد بها المنعم عليه[40]“؛ فدلالة الأنس تحمل إشارة فقهية إلى مجامع الخير بالنسبة لرعاية النسل وضمان استقراره النفسي والاجتماعي، لما يحمله مدلوله من اعتبار صالح. وأن رعاية النسل وبقاءه مرضاة لله في أرضه، لا ينبغي أن يساء إليه بأي وجه من الإساءات التي تؤدي إلى زواله وقطه. وقد نقل ابن حزم مناظرة طريفة في هذا الباب، جرت بين ماني والموبذ في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم. قال الموبذ: أنت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ورجوع كل شكل إلى شكله، وأن ذلك حق واجب؟ فقال له ماني: واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج. فقال له اذرباذ: فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم. فانقطع ماني، فأمر بهرام بقتل ماني[41].

د. القاعدة الرابعة: مدار أخلاق النسل موجبة لرضا الرحمن مع النظر إلى الديان

فضابط هذه القاعدة أن أخلاق التراحم كانت من الأسباب المرغبة في النسل، لكونها موصلة إلى مرضاة لله. وقد أشار الأصوليون إلى هذا المقصد في معالجتهم لمبدأ التخلي في الأخلاق التي يجلبها الزواج، لما له من دور كبير في ترتيب المقاصد وربط الأسباب بمسبباتها من أجل صلاح الدارين. فذكر ابن أمير الحاج في كتابه (التقرير والتحبير)، بأن “التخلي للعبادة؛ منها كسر الشهوة، وغض البصر، وإعفاف نفسه وغيره، وإيجاد الولد وتربيته، وتوسعة الباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع، إلى غير ذلك. فيرجح التزوج لما فيه من هذه المصالح التي منها تزكية النفس، والتسبب في العبادة شخص آخر، وترك المعاصي على التخلي للعبادة[42].” كما أشار العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام)، إلى هذا المعنى بقوله: “واعلم أن المعارف والعبادات مقاصد ووسائل إلى ثواب الآخرة، والنظر إلى الله تعالى من أعلى مقاصد الآخرة… والمقصود وسائل إلى كل مطلوب من الوسائل والمقاصد، والأكل والشرب وسيلة إلى تحصيل الاغتذاء والارتواء والشفاء، والحياء وسيلة إلى الكف عن القبائح، والغضب وسيلة إلى دفع الضيم، وشهوة الجماع وسيلة إليه، وهو وسيلة إلى كثرة النسل[43].” والسبب في مدار الأخلاق في الزواج الذي هو من مسببات النسل كما يقول السعد التفتازاني: “لأن التزويج موضوع للاستيلاد وطلب النسل، فيكون المزوج صاحب العلة، وأيضا الاستيلاد مبني على التزويج المشروط بالحرية وصفا لازما له[44].”

وقد حلل الأصوليون كغيرهم من الفقهاء موضوع النكاح من جانبه الأخلاقي، وأبانوا عن فوائده المختلفة وفق هديه، صلى الله عليه وسلم، كما ناقشوا من خلاله عددا من الأوضاع الاجتماعية ومنها ما يهم الشباب الراغب في الزواج الطامح إلى المودة والتساكن. فقرر الأصوليون أن “الأخلاق موجبة لرضا الرحمن، وسكنى الجنان في الرغد والأمان، مع النظر إلى الديان[45].” وهكذا استقرأوا النصوص الشرعية التي ناقشوا من خلالها قاعدة التراحم التي يحملها حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأمرنا بالباءة، وينهى عن التبتل نهيا شديدا، ويقول: تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة[46]“؛ فقرروا مبدأ القوامة للمرأة في الحضانة وأهميتها في تربية النسل في مرحلة الطفولة أكثر من الرجل، فقال العز بن عبد السلام: “كما قدم النساء على الرجال في الحضانات؛ لأنهن أعرف بذلك وأقوم به[47]“، وهي دلالة قوية على أن ميثاق الزواج طريق إلى تحصيل مقامات العبادة والأخلاق التي تسبب في عبادة شخص آخر عن طريق نعمة النسل والتوالد، بالإضافة إلى تربية التخلي الحامية من المعاصي التي تجلبها العفة والإحصان. وقد عبر الشاطبي عن هذا المعنى في ثلاثيات يمكن أن نطلق عليها لأهميتها في التنظير التربوي الإسلامي بالثلاثيات الحامية للنسل، باعتبارها من الحقوق التي ينبغي ضمانها للنفس الإنسانية في المجتمع الإسلامي: “وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان وهى: إقامة أصله بشرعية التناسل، وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب، وذلك ما يحفظه من داخل، والملبس والمسكن وذلك ما يحفظه من خارج، وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء وذلك؛ حفظه عن وضعه في حرام كالزنا، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرها. وحفظ ما يتغذى به؛ أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به؛ من الذبائح والصيد وشرعية الحد والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك، وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم[48].”

وهذا النوع من الاستقراء يدل على أن الشريعة الإسلامية حمت مؤسسة النسل أخلاقيا في رعاية المناكحات وضبط حقوقها، وبنت عليها أمورا أساسية في أخلاق النسل، منها؛ أن جعلت الحالة الطبيعية للزواج أن يكون بين الرجل والمرأة. ثم جعلت موضوع المناكحات يدخل في إطار معاملات النسل بين بني نوعه. ثم أن مقصد الاستخلاف يروم تأسيس شجرة الأرحام والأنساب التي أشار إليها الله، عز وجل، فقال: ﴿واللهُ جعلَ لكمْ مِن اَنْفُسِكُمُ أزْوَاجًا وجَعَلَ لكمْ مِن أزواجِكمْ بَنِينَ وحَفَدَةً، ورَزَقَكُمْ مِنَ الطيِّبَاتِ﴾ (النحل: 72). وأن إطلاق وصف الزوج يدل على من يؤذن له بملازمته للآخر، فأطلق الزوج على قرين المرأة وقرينة الرجل. وهذه نعمة اختص بها الإنسان؛ إذ ألهمه الله جعل قرين له، وجبله على نظام محبة، لا يسمح له بإهمال زوجه كما تهمل العجماوات إناثها وتنصرف إناثها عن ذكورها[49]. كما جعل البنين للإنسان نعمة؛ وجعل كونهم من زوجة نعمة أخرى؛ لأن بها يتحقق كونهم أبناءه بالنسبة للذكر ودوام اتصالهم به. كما تكفل المحيط العائلي برعاية هذه المحبة الخلقية عن طريق شجرة النسب؛ التي يتكافل الناس ويتعاضدون تحت لوائها في القيام بتدبير أمرهم في حالة ضعفهم.

كما نجد مفهوم الحفدة وهو جمع حافد، وأصله المسرع في الخدمة، يطلق على ابن الابن؛ لأنه يكثر أن يخدم جده لضعف الجد بسبب الكبر. فأنعم الله على الإنسان بضابط التراحم حيث يحفظ سلسلة نسبه بسبب ضبط الحلقة الأولى منها وهي كون أبنائه من زوجه، ثم كون أبناء أبنائه من أزواجهم، فانضبطت سلسلة الأنساب بهذا النظام الأخلاقي المحكم البديع. أما غير الإنسان من الحيوان فلا يشعر بحفدته أصلا، ولا يشعر بالبنوة إلا أنثى الحيوان مدة قليلة قريبة من الإرضاع. كما أن الحفدة للإنسان زيادة في مسرة العائلة كما قال تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ (هود: 70). وقد عملت (من) الابتدائية في (حفدة) بواسطة حرف العطف؛ لأن الابتداء يكون مباشرة وبواسطة، وجملة (ورزقكم من الطيبات)، معطوفة على جملة (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) وما بعدها لمناسبة ما في الجمل المعطوف عليها من تضمن المنة بنعمة أفراد العائلة، فإن مكملاتها واسعة الرزق كما قال تعالى في الآية 14 من سورة آل عمران: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَناَطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ[50] .

وهذه المبادئ الأخلاقية التي هي مدار القاعدة الأصولية السابقة تعبر عن الثقافة الروحية للوعي الإسلامي، ومقصد استخلاف النسل الإسلامي الطاهر الذي يختزن السلوك في طلب الانتفاع في العبادات والمعاملات بما يرضي الله الذي استخلفه في الأرض، كما يشير إلى هذا المعنى الدكتور طه عبد الرحمن بقوله: “إن الفكر الأحدي في حلقته الاقتصادية يأخذ بالعمل التعاوني في جانبه الذي يجعل الإنسان أشبه بالبهيمة؛ إذ يختزل السلوك في طلب الانتفاع المادي وانتهاز فرص الربح وزيادة الاستهلاك للسلع؛ كما أن هذا الفكر ينزل العمل التعاوني منزلة العمل التعارفي: فبدل القيم المعنوية التي تحض الإنسان على إتيان المعروف والتعلق بما هو أعلى منه، وهو الأمة، حتى يتخلق بأخلاقها ويزداد ارتقاء، فقد ارتضى هذا الفكر قيما مادية تدعو الإنسان إلى إتيان المنكر والتعلق بما هو أدنى منه، وهو السوق، حتى يصير عبدا لها ويزداد ضعة[51].”

فالاجتهاد في إيجاد حلول لقضايا النسل لا يلغي تضافر الجهود على مستوى المؤسسات الاجتماعية المختلفة، من أجل النهوض بالنسل وتخليق البيئة للناشئ الجديد. وكذا العمل على تلقينه مسؤوليات المواطنة، عبر وضع برامج الرعاية الأخلاقية (توعية، تدريب، تأهيل، تعليم… الخ)، كما ينبغي تفعيل دور التكافل الإسلامي الذي يتميز به المجتمع الإسلامي، كالزكاة والوقف، وأعمال الخير التي يجب أن تستمر ولا تتوقف قصد النهوض بالرعاية الاجتماعية للنسل وخدمة مصالحه خصوصا في الحالات الحرجة كوضعية الأطفال الأيتام أو المتخلى عنهم. وهي من القيم الإسلامية الأصيلة، التي سيجد النسل الإسلامي في أحضانها رعاية كريمة، تجعله ينفطم على مبادئها الأخلاقية النبيلة.

ﻫ. القاعدة الخامسة: المصلحة بحسب تعلق البقاء المقدور

قرر الأصوليون في اجتهاداتهم أن مبدأ تعلق المعاملات ومصالحها مرهون ببقاء النسل، فقال البزدوي في أصوله: “وسبب المعاملات تعلق البقاء المقدور بتعاطيها والبقاء معلق بالنسل والكفاية وطريقها أسباب شرعية موضوعة للملك والاختصاص[52].” ويفهم من ذلك، بأن النسل يمثل البقاء الذي هو الحضارة التي يبنيها الإنسان لنفسه ويطور فيها حياته، التي تضمن الحفاظ على ضرورياته في الوجود.

كما أشار أبو حامد الغزالي في كتابه (المستصفى في علم الأصول) إلى مسألة أساسية في هذا الباب تتصل بمسألة مراتب المصلحة ومقصد الاستخلاف بالنسبة للنسل. فذكر بأن “المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات، والتزيينات وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات. ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام، ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها. ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها، أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك؛ فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم[53].”

وهو دليل على أن الشريعة الإسلامية تريد من النسل، أن تكون له مصلحة عليا مبنية على أساس الاستثمار والاستهلاك وفق مبدأ التوازن بين ما هو مادي وروحي قصد ضمان الاستخلاف. لذلك جاءت أوصاف المصلحة عند الأصوليين بأنها كل ما يجلب النفع ويدفع الضرر، ويتلاءم مع المقصود من الكتاب والسنة. “فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة[54].” كما حفظت المصلحة ميزان التوازن في استخلاف النسل من الغثائية وعدم النفع في الوجود. فكانت مصلحة النسل في الإسلام تقتضي أن يساهم في المنفعة والاستثمار؛ وهي مسؤولية روحية واجتماعية توقظ في النسل العمل الصالح كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: ﴿وَقُل اعْمَلُوا فَسَيَرى الله ُعَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُومِنونَ﴾ (التوبة: 106) وهو دليل أيضا على أن قوة المصلحة تقتضي أن يربى النسل على حب أمته التي تحتاج إلى النصرة والنماء سواء بعمله أو علمه، ثم يساهم في تلقين هذه الثقافة لأبنائه وعقبه ومن هم تحت ولايته وتربيته في حال كبره. وهو دليل آخر أيضا، على أن المسؤولية ملقاة على المؤسسات التربوية في الدول الإسلامية التي تقع عليها مسؤولية ومصلحة صنع القيم، المبنية على المصلحة الروحية، ومبادئها التي تتولد منها العفة والتكافل والتناصر والكرامة، وغيرها من القيم التي تضمن للنسل عزته وكرامته وفاعليته في المجتمع. وبالتالي، تولد فيه روح التشجيع على كسب القوت بالوسائل المباحة التي تقتضيها الحياة المادية المشتركة في طبيعتها بين جميع الشعوب.

فيكون مدار المصلحة في علاقتها بالاستخلاف تتوقف على تحقيق عدد من القيم منها الإنتاج المفيد في تربية النسل الذي لا يتوقف على النفع المادي فحسب، بل على المحبة والإنسانية والصلاح، وغيرها من المنافع المعنوية والروحية التي تعمل على تحقيق السعادة الدائمة للنسل في مجمل حياته.

كما أن مقتضيات المصلحة مبنية على الإنتاج والاستهلاك، وهي من ضروريات البقاء بالنسبة للنسل، لذلك، أمر الله، عز وجل، باستهلاك الضروريات التي تنتهي الحياة بفقدانها قال تعالى: ﴿وَكُلوا واشْربُوا، وَلا تُسْرِفُوا، إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفينَ﴾ (الأعراف: 29). ومن لطائف المصلحة في الشريعة الإسلامية أن جعلت اقتصاديات الناس وأمور استهلاكهم مشتركة بين الغني والفقير، في إطار الحقوق المفروضة والتآزر المطلوب. وفي هذه الحال، ينبغي أن يحظى دور الثقافة الاجتماعية بالدعم الكامل في المرافق الدينية، والاجتماعية، والسياسية، في البلدان الإسلامية؛ لأن الثقافة هي التي تمكن النسل من استرجاع القدرة على الإصلاح والتنمية وتمكنه من تعزيز البقاء. يقول الدكتور طه عبد الرحمن: “الثقافة هي جملة القيم التي تقوم الاعوجاجات الفكرية والسلوكية داخل الأمة على الوجه الذي يجدد اتصال الفكر والسلوك بأسباب هذه القيم في عالم الآيات، وبالقدر الذي يمكن هذه الأمة من استرجاع قدرتها على الإصلاح والإبداع، طلبا لتنمية الإنسان والارتقاء به في مراتب الكمال العقلي والخُلقي[55].” فوجب على الأمة الإسلامية أن يكون بمقدورها التخطيط لمستقبل نسلها وبقائه، وأن تمتلك سياسة إنتاجية صلبة، وأهم دعائمها المحافظة على تنمية الموارد البشرية التي تؤطر النسل الصالح وتعينه على معرفة ثمرات الأحكام التي هي عماد الدين والدنيا كما يقول أبو حامد الغزالي: “فإن الأحكام ثمرات، وكل ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار، والثمرة هي الأحكام، أعني الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة والحسن والقبح والقضاء والأداء والصحة والفساد وغيرها، والمثمر هي الأدلة وهي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع فقط، وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة، إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها أو بفحواها ومفهومها وباقتضائها وضرورتها أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها، والمستثمر هو المجتهد[56].”

وكلما كان اهتمام النسل بأوجه الاستثمار التي عبر عنها الغزالي تحققت المصلحة وحسن سير العمل، الذي هو العنصر الهام والفعّال في طرق الإنتاج التي أباحها الإسلام، وبالتالي تحقق شرط إعداد مواطنين أكفاء، ونسلا مؤهلا علميا، وفكريا، تأهيلا عاليا لأداء واجبه في خدمة بلاده والنهوض بأمته، في ضوء العقيدة السليمة ومبادئ الإسلام السديدة.

فالشريعة الإسلامية، في ضوء ما عبر عنه الأصوليون من قواعد مستنبطة في مقصد الاستخلاف، تريد من أهلها أن يكونوا أغنياء أقوياء، بالمال والبنين. والمتأمل في الأسباب المباشرة للأزمات التي تصيب الإنتاج، يجد أنها ترجع إلى مدار الضروريات الخمسة التي أشار إليها الأصوليون وذكروها أيضا بلفظ الكليات الخمس التي اعتبرت في كل ملة[57]؛ وهي من العناصر التي برعايتها يقع النصر ويرفع الشأن، كما أن بسوء تدبيرها يحل الهوان والفقر. كما عبرت عن ذلك الآية الكريمة: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمُ أكْثَر نَفِيِراً﴾ (الإسراء: 6). فعدم التناصر والتآزر في رعاية النسل وحماية ضرورته من الهدم، غالبا ما يؤدي إلى الاختلال في التوازن في المجتمع. فتنتشر الآفات المهدمة للأخلاق وتنتشر آفة البطالة، والكسل، والرشوة، والزور، والعداوة، والتطرف، والمخدرات، والكسب الحرام وغيرها من الآفات المدمرة لوجود النسل.

 خاتمة

تنطلق نظرة الأصوليين في موضوع رعاية النسل ومقصد الاستخلاف، من مبدأ المصلحة الإنسانية وضوابطها في الاعتماد على النفس في التزود والإنتاج، وذلك وفق المطالب الآجلة والعاجلة كما يقول الشاطبي: “فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموما وكان الفقر أفضل منه، وإن أمال إلى إيثار الآجلة فإنفاقه في وجهه والاستعانة به على التزود للمعاد، فهو أفضل من الفقر والله الموفق بفضله[58].”

وهي تربية أصيلة وهامة لو نمى المسلمون مبادئها ومقاصدها في جميع الأمور كالعلوم المختلفة، والحرف المتنوعة لكفتهم عن استجداء غيرهم. فاعتماد الأمة الإسلامية على الموارد البشرية من نسلها تكفي في التزود والكسب في العلم والعمل. وقد نقل في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة: 196)، ما ذكره ابن كثير عن ابن عباس: أن أناسا كانوا يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا.. فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس[59]؛ فالتزود المذكور في الآية يحمل من الوسائل التربوية ما يجعل المسلم متعففا مأمونا بمبدإ التقوى وهو أحسن غنيمة وأفضل إنتاج، كما ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة[60].” وكما وضح ذلك أكثر لصحابته بعد نزول الآية السابقة، فعن مقاتل بن حيان: لما نزلت هذه الآية: ﴿وتزودوا﴾ قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله، ما نجد زادا نتزوده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى[61].”

فقد أجاد الأصوليون في مناقشتهم لضرورة النسل وغيرها من الضروريات من خلال بيان الشروط اللازمة لضمان أسباب الرعاية في وجود النسل، باعتباره جزءا مهما في باب المعاملات التي عليها مدار الاستخلاف. فواجب النسل يقتضي أن يكون في الديار الإسلامية مؤسسات الإعداد الصالح التي تسهر على حمايته من الفقر والتشرد والحرمان. وأن تكون فيها مواصفات الإرشاد التي تؤهله لجميع الوظائف، التي تجعل منه فردا مسؤولا مستخلفا في أرض الله، منتجا للدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الاَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف: 9).

الهوامش

[1]. محمد ابن أمير الحاج الحنبلي، التقرير والتحبير، 5/183.

[2]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 3/ 171.

[3]. أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، المنثور في القواعد، 1/68.

[4]. لسان العرب، مادة (نسل).

[5]. المرجع نفسه.

[6]. محمد بن محمد الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، مادة (نسل).

[7]. المصدر نفسه.

[8]. المصدر نفسه.

[9]. أبو القاسم الزمخشري، أساس البلاغة، مادة (ن س ل).

[10]. علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، كشف الأسرار عن أصول البزدوي، 8/152.

[11]. التحرير والتحبير، دار الفكر، 3/275.

[12]. سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 3/274.

[13]. أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 1/31.

[14]. سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي، التحصيل من المحصول، 2/191-192.

[15]. المرجع نفسه.

[16]. البحر المحيط، 5/206.

[17]. عمر بن أبي بكر ابن الحاجب، مختصر المنتهى الأصولي، 2/239، الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، 4/284-283، محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، 1/307، تهذيب شرح الأسنوي، 3/87.

[18]. الأرموي، التحصيل من المحصول، م، س، ص196.

[19]. محمد الأمين الشنقيطي، مذكرة أصول الفقه، 2001، ص248، وما بعدها.

[20]. ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/108.

[21]. ابن القيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، 4/1567.

[22]. عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، الفوائد في اختصار المقاصد، 1/120.

[23]. محمود بن أحمد الزنجاني أبو المناقب، تخريج الفروع على الأصول، ص249.

[24]. أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي، أصول السرخسي، 1/109.

[25]. المرجع نفسه.

[26]. المرجع نفسه.

[27]. التقرير والتحبير، م، س، 5/421.

[28]. الموافقات، 2/100.

[29]. أبو الحسن الماوردى، الحاوى الكبير، 11/926.

[30]. أبو علي بن سينا،  الإشارات والتنبيهات، 4/572.

[31]. فخر الدين الرازي، مفاتح الغيب، 25/59.

[32]. أبو حامد العزالي، الإحياء في علوم الدين، 4/27.

[33]. الموافقات، م، س، 2/101.

[34]. المصدر نفسه.

[35]. المصدر نفسه.

[36]. التقرير والتحبير، م، س، 6/67.

[37]. يرجع إلى الموافقات، م، س، 2/395.

[38]. شهاب الدين القرافي، أنوار البروق في أنواع الفروق، 8/241.

[39]. الطاهر أبن عاشور، التحرير والتنوير، 14/217-218.

[40]. المصدر نفسه.

[41]. ابن حزم، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، الفصل 1، ص36.

[42]. التقرير والتحبير، م، س، 6/51.

[43]. عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص2/205.

[44]. سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، شرح التلويح على التوضيح، لمتن التنقيح في أصول الفقه، 2/287.

[45]. العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام، 1/8.

[46]. رواه أحمد، وصححه ابن حبان، وله شاهد عند أبي داود، والنسائي، وابن حبان من حديث معقل بن يسار.

[47]. العز بن عبد السلام، القواعد الصغرى، تحقيق، إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، دمشق، الطبعة الأولى، 1416، 1/121.

[48]. الموافقات في أصول الشريعة، م، س، 4/27.

[49]. يرجع التحرير والتنوير، م، س، 14/ 217-218.

[50]. المرجع نفسه.

[51]. طه عبد الرحمان، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، ص201.

[52]. أبو بكر السرخسي، أصول السرخسي، 1/109.

[53]. أبو حامد الغزالي، المستصفي في علم الأصول، 1/174.

[54]. المستصفى، 1/178-179.

[55]. الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، ص 87.

[56]. أبوحامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، 1/7.

[57]. ابن نظام الدين الأنصاري، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، 2/185.

[58]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، 4/310.

[59]. أبو الفداء إسماعيل ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 1/147.

[60]. المعجم الكبير (2/305)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 311): “رجاله رجال الصحيح”.

[61]. أخرجه ابن أبي حاتم، باب قول الله تعالى: ﴿وتزودوا فإن خير الزاد التقوى﴾، فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، 3/383.

Science
الوسوم

د. أحمد كروم

كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق