مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

رسالة في التربية الصوفية للشيخ اليوسي

رسالة في علاج بعض أدواء النفس لتصفيتها من الشوائب وإعدادها لسلوك الطريق.

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

 أما بعد.

    فنسأل الله تعالى أن يبلغ أملك، ويصلح عملك، وأن يرزقنا وإياك الحفظ والفهم. ويطهر نفوسنا من كل وصم، وعليك بكثرة تجديد التوبة ولا سيما في الأسحار، وعند استحضار الاضطرار والانكسار، وبزيارة الصالحين، فإنها نافعة بإذن الله تعالى في كل شيء، ويتجنب ما يورث قلة الحفظ من الأطعمة البلغمية[1]، ذوات الرطوبة والبرودة، وكثرة الأكل والنوم، وكثرة الهذر والبطالة: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾[2].

    وأما الكبر والعجب فهو الداء العضال الذي نشكوه كلنا، ودواؤه الرجوع إلى الله، وزيارة الصالحين كما ذكرنا، واتخاذ ورد من ، مطالعة في خلوة التفكر، فإن التكبر والإعجاب إن كان بنسبٍ، إنما هو العصامي لا العظامي [3]، ولو كان نافعا لنفع اليهود، فإن لهم نسبا في غاية الشرف، وقد ذلوا وهانوا حيث لم يطيعوا الله تعالى ولم يتقوه، فلا حسب ولا نسب إلا التقوى، وإن كان بجمال الصورة أو اللباس، فذلك شأن النساء لا الرجال، وإن كان بدين فإن الدين لا يصح بالكبر [4]، فالمتكبر بالدين متكبر بلا شيء فهو أضحوكة، وإن كان بعلم فلا شك أن العلم درجة رفيعة، ولكن من شأنه أنه لا يتكبر به إلا من لم يحصل منه على طائل، ومن هو هكذا لو كان له تمييز لعلم أنه من أخس الناس وأرذلهم، حيث تسمى بما ليس إسما له، وادعى ما لم يكن له، ففي الحديث الكريم، «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور»[5]، فهو كذاب مدع مدلس، ولو كانت للناس بصائر لضحكوا منه، بل لطردوه وأهانوه، فكيف يتكبر من هذا شأنه؟ وإنما حقه الخجل والحياء والبكاء على نفسه.

    وأما من حصل على قدر من العلم، فلابد أن يطلع على بحاره الزاخرة، وأمواجه المتلاطمة، ويشهد عجز نفسه على الخوض في تلك البحار، وركوب ذلك التيار، وحينئذ يعلم أنه في غاية القصور والنقصان، فلا يرى لنفسه قيمة، فضلا عن التكبر، ويعلم أنه لو بلغ ما عسى أن يبلغ لم يوت من العلم إلا قليلا.

    وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا ما نقص هذا العصفور من البحر» [6]،  ولا شك أن من حصلت له قطرة ماء من البحار العظيمة، فكيف يرى أنه حصل له شيء يرى لنفسه به قيمة؟ وهذا في علم الأنبياء الرسل، أولي العزم، كموسى عليه السلام، فكيف بعلم من دونهم من الرسل، فكيف بعلم من دونهم من العلماء الراسخين، فكيف بعلم من دونهم من العلماء المتبحرين، فكيف بعلم من دونهم من الفحول المحصلين، فكيف بعلم من دونهم من المتفنين المشاركين، فكيف بعلم أمثالنا من المبتدئين القاصرين؟

    وقد قيل: العلم ثلاث درجات: من بلغ الأولى ظن أنه أنه، أي ظن أنه من أهل العلم وهو الأحمق الذي يتكبر، ومن بلغ الثانية علم أنه أنه أي علم أنه قاصر لم يحصل على طائل، وأما الثالثة فلا سبيل إليها، ثم إذا نظر هذا المشرف على بحار العلم إلى ما فوقه فرأى الفحول الذين خاضوا فيها وبلغوا ما لم يبلغ، استصغر نفسه، بل انقطع نياط قلبه، وشغلته حسرة السبق عن أن يلتفت إلى نفسه، وأيقن أنه لا مثل له بمطاولة أولئك الأقران، ومجاراتهم في ذلك الميدان، فعلم يقينا أنه ليس من القوم في العير ولا في النفير، وأنه لا ناقة له في باب العلم ولا جمل، وأنه متى ادعى شيئا منه فهو كالحادي [7]، وليس له بعير، وكمن ينبض بلا توتير [8]:

سوف ترى إذا انجلى الغبار        أفــرس تحتـك أم حمار

    هذا، ولكن كل مجد [9]، في الخلاء يُسرٌ، وربما صاحبت من هو أسوأ منك حالا فأوهمك أنك محسن، وكذا من صحب الحمير، فهو يرى نفسه أعقل العقلاء، وأعلم العلماء، كما تقول العامة: «الأعمش في دار العميان يسمى أكحل العين»،  «إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين» [10]، والحازم من يلتفت في العلم وسائر الصالحات إلى من فوقه، فذلك أجدر من لا يرى لنفسه قدرا، ولا يجد فيها عجبا ولا كبرا، ويكفي في ردع النفس العلم بأن العجب والكبر هو أول ما عصي الله تعالى به، وأول شيء كان سبب اللعن والطرد والتأسيس من رحمته تعالى، نسأل الله تعالى العافية.

    فيخشى المتكبر أبدا أن يأخذ بنصيب من الطرد كما أشارت إليه الآية الكريمة: «سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون» الآية [11]، وإن كان بمال فمتاع الدنيا قليل، وهي جيفة خسيسة ممقوتة، ولا يتكبر بها إلا من عظمها في عينه، فكانت همته أحط منها كما قيل: من زهى بولاية فقد أبان أن همته أصغر منها، وهذا أرذل الأرذلين، فكيف يتكبر؟ وكل من كانت له همة، فلو أعطي الكون كله لاستصغره ولضاق صدره من فوات ما يرجوه فوق ذلك، وقد اشتُريت لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يكون خليفة حلة بسبعين ألف، فلما لبسها قال: ما أحسنها لولا خشونة فيها، فلما استخلف اشتريت له حلة بأربعة دوانق، فقال: ما أحسنها لولا لينها، فقيل: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ فقال: نفسي ذواقة تواقة، كلما ذاقت شيئا تاقت إلى ما فوقه، فلما ذاقت الخلافة لم يبق لها إلا طلب ما عند الله تعالى، والكلام في هذا يطول بنا فلنقتصر.

    وصفة غسل اليدين مفترقتين، أن نغسل اليمنى باليسرى ثلاثا، ثم نغسل اليسرى باليمنى كذلك، وينوي بالغسل [12]، السنة، وغسل أعضاء الوضوء في الغسل عام، في جميعها، وفي مسح الرأس والأذنين كلام لم يتسع المحل لذكره، وأما الرجلان فمن يرى أن المطلوب فيهما الإنقاء فلا إشكال، ومن يرى التثليث فهو لا يعد الواحدة [13]، إلا مع التعميم، فإن الغرفة غير معتبرة، بل تعميما لعضو كما ينبغي، وبذلك يكون ما بعد الواحدة مستحب فافهم.

    ونية الاقتداء واجبة شرط، ولا أظنها تخفى عليك، ولعلك تسأل عن شيء آخر ولم تؤد عبارتك، وهو أنه يطلب من الناس النية تصريحا في كل صلاة، فأقول: المراد أنه لابد من حضور القصد إلى الاقتداء بالإمام في الصلاة ليمتاز عن الفذ، وهذا في الغالب حاصل لكل من دخل في المسجد ليصلي مع الناس، ثم انتظر الإمام فأحرم حين إحرامه، وأكثر العوام لا يفهمون المراد بالنية، بل يتوهمون أن النية تنوى وهو تسلسل باطل، والأكمل نية الأداء في الوقت، ونية القضاء خارجة، ومن فاته شيء من ذلك فلا بأس عليه إذا لم يخل يشرط.

    وغسل الجمعة والعيدين كغسل الجنابة في الصورة، وإنما الاختلاف في الحكم، وجوب، وسنة، واستحباب، والنية تابعة للحكم، فينوي في الجنابة الوجوب، وفي الجمعة السنة، وفي العيدين الاستحباب، ومحل النية في الجميع سواء، والله الموفق والمعين، وكتب الحسن ابن مسعود اليوسي وفقه الله.

 

هوامش     

[1] خلط من أخلاط البدن الأربعة في عرف الأقدمين، وهي المرة السوداء، والمرة الصفراء والدم، وجعلوا مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، والأطعمة البلغمية هي كالحل وجميع البرودات. قوت القلوب، 2/344.

[2] البقرة، الآية 281. 

[3] النسب العصامي: ما اكتسبه الفرد من فضائل بمجهود شخصي، والعظامي ما يورث من مجد عن الأسلاف. راجع هذا الموضوع عند اليوسي بإسهاب في كتابه المحاضرات.     

[4] في الأصل «الكبر» ولا يستقيم المعنى إلا بزيادة باء الجر.  

[5] حديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر ومن حديث عائشة.

[6] حديث طويل عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قام موسى خطيبا في بني اسرائيل فسئل أي الناس أعلم…إلى قال: فجاء عصفور فوقع

[7] حدا يحدو حدوا، وهو الحادي: ساق الإبل وغنى لها. 

[8] أنبض الوتر يُنبِضه: جدبه ليرن، وتر القوس شد وترها. 

[9] المجد: الأرض المرتفعة كالنجد.

[10] كذا في الأصل.

[11] الآية 146 سورة الأعراف، مكية.

[12] غسل اليدين.

[13] الغرفة الواحدة من الماء بالكف.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق