وحدة الإحياءقراءة في كتاب

سجال فكري وإعلامي حول الجذور الفكرية لأوروبا

صدر سنة 2008 عن دار le Seuil (العتبة) الباريسية كتاب أثار زوبعة فكرية وإعلامية قوية في فرنسا. والكتاب لمؤلفه سيلفان غوغنهايم بعنوان (أرسطو في جبل القديس ميشيل: الأصول اليونانية لأوروبا المسيحية). يقع الكتاب في خمسة فصول، و281 صفحة من القطع المتوسط. الفكرتان الأساسيتان اللتان ينافح عنهما المؤلف في كتابه مفادهما؛ أولا: أن لا فضل للحضارة العربية الإسلامية في نقل المعارف اليونانية القديمة إلى أوروبا. وثانيا: أن ما نسميه إسلام الأنوار أو العصر الذهبي لإسلام الأنوار أسطورة لا وجود لها.

المؤلف عمل أستاذاً للتعليم الإعدادي والثانوي ثم التحق بجامعة باريس الأولى Paris1 بصفة أستاذ مساعد لمدة إحدى عشرة سنة قبل أن ينتخب أستاذاً جامعياً قبل أربع سنوات في المدرسة العليا للأساتذة في مدينة ليون الفرنسية. وهي من المدارس الكبرى والهامة في فرنسا.

وقد أفرد الرجل كتباً حول الروحانية الرينانية وفرسان التوتون. وكتاباً حول نوبات الذعر الخاطئة على رأس الألفية الأولى. وعلى نفس المنوال، فقد سعى كما يزعم بكتابه الجديد الذي طرحته الدار الفرنسية المحترمة في سلسلتها العلمية الرصينة (عالم التاريخ univers historique) إلى محاربة نفس الأساطير الخاطئة الواردة في كتابه الأول حول رأس الألفية الأولى، ويقصد بها القناعة السائدة لدى الباحثين وأهل الاختصاص بأن العلوم القديمة والمعارف الأرسطية قد نقلتها الحضارة العربية الإسلامية إلى أوروبا مما مهد لنهضتها بعد ذلك. وللتذكير، فإن هذا الموضوع قد أفرده الباحثون والمختصون منذ أكثر من 150 سنة بالعديد من الأبحاث حتى صار قناعة علمية في هذه الأوساط ولا أحد يشكك في مصداقية هذا الرأي وصحته.

القضية

بمجرد نزول الكتاب إلى الأسواق قامت ضده حملة قوية قادها هؤلاء الأساتذة واعتبروا أن هذا الرأي مجانب للصواب ويخرق إجماعاً علمياً ثابتاً، إضافة إلى ما يطبع الكتاب من أفكار محسوبة على بعض الأوساط المسيحية المتطرفة، والمتعصبة ضد الإسلام والمسلمين، وهو الأمر الذي يظهر في ورود بعض الكتابات العنصرية في فهرس مصادر ومراجع الكتاب. وقد ساهم الإعلام بشكل كبير في هذه الحملة غير المسبوقة على الرغم من عدم اهتمام الجمهور العريض عادة بمثل هذه المواضيع التي تنأى عن السجالات والمجاذبات الإيديولوجية، إلى درجة أن الطبعة الأولى للكتاب قد نفذت بعد مرور أقل من شهر على صدروه، وقامت دار النشر بإعادة نشره مرة أخرى.

ومن بين أهم التعليقات على الكتاب ما قاله أحد المؤرخين الرسميين في فرنسا، ماكس غالو، الرجل السياسي ومستشار الرئيس فرانسوا ميتران سابقاً، الذي ذكر في حديث له على إذاعة فرنسا الثقافية أسفه الشديد من الطريقة التي تم بها استقبال الكتاب في الأوساط العلمية، كما ذكر في نفس السياق انعدام نقاش فكري هادئ حول موضوع الكتاب. أما ناشرة الكتاب لورنس دو فيلير Laurence Devilllairs فإنها تحدثت عن حملة تذكر بما كانت تقوم به محاكم التفتيش المسيحية من تعسف ضد مخالفيها، ووصفت ردة فعل المختصين بأنها لعنة ألقوها على واحد منهم. وقد تبرأ الأساتذة والطلبة في المدرسة العريقة التي يدرس بها في مدينة ليون من غوغنهايم، ونشروا لائحة مطولة بأسمائهم وتوقيعاتهم ضد أفكار المؤلف غير العلمية.

يضم هذا الكتاب مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، إضافة إلى ثلاثة ملاحق. والذي يهمنا منه الفصل الرابع والخامس المعنونين تباعاً (الإسلام والمعرفة الإغريقية)، (إشكالات حضارية) اللذين يخصصهما، حسب زعمه، لإسقاط أسطورتين منتشرتين في الأوساط العلمية الغربية، أولاهما بشأن دور العرب والمسلمين في نقل التراث القديم إلى أوروبا، وثانيتهما بشأن إسلام الأنوار أو العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، وكذا ما يسميه هوية الحضارات أو الجذور الفكرية للحضارات. أما الخاتمة، فإن عنوانها يفصح عن مرامي صاحبها، حيث وسمها (شمس أبولون تشرق على الغرب)، وهي إشارة منه أن لا فضل للعرب والمسلمين في نهضة أوروبا، ليقابل بها عنوان كتاب زيغريد هنكه (شمس العرب تسطع على الغرب). وإن كان العنوان الأصلي للمؤلفة يضيف الشمس إلى الله، وترجماته الغربية بقيت وفية لذلك على خلاف الترجمة العربية.

الدعوى الأولى للمؤلف في كتابه: ليس للعرب والمسلمين أي فضل في نقل الثقافة والفكر اليونانيين إلى أوروبا المسيحية

للتدليل على هذه الدعوى يقول المؤلف “إن العرب والمسلمين لم يعرفوا الحضارة اليونانية إلا بشكل سطحي… وإن أغلب فلاسفتهم من الفارابي وابن سينا وابن رشد لم يكونوا يتحدثون الإغريقية”. وإن المسيحيين الشرقيين من السريان هم الذين احتفظوا بهذه المعارف ما بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين. ثم يبرهن على هذه الدعوى بقوله إن هناك تبايناً صارخاً بين بنية اللغة العربية والإغريقية، مما يفيد بأن دور العرب والمسلمين في نقل هذه المعارف إلى أوروبا كان جد محدود. وهنا يذكر المؤلف بأن الاتصال ما بين الحضارة الإغريقية وأوروبا اللاتينية المسيحية كان مستمراً، ودليله ما قام به راهب إيطالي مغمور يسمى جاك دو فونيز الذي عاش فترة من عمره في القسطنطينية فقام بترجمة أعمال أرسطو في القرن الثاني عشر الميلادي. وللتدليل على استمرارية هذا التواصل بين اليونان القدماء وأوروبا اللاتينية العثور مؤخراً على مخطوط في دير القديس ميشيل في مقاطعة النورماندي بفرنسا من ترجمة هذا الراهب لأحد أعمال أرسطو. فالدليل الوحيد الذي يرفعه المؤلف لتأكيد هذه الدعوى العريضة هو العثور على مخطوط من القرن 12 الميلادي في أحد الأديرة بفرنسا. وبدل أن تكون النصوص العربية هي التي أسهمت في نقل التراث القديم والفلسفة الأرسطية إلى أوروبا، يضخم المؤلف عمل هذا الراهب المغمور ويحوله إلى دليل ساطع على إنكار دور الحضارة العربية والإسلامية في انتشال أوروبا من جهالتها. وهي دعوى لا تصمد أمام النقد العلمي. وبدل أن يكون حدث اكتشاف هذا المخطوط مناسبة لزيادة معارفنا حول انتقال واستقبال فلسفة أرسطو يتحول من مجرد حدث جزئي إلى قضية كبرى لإنكار قواعد علمية راسخة وتقاليد فكرية مضنية وأبحاث جادة طوال قرن ونصف القرن، والتي أشبعت بحثاً مسألة الدور المركزي للحضارة العربية والإسلامية في نقل هذا التراث العلمي إلى أوروبا، تمشيا مع روح الحضارة المتنقلة دوماً. وهكذا يظهر أن العثور على مخطوط من القرن 12 يتحول إلى إشكالية كبرى حول الهوية الفكرية للأوروبيين والمسلمين وإقامة فروق مصطنعة لا يقر بها العلم. وبالنسبة للمؤلف، فحضارة الإسلام مختلفة تماما عن حضارة الإغريق وبينهما فروق كبيرة سببها أن الفكر الديني في الإسلام، حسب المؤلف، كان عائقاً عن تملك الفلسفة اليونانية والعلوم القديمة، وتوطينهما في البيئة الإسلامية. وينتج عن هذا الأمر أن هناك تمايزاً ثقافياً أبدياً بين المسيحيين والمسلمين، وصراعاً مستمراً بينهما. وللقارئ أن يعود إلى ما كتبه جورج سارطون (العلم العربي في القرن 15) أو خوان فيرني (ما تدين به الثقافة لعرب الأندلس) حول دور الترجمة من العربية إلى اللاتينية بتفاصيل دقيقة عن عدد المترجمين والحقبة والعلوم المترجمة وغير ذلك من المعلومات الضافية التي لا ينكرها إلا جاهل أو حاقد.

وللتدليل مرة أخرى على هذه الدعوى الواهمة، فإن المؤلف يتمحّل المقارنة بقوله: (إن المعاني والدلالات في اللغة العربية واللغات السامية تنبع من الكلمات والأصوات، بينما هي في اللغات الهندو-أوروبية تنبع من الجملة وتناسقها وبنيتها النحوية. فالعربية تناسب الشعر، ولا تصلح للعلم والفلسفة على عكس اليونانية، ولهذا لا يمكن الترجمة من هذه اللغة إلى تلك، وعليه فكل ما قيل عن نقل العلوم القديمة والفلسفة اليونانية إلى أوروبا مجرد أسطورة لا تصمد أمام هذه المقارنة اللسانية) (136). ولا يخفى على القارئ ما في هذا الزعم من تهافت، لأنه يحاول أن يرقى بفكرة التمايز الثقافي العنصري إلى مستوى التنافر الاصطدامي واستحالة نقل المعارف بين البشر.

ويكفي أن نقول بأن آخر ما انتهت إليه النظريات اللسانية العلمية ترفض مثل هذه التقسيمات الواهية، وإن الإنسان يمكنه أن ينقل ما شاء من المعارف بكل يسر وسهولة بين مختلف الأنظمة اللغوية والسيميائية. وهناك لغات مثل الباسك بعيدة كل البعد عن اللغات الهندو-الأوروبية، ومع ذلك لا يشكك أحد في انتماء الباسكيين للحضارة الأوروبية وإسهامهم فيها مساهمة كبيرة. وما قول المؤلف في الفارسية وهي لغة هندو-أوروبية، ومع ذلك فأصحابها من المسلمين خدموا العربية أيما خدمة ونحوا بلغتهم نحو لغة القرآن، ولم يروا في ذلك عائقاً بل باباً كبيراً من العلم.

ثم إن الغرب المسيحي لم يكن يعرف اليونانية في ذلك الزمان البعيد، وعلى الرغم من وجود تلك الترجمات لذلك الراهب المغمور، فإن أحداً لم يدَّع أنها كانت السبب في وصول أرسطو إلى أوروبا، بل الإجماع العلمي يقول بأن هذه الترجمات جاءت عبر العربية أساساً. أما ترجمة جاك دو فونيز، فهي رديئة، ولم يكن يهتم بها القلة ممن انفتحوا على هذا التراث آنذاك. وإن ممن فتح أعين المشتغلين على التراث القديم شروح ابن رشد على أرسطو.

وبالمناسبة، فإن بنفس الدير المذكور نسخة من أحد مخطوطات ابن رشد، مما يقلل من مزاعم غوغنهايم حول هذا الموضوع.

كما إننا نخالف المؤلف في زعمه لربط اليونان بالغرب فقط لأن مراكز اليونان العلمية هي من ضمن بلاد العرب والمسلمين أساساً منذ ظهر الإسلام، مثل الإسكندرية والشام وغيرهما. إن أحد كبار المختصين في الحضارة اليونانية والأنتروبولوجيا المقارنة (م. ديتيان) ينكر في كتيب له حول الأهلية (autochtonie) الأصل اليوناني لأوروبا والغرب ويعتبر ذلك أسطورة إيديولوجية. وإن ما يتباهى به بعض المحافظين في الغرب من اكتشاف الديمقراطية قد عرفته كثير من الشعوب الإفريقية وغيرها. فليست الديمقراطية اكتشافاً يونانياً (ولا مجال للحديث عن معجزة يونانية كما لا مجال للحديث عن معجزة قازاخية) (يشير إلى ما يعرف عند الأفغان بمجالس لُويَا جِيرْكَا لتدارس شؤون الجماعة).

ردود الفعل حول الكتاب في وسائل الإعلام

1. من بين المقالات التي قدمت للكتاب مقال للصحفي روجيه بول دروا Roger Pol Droit، الذي يكتب في ملحق جريدة لوموند Le Monde الفرنسية، الخاص بالكتب. صدر هذا المقال بتاريخ 3 أبريل 2008 تحت عنوان: (ماذا لو لم تكن أوروبا دائنة للإسلام بمعارفها؟). ويختم هذا المقال بقوله: (خلافا لما نردده بشكل متزايد وصاخب منذ 1960، فإن الحضارة الأوروبية في تاريخها وتطورها غير مدينة للإسلام، أو على الأقل هي مدينة له في جوانب ليست ذات بال. إن هذا الكتاب الدقيق والمدعم بالحجج، الذي يُحيِّن التاريخ يبرهن على شجاعة كبيرة”. وأغرب ما في هذه الأحكام، هو أن هذا الصحافي المهتم بالفلسفة ليست له معرفة دقيقة بالعصر الوسيط ولا يجدر به أن يصدر حكماً على كتاب يتعرض لمجال لا يفهمه ولا يعرفه. بل الأنكى من ذلك أن المؤلف غوغنهايم نفسه يصرح في استجواب له بأنه “سعى إلى وضع كتاب تبسيطي تعميمي، وأن له الحق في هذا رغم أنه مختص في المسيحية والتاريخ الوسيط وخاصة في الأخويات الدينية المسيحية وليس في الإسلام أو تاريخ العباسيين أو حتى الفلسفة). (جريدة لوموند). فإذا كان هذا شأن صاحب هذه الدعوى، فكيف بإِخْبَارِيٍّ أدبي يسمح لنفسه بإصدار حكم كالذي أوردناه؟ ولكن الاستغراب يزول إذا علمنا أن هذا الصحفي قد أصدر في هذه السنة كتاباً تحت عنوان: (الإخبار عن الغرب للجميع) (دار Le Seuil)، يقول فيه: (إن تقسيم العالم بين الغرب والشرق قائمة منذ اليونان القدماء. ومنذ ألف سنة هناك صراع مستمر بين رؤيتين مختلفتين للعالم).

2. وتعزيزاً لهذا الموقف، صدر مقال ثان في جريدة لوفيغارو Le Figaro اليمينية بتاريخ 17 أبريل 2008 تحت عنوان: (معاناة المفكرين اليونانيين في العالم المسيحي) يقول في ختام مقالته: (فلنهنئ سيلفان غوغنهايم الذي لم يَرْهَبْ من تذكيرنا بأن هناك نواة مسيحية قوية في العصر الوسيط، هي نتيجة لتراث أثينا والقدس، في حين أن الإسلام ليس له أن يتشدَّق بعَرْضِ معارفه على الغربيين. إن هذا اللقاء هو الأساس في نشأة أوروبا، إضافة إلى ما قدمته روما اللاتينية كما يقول لنا البابا بينيدكت السادس عشر. وهذا هو أساس أوروبا لا غير). وواضح من هذه النصوص التوجه الإيديولوجي للكتاب ولما فهمه منه هؤلاء المُعلِّقون الصحافيون.

سوف لن نقف عند تلقف المواقع المسيحية العنصرية لمقاطع مطولة من الكتاب، فهذا لا يقوم دليلا على اتهام الرجل بالانتماء لهذه الأوساط، خصوصاً في عصر لم يعد بإمكان أحد أن يتحكم في آلة الأنترنت وما تبثُّه من معلومات. لكن دعونا نناقش بعض أفكار الرجل الواردة في كتابه. يقول مثلا في تعليق له على قرار لمجلس أوروبا بتاريخ 8 نوفمبر 2008 ، لجنة الثقافة والعلم والتربية، الجمعية الأوروبية، بخصوص التعاون الثقافي بين أوروبا ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط (وثيقة 9626): (بغرابة كبيرة، وبعد أن استهدف العالم الغربي بأعمال حربية، يصبح ضروريا وعاجلا أن يتم تدريس أطفالنا أن من اعتدوا علينا هم أصحاب دين مسالم سمح، وأن يتم التذكير في نفس الوقت بأن الغرب كان (يستعمل الفعل في الماضي) عنيفاً. فمن نريد إذن أن نُلجِم؟) (ص: 261).

ويقول في موضع آخر (ص: 200) “طيلة العصر الوسيط، تواجهت حضارتان مختلفتان مع بعضهما البعض، إحداهما اعتمدت على الإرث اليوناني ورسالة الأناجيل والفكر العلمي وكذا الالتفاف حول تراث ديني ضَمِنَتْهُ الكنيسة. والثانية قدَّمت نفسها على أنها ابنة كتاب إلهي، كتابٍ غيرِ مخلوق، مشدودٍ في قلب محورها المركزي، ألا وهو القرآن: وكل ما يجري في الزمان يقود بالأساس لهذا الرحم الأصلي في السور القرآنية”.

وما يقوله صاحب الكتاب عن جمود الحضارة الإسلامية هو التعريف السائد لما يسمى بالخوف من الإسلام أو الإسلاموفوبيا، أي اعتبار الحضارة الإسلامية شيئاً ثابتاً لا يقبل التغيير، وليس في مقدورها أن تعرف العقلية العملية ولها خصائص لا تاريخية.

3. وإلى جانب هذين المقالين في جريدتي لوموند ولوفيغارو، قام ستة وخمسون فيلسوفاً ومؤرخاً ومختصاً من أوروبا في العصر الوسيط، بالرد على كتاب غوغنهايم في جريدة ليبراسيون Liberation بتاريخ 3 أبريل 2008 بعريضة تحت عنوان: (نعم، إن أوروبا مدينة للعالم الإسلامي). تقول العريضة: (لقد قرأنا بغرابة شديدة نحن المؤرخين والفلاسفة عن كتاب سيلفان غوغنهايم أرسطو في جبل القديس ميشال، الجذور اليونانية لأوروبا المسيحية (سُويْ)، الذي يزعم البرهنة على أن أوروبا المسيحية في العصور الوسطى قد استطاعت أن تتملك التراث اليوناني مباشرة، إلى درجة يمكن معها القول بأنه كان بإمكانها أن تسير على نفس الخط الذي نهجته من دون أية علاقة مع العالم الإسلامي. وبهذه الطريقة، فإن الكتاب يصادم بشكل مباشر التوجه العام للأبحاث العلمية المعاصرة… والمؤلف باعتماده على اكتشاف مخطوط معروف لدى الباحثين من ذي قبل، يقرأ الأحداث بشكل خادع ومكَّار عن العلاقة بين الغرب المسيحي والعالم الإسلامي. وهذا الدعوى تناولتها وسائل الإعلام وروجت لها، إلى جانب بعض المواقع الإلكترونية المتطرفة).

ثم بعد أسبوع من صدور المقالة التي وردت في صحيفة لوموند، فقد فسحت هذه الدورية المجال للرد على مزاعم الصحفي المهتم بالفلسفة روجيه بول دروا، فانبرى لهذه المهمة غبرييل مارتينيز غرو، أستاذ التاريخ الوسيط في جامعة باريس الثامنة، وجيليان لوازو أستاذ محاضر في التاريخ الوسيط في جامعة مونبلييه الثالثة. وقد عنونا مقالتهما تحت عنوان: (مقالة مشبوهة) حيث قالا: (وفي خضم شغفه باليونان وأوروبا المسيحية، فإن سيلفان غوغنهايم يفرط في تقييم دور العالم البيزنطي، بحيث إنه يتوهم أن كل يوناني عالم بالضرورة، وأن كل مسيحي قادم من الشرق هو أيضاً مُمرر ثقافي. ونحن نعرف أن الإنتاج العلمي للعالم الإسلامي في الرياضيات والفلك وغيرهما ما بين القرن التاسع والرابع عشر في غاية الغزارة ولا يمكن مقارنته بما أنتجه علماء العالم البيزنطي. وفي محاولة غوغنهايم كشف أسطورة تفاعل العالم الإسلامي مع التراث اليوناني، فإنه لا يميز في كلامه بين “المسلم” و”الإسلامي”، أي بين ما هو في جانب الإيمان، ما هو في جانب الحضارة. فإن مسيحيي الشرق ليسوا مسلمين قطعاً، لكنهم إسلاميون بالضرورة من حيث انتمائهم إلى المجتمع الإسلامي ومندمجون في دواليب الدولة. إن ما قدمه الإسلام للبشرية في ميادين البحث العلمي، والتجريد الفكري والفكر القانوني والتشريعي، والفنون، وحجم المسلمين الديمغرافي اليوم يقارب ربع البشرية لم ير فيه غوغنهايم إلا جموداً على النصوص الدينية. وبهذه الدعوى، فإن غوغنهايم يخرج من مسار العالم المؤرخ ليضيع في تيه الخوف والانغلاق على الذات).

ثم إن المؤلف يرد بمقالة في جريدة لوموند عنوانها (أنا بريء من النوايا التي نُسبت إلي). وقد حاول أن يخفف من حدة ما ورد في كتابه مع إصراره على نفس الأفكار من حيث إن أوروبا المسيحية في القرن 12 عرفت طريقاً مباشراً للتراث الإغريقي عبر الراهب جاك دو فونيز، مع احتمال دخول بعض التأثيرات من بلاد الإسلام فيما بعد ذلك. كما تبرأ المؤلف من تهمة تأجيج صراع الحضارات، وإن كان كتابه في رأينا يحاول أن يعطي صبغة علمية لهذا الصراع.

4. ومن بين الردود الهامة، ما كتبه ألان دو ليبيرا في تيليراما Telerama.2 بتاريخ 2 مايو 2008. والرجل أستاذ متخصص معروف عالمياً، ومدير أبحاث في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس، إضافة إلى تدريسه في جامعة جنيف، وهو أيضاً نائب رئيس الجمعية الدولية لدراسة الفلسفة الوسيطية. يقول في مقالته هذه (إن الفلسفة العربية حسب غوغنهايم لم تكن سوى حدثاً هامشياً لا قيمة له” كما يستنكر ويُذَكِّر بمقالة له سابقة قال فيها بأن “داء فقدان الذاكرة عند الغربيين هو أساس ظهور الخطاب العنصري). ويتعجب هذا المؤرخ المحترم بسخرية لاذعة قائلا (إن فرضية جبل سان ميشيل كحلقة مفقودة اكتشفها غوغنهايم عن سر انتقال الفلسفة الأرسطية من اليونان إلى اللاتين، والتي احتفلت بها بسرعة فائقة الأوساط العنصرية الإسلاموفوبية التافهة لها من الأهمية العلمية ما لدور الأم دجاجة في تاريخ عُجّة البيض omelette). ثم يضيف (إني لا أنتمي إلى أوروبا التي بهذا الشكل، وأتركها لوزارة الهجرة والهوية الوطنية في فرنسا، وإلى قَبْوِية الفاتيكان).

كما أن هناك مقالات أخرى لا تقل أهمية تناولت هذا الحدث الفكري غير المعتاد في أوساط المختصين في العصر الأوروبي الوسيط. ومن أهمها ما كتبه بليز دوفال، أستاذ في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، تحت عنوان (صدام الحضارات والخَلطة التاريخية: بلبلة في الوسيطية). والانتقادات التي وجهها دوفال علمية بالأساس، بحيث يؤاخذ غوغنهايم على نوعية المصادر والمراجع التي يستعملها. فمثلا أهم المصادر في المسألة غير مذكورة في لائحة المؤلف، كما أن تحليلاته مستقاة من مراجع غير مباشرة بل بالواسطة البعيدة في غالب الأحيان، وهذه هِنة غير مسموح بها في البحث العلمي. أما عن مؤاخذة غوغنهايم على الحكماء المسلمين عدم معرفتهم باليونانية، فهو أمر يدعو للغرابة لأن الأوساط العلمية المسيحية التي يذكرها المؤلف نفسه، وفي مقدمتهم توماس الأكويني، كان يجهل هذه اللغة. لكن المقياس عند غوغنهايم مختل بحيث ما يراه هِنة عند المسلمين يتساهل فيه لدى المسيحيين، وهذا ليس من العلم في شيء، بل هي الأهواء والأغراض.

هذه أهم المقالات التي تناولت هذا الحدث الفكري الهام. وبالمقابل، فإننا نلاحظ انعدام أي رد من المؤرخين أو المثقفين والفلاسفة العرب، وخاصة في بعض الجامعات التي كانت تعتبر نفسها قلعة للرُّشْدِية. كما لو أن الأمر لا يعنيها، وإن كنت أعتقد أنهم في غفلة عن الموضوع لأنهم لم يتابعوه أصلا. لكننا نسجل مع ذلك بعض الردود التي وردت مع محدودية تأثيرها، إضافة إلى أنها كتبت بالفرنسية كمقالة يوسف صديق في تيليراما مثلا. وكنا نتمنى أن ينبري للرد بعض من أُقحموا في هذا الكتاب ممن يحسَب على الثقافة العربية الإسلامية، من أمثال محمد أركون الذي ذكره غوغنهايم في كتابه وردَّ عليه في مسألة دور بيت الحكمة، واعتبرها أسطورة خرافية. يقول غوغنهايم نقلا عن محمد أركون (حسب العديد من الكتاب، فإن العباسيين قد أسسوا في القرن التاسع بيت الحكمة، التي كانت حسب زعمهم تضم علماء من مختلف الأديان والعلوم. وقد قامت هذه المؤسسة بترجمة جميع النصوص اليونانية تحت إشراف ثلاثة علماء، مسلم ويهودي ومسيحي (يوحنا بن ماسويه). وراء هذا الزعم حكاية ذكرها ابن النديم في الفهرست، حيث يخبرنا أن المأمون رأى في منامه أرسطو فقرر ترجمة العلم اليوناني للعربية…) (ص: 133). ما مصداقية هذا الكتبي المحب للكتب، وكتابه متأخر بمائة وخمسين عاماً عن الحدث المذكور.(ثم يضيف بأن دراسات حديثة قد صححت هذا الأمر). ثم يقول: (إن شهرة بيت الحكمة ليست إلا أسطورة نسجها أنصار العباسيين من المعتزلة كيلا يقع فيها المؤرخ). يجب حسب كلمات ر. مارشان (تبين الحقيقة وراء طلاء التاريخ المركب) (133-134). والجدير بالذكر أن المؤلف يعتمد على كتابات رجل معروف بعنصريته القاتلة وهو رونيه مارشان لإنكار دور بيت الحكمة في ترجمة علوم القدماء. وعناوين كتابات هذا العنصري كافية لوحدها في تنحيته من كل عمل جاد، لكن غوغنهايم لم يتحرج من هذا الأمر، بل يعترف بصداقته له.

ومن جهة أخرى، فإننا نسجل غياب هذا الحدث من الإعلام العربي الذي لم يعد يهتم إلا بالفضائح والإثارة والسياسة بمعناها الرديء وأخبار المغنيات الساقطات. أما المتابعة العلمية للكتب والمساهمة في الحوار الدائر حول القضايا الكبرى التي لها انعكاسات قوية ومباشرة في الشؤون العربية والإسلامية، ففريضة غائبة ووظيفة تكاد تكون منعدمة. لكننا نسجل مع كل هذا التحفظ مقالتين إخباريتين صدرتا في جريدتين خليجيتين، إحداهما الرياض السعودية (14 مايو)، والثانية البيان الإماراتية (26 أكتوبر)، إضافة إلى مقالة ثالثة في جريدة السفير اللبنانية. وهي مفارقة غريبة كيف أن الصحف العربية القريبة من الفرانكفونية في شمال أفريقيا لم تغط الحدث ولا تكلمت عنه، بينما صحف خليجية ثقافتها الثانية أنجلوساكسونية أدركت أهمية هذا النقاش الفكري وعرَّفت به بشكل مقتضب. ولعل لمراسِلَيْ الصحيفتين العربيتين في باريس دور مباشر في هذه الفطنة الصحفية.

الدفاع عن الهلينية والخصوصية الكاثوليكية الأوروبية

إن هذه الفكرة ليست جديدة كما يزعم غوغنهايم، بل إنها مما تواتر بها العلم منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أما العنوان الفرعي للكتاب (الجذور اليونانية لأوروبا المسيحية) فليست فيه أصالة تستحق الذكر لأنه مقتبس (من دون إحالة) من عنوان مقالة صدرت بالإيطالية لصاحبها كولومان فيولا سنة 1967. كما نجد كاتبا آخر هو جاك هيرز يكتب في مجلة التاريخ الجديدة (ع. الأول، 2002، ص: 51-52): (إن العرب والمسلمين لم يدرسوا علوم اليونان كما فعل المسيحيون. ولهذا فلا مجال للادعاء بأن الغربيين تعلموا من العرب والمسلمين، وإنما هي جهالة وتخريف ونوع من جلد الذات). كما نجد نفس الأمر عند مجموعة من المثقفين المحسوبين على الأوساط المسيحية يروجون لمثل هذه الأفكار. والقضية تتجاوز البحث العلمي لتصبح شعاراً انتمائياً لمن يخشون من ظهور الإسلام على الساحة الدولية في مقابل الغرب المسيحي. ويظهر أن البابا بينيدكت السادس عشر الذي يخشى على الهوية الثقافية المسيحية للغرب يتزعم هذا التوجه الجديد للكنيسة ويسعى لوضع تقابلات حضارية لا أساس علمي لها ويأباها العقلاء، كما ظهر من محاضرته التي أثارت جدلا واسعاً حول الإسلام والعقل في جامعة راجنسبورج بتاريخ 12 سبتمبر 2006.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المجلة قريبة من الأوساط اليمينية المسيحية، بل إن أحد الصحفيين (روني مارشان) الذين يكتبون فيها محسوب على الأوساط العنصرية المناهضة للإسلام والمسلمين، وله كتب، كما ذكرنا أعلاه، تفصح من خلال عناوينها على توجهاته. فمن ذلك كتاب: (فرنسا مهددة بالإسلام: بين الجهاد وحملات الاسترداد) (2002). وله كتاب آخر بعنوان: (محمد: تحقيق عن مستبد معاصر، وأربعة عشر قرناً من التضليل) (2006). وهذا الصحفي هو أحد أصدقاء غوغنهايم وكتبه العنصرية ضمن مراجعه.

وبالموازاة مع كتاب غوغنهايم ظهر مقال عجيب في مجلة تعليق commentaire (العدد: 120، 2007 -2008، ص: 901-926) ينتقد فيه ألان بوزنسون موقف وثيقة مجمع فاتيكان الثاني، التي صدرت في عهد البابا السابق في كيفية التعامل بين الكاثوليكية والديانات الأخرى، حيث يقول صاحب المقال، (فإن الوثيقة وضعت الإسلام على قدم المساواة مع اليهودية والمسيحية)، ويحذر من هذا الأمر قائلا: (إن على الكنيسة أن تواجه الإسلام كما واجهت من قبل النازية والشيوعية).

قضية إسلام الأنوار

لقد قامت الفلسفات الوضعية في القرن التاسع عشر وبداية العشرين بتهيئة الميدان لوصول الاستعمار إلى العديد من الدول العربية والإسلامية بقولها إن على الغرب المتنور أن يحمل الحضارة والمدنية إلى الشعوب المتخلفة. فكان عمل مفكري هذه الفترة التوطئة الفكرية لمثل هذا الغزو الاستعماري. ومن بين هؤلاء الذين أسهموا في مثل هذه الخطة إرنست رينان الذي وجه انتقادات عنصرية في غاية الشدة للإسلام كدين وحضارة، وللعرب والشعوب الشرقية والسامية، من الناحية العرقية. ونحن نفهم الخلفية التاريخية لمثل هذا التوظيف الذي قام به رينان وغيره، لكننا نتساءل اليوم عن غاية التوظيف الجديد الذي يقوم به غوغنهايم وأمثاله من أصحاب نظرية صراع الحضارات التي طلع بها علينا قبله صمويل هنتغتون. وهي نظرية أصولها موجودة عند أوسفالد سبنغلر (1880-1963) الذي كان يتحدث عن عصر حروب الإبادة. ولنا أن نتساءل اليوم عن سر ظهور هذه الكتابات، وهل هي مقدمة لأمر يتم التهييء له، ويعمل الإعلام وخبراء الحروب الذين كثيراً ما طلعوا علينا في الفضائيات إبان حرب العراق وغيرها، على التعبير عنه بشكل ضاج. وما دور الكنيسة والبابا الجديد في هذه الخطة الجديدة ؟

شمس العرب تسطع على الغرب/أو شمس أبولون تسطع على الغرب

يحمل غوغنهايم على المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (1913-1999) ويتهمها بالنازية وعلاقتها مع هينريش هيملر (1900-1945)، وهو من أقوى رجال أدولف هتلر وأكثرهم شراسة. قاد فرقة القوات الخاصة الألمانية والبوليس السري المعروف بالجيستابو وأشرف على عمليات إبادة المدنيين في معسكرات الموت الألمانية. ويذكر غوغنهايم كيف أن هيملر قد عرّف هونكه على الشريف الحسيني، مفتي القدس، الذي تتهمه الصهيونية بموالاة النازية. يقول غوغنهايم (إذا كان هيدجر في نفس الوقت فيلسوفاً عظيماً وقريباً من النازية، فإن زيغريد هونكه ليس بإمكانها أن تكون مؤرخة جيدة. إن الذي يحركها إرادة عدائية ضد الثقافة اليهودية المسيحية، التي تتهمها بتسميم الغرب. لقد رأت في الإسلام نقيضاً مطلقاً لهذه الثقافة… لذا فإن كتابَها كتاب سياسي وليس كتاباً علمياً). ويضيف (بعد الحرب، عاشت زيغريد هونكه في بون ولقيت شهرة كبيرة بفضل كتابها وعنوانه المثير. وأصبحت عضواً في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة. وطيلة حياتها، فإن ز. هونكه رفضت الاعتراف بتأثير المسيحية التي اعتبرتها دخيلة على الألمان… وكانت تدعو إلى هوية أوروبية شريكة مع الإسلام. إن صديقة هيملر، لازالت بفضل كتاباتها، وجهاً متميزاً عند فئة من اليسار المتطرف). (ص: 207).

هذه هي الصورة التي يرسمها غوغنهايم لكل من حاول أن يثبت تأثير الحضارة الإسلامية على أوروبا المسيحية. وكما أن كتاب هونكه ليس كتاباً علمياً بالمعنى الدقيق، فإن كتاب غوغنهايم نفسه ليس كتاباً علمياً، وبشهادة صاحبه الذي أعلن ذلك في الحوار الذي أوردناه أعلاه مع صحيفة لوموند حيث وسم عمله بالتبسيطي التعميمي livre de vulgarisation .

متوالية فيبونتشي

يذكر غوغنهايم أن لا فضل للعرب والمسلمين في تحقيق نهضتهم، بل إن (أوروبا كان بإمكانها أن تسلك نفس السبيل الذي سلكته في غياب أي علاقة مع العالم الإسلامي) (ص: 198). ثم يقول (وباستثناء بعض النصوص المترجمة، فإن المبادلات الثقافية بين الإسلام والمسيحية كانت جد محدودة. إن الحضارة الأوروبية لم تقترض من الإسلام كدين أي شيء، لا مراجع نصية ولا أدلة كلامية أو فقهية. إن أوروبا بقيت وفية لقانونها وتشريعاتها. من الممكن أن بعض المثقفين الأوروبيين قد استعاروا بعض الشروحات الفلسفية من نظرائهم العرب والمسلمين، لكن ذلك كان أمراً محدوداً وخاضعا للغربلة والتوفيق. وحتى بالنسبة لأعمال ابن سينا وابن رشد، فلا أحد بإمكانه القول بأن مفاهيم خاصة عربية أو إسلامية كانت وراء الثورة الثقافية في القرنين 12 و13 الميلاديين) (ص: 198).

إذا كان هذا غير ممكن في ما ذكر، فماذا عن الرياضيات والبصريات وغيرها؟ يقول غوغنهايم، (إن التقدم الحاصل في هذه العلوم لم يعرف في أوروبا، التي سارت في هذه المجالات بمفردها. ونحن لا نعرف على وجه التحديد ما إذا كان فيبوناتشي مثلا قد حقق في القرن 13 اكتشافاته الرياضية بمفرده أم بالاستعانة بكتب وصلت من العالم الإسلامي) (ص: 198). وللمرء أن يستغرب ويتساءل كيف تصل العماية والإنكار إلى هذا الحد تحت غطاء البحث التاريخي والعلمي. ولحسن الحظ فقد تنبه المختصون لهذه العماية ونددوا بها وفضحوها واعتبروها منافية للأعراف العلمية. فمثلا، بالنسبة لما يذكره عن ليوناردو فيبوناتشي، وهو رياضي إيطالي من مدينة البندقية، فقد استقدمه أبوه صغيراً إلى بجاية والتحق بوالده الذي كان يعمل في مكتب للتجار الإيطاليين في بلاد المغرب. وحرص الوالد على تعليم ابنه علوم العرب وخاصة الحساب حتى نَبَهَ فيه ليتمم عمل والده في تمثيل التجار الإيطاليين مع المسلمين. وقد نقل الولد بعد عودته إلى بلاده الحساب العربي والصفر، لكنهم لم يفهموا أهمية الصفر في الحساب فظنوه نوعاً من السحر، إذ لم يكن عندهم علم بكمية الفراغ، وحسبوا أنه يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً فسموه نظام الشيفرة (cifra)؛ أي النظام السري. وقد كان الإمبراطور فريديريك مولعاً بحل ألغاز علماء الحساب العرب والمسلمين. فكان فيبوناتشي يصنعها له فيتحدى الإمبراطور بها علماء بلده ثم يحلُّها لهم فيبوناتشي الذي أخذها عن المسلمين. ومن الأشياء التي أخذها من الرياضيين المسلمين وخاصة من عمر الخيام، المتوالية المعروفة باسمه متوالية فيبوناتشي، وهي منسوبة إليه خطأ. وكنت قد ذكرت هذا في رواية أدبية عن أبي الحسن السشتري بعنوان بلاد صاد (قريبة الصدور). فهذا نموذج من هذه العماية التي تجعل الإنسان ينكر الواضحات.

خاتمة

ومن المآخذ التي يؤاخذ بها غوغنهايم الحضارة الإسلامية عدم اقتباسها السياسة من اليونان، وعدم اهتمامها بترجمة كتاب السياسة لأرسطو إلى العربية. ويحاول المؤلف كعادته أن يضخم الأمر كما لو أن في ذلك دليلا على سيادة الاستبداد كعنصر مكون من عناصر الحضارة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن الحضارات الشرقية الأخرى. والهدف هو أن يفسح المجال للقول بأن اهتمام أوروبا المسيحية بالقانون والسياسة عند اليونان والرومان هو الذي أفضى إلى ظهور الديمقراطية اليوم. ولعلنا نستعرض هنا نصاً لصاعد الأندلسي في عدم اهتمام المترجمين بترجمة كتب السياسة عامة من اليونان إلى العربية، لأن الفكرة السائدة قديماً كانت هي أن أفضل أنظمة السياسة موجودة عند الفرس لا عند اليونان، ولهذا اقتبس المسلمون نظام الدواوين منهم، يقول صاعد في طبقات الأمم (وأعظم فضائل ملوك الفرس التي اشتهروا بها حسن السياسة وجودة التدبير…فكان منهم ملوك لم يكن في سائر الأعصار وسالفها مثلهم رجاحة أحلام وكرم سيرة واعتدال مملكة وبعد صيت) (ص: 62). أما عن ظهور الديمقراطية في أوروبا، فذلك أمر لم يتأت إلا بعد ويلات وحروب وفتن كبيرة لا نظير لها في تاريخ البشرية. وعلى قدر ما ظهر من مفاسد، أقامت أوروبا الديمقراطية بعد قرون طويلة من العنف والعنت والظلم والجور. ولا يمكن الادعاء بأن الأصل هم اليونان، فذلك أمر بعيد، لأن هذه الديمقراطية لم تظهر فيهم، بل كان الاستبداد هو المسيطر.
هذه إطلالة حول هذا الكتاب المثير للجدل، حاولنا من خلالها تعريف القارئ العربي بهذا النقاش الدولي الكبير، ونتمنى أن يشارك فيه المؤرخون والمفكرون العرب بكل جدية وعلمية، خاصة وأن المعهد الوطني للبحث العلمي في فرنسا بصدد إعداد كتاب جماعي للرد على الأفكار الزائفة الواردة في مؤلف غوغنهايم، كما أخبرنا بذلك الأستاذ الفاضل عبد العلي جمال الدين العمراني، والذي هو ضمن الفريق العلمي في باريس الذي تولى هذه المهمة.

وفي الوقت الذي بدأت شعوب حوض البحر المتوسط تفكر في آليات للتقارب والتعاون من خلال “مشروع الاتحاد من أجل المتوسط” الذي أطلقه الرئيس ساركوزي، فإن أطرافاً غربية تقف ضد مثل هذا التقارب، حينما يتحدث غوغنهايم عن هوية الحضارات ويقول بأن مفهوم الحضارة المتوسطية غير مقنع، بينما الحديث عن الجذور اليونانية للغرب لا يمكن دحضه، بينما يرى آخرون أنها فكرة بدون معنى (انظر كتاب مارسيل ديتاين: كيف يمكن أن نكون محليين؟ 2003). ويضيف غوغنهايم (بخصوص الحوار الإسلامي المسيحي في العصر الوسيط الذي كثيراً ما تغنى به البعض، فإنه من الأوهام. إن الذي طبع علاقتهما هو المنافسة المغيبة للآخر). مثل هذه الأفكار تريد إبقاء العالم في صراع دائم وترفض الحوار، بل تحاول أن تجد له تبريرات بتطويع التاريخ وأحداثه ليخدم قضاياها. وكما يقول ألان دو ليبيرا، (إن الحوار بين الإسلام والغرب يجب أن يكون في إطار عقلاني لأن نسيان التاريخ، أو بالأحرى نسيان ما نقله الشرق للغرب هو من أسباب الصراع المفتعل مثل: أزمة الفكر المدرسي الكهنوتي، حل التعارض بين الإيمان والعقل أو الدين والفلسفة كما في تجربة ابن رشد. كل هذا أسهم به الإسلام قبل أن ينتقل إلى الغرب، وكان وراء ظهور نموذج المثقف). إن ما يتناساه غوغنهايم وأمثاله هو أن الفكر اللاتيني المدرسي الوسيط في القرن 13 لم يُعِرْ كتبَ أرسطو أية عناية بقدر عنايته بشروح ابن رشد عليها. لقد وجد هذا الفكر حلولا رفيعة للتوفيق بين الشريعة والحكمة. ولقد ساعدت شروح ابن رشد المسيحيين على تخطي التعارض القائم بين الدين والإيمان في صورة تحافظ على الاثنين، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً من قبل. إن الذي كان سائداً في جامعة باريس آنذاك كما يقول دو ليبيرا هو الرشدية اللاتينية وليس الفكر الأرسطي. لذا نقول لهؤلاء الجاحدين، إننا نعرف التاريخ وما أسهمت به الحضارة العربية الإسلامية لفائدة الإنسانية، ونتطلع إلى بناء تاريخ إنساني مشترك يطبعه التعاون والتكافل والاحترام المتبادل بين جميع الثقافات والشعوب. وكما يقول أندري ميكيل: (إن الحضارة العربية الإسلامية قد جعلت من الثقافة جواز سفر وارتقاء اجتماعي)، فلا مجال لإنكار هذا الأمر بأي وجه كان. إن رسالة الحضارة الإسلامية ستبقى دائماً وفية لهذه الثوابت الإنسانية، ولن تنساق أبداً في الاتجاه المعاكس لأن تلك هي وظيفتها في أن تكون أمة وسطاً وتحقق معنى الإشهاد الحضاري: “وكذلك جعلناكمُ أمة وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً” (البقرة: 142).

المراجع

______________________________________________________________

ذكرنا في هذه اللائحة بعض المراجع فقط وإلا فاللائحة طويلة.
ـ شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه.
ـ طبقات الأمم، صاعد الأندلسي.
ـ الفهرست لابن النديم.
ـ ابن رشد الحفيد، محمد بن شريفة.
ـ جريدة الرياض السعودية.
ـ جريدة البيان الإماراتية.
ـ جريدة السفير اللبنانية.
بالفرنسية

ـ Penser au Moyen âge, Alain De Libera, Seuil 1991.
ـ Ce que la culture doit aux arabes d’Espagne, Juan Vernet, Sindbad 1985.
ـ Aristote au Mont Saint-Michel: les racines grecques de l’Europe Chrétienne,   Sylvain Gouguenheim, Seuil 2008.
ـ L’Islam et sa civilisation, André Miquel, Armand Colin 1977.

ـ جريدة لوموند.
ـ جريدة لوفيغارو.
ـ جريدة ليبراسيون.
ـ مجلة تيليراما.

د. عبد الإله بنعرفة

• نائب المدير العام للإيسيسكو.

• خريج جامعة السربون بباريس، فرنسا.

• دكتوراه في علم الدلالة من جامعة السربون، باريس.
• من مؤلفاته:
– نشأة المفاهيم (بالعربية والفرنسية).
– رواية جبل قاف.
– رواية بحر نون.
– رواية بلاد صاد (تحت الطبع).
• وله مجموعة من الأبحاث في قضايا الجمال والتصوف والسماع والموسيقى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق