مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (9)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها  بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وبالضبط في الإبانة عن مكنون اختيارات الشيخ في رسالته، وقد غبر من خلال نصين أحدهما في حد رفع اليدين، والثاني في أقل الطهر  المعقد الأول المترجم باختيار التخيير.

أما المعقد الثاني وهو اختيار الإطلاق فإذا تقرر في المعقد الأول أن الشيخ خير وقصر لنصوص شرعية وقواعد كلية؛ إذ ليس يخير أو يقصر هكذا سدى، فكذلك في قضية إطلاقه الأقوال دون إبداء الرأي في تخيير بينها أو اختيار لأحدها، ومن ذلك قوله رحمه الله: «وإن ركع الفجر في بيته ثم أتى المسجد فاختلف فيه فقيل: يركع، وقيل: لا يركع»([1]) فقد أطلق الخلاف هـهنا ولم يرجح أحدهما على الآخر ـ كما فعل خليل في مختصره؛ إذ رجح عدم الركوع؛ تبعا لابن القاسم حيث قال: «أحب إلي أن لا يفعل»، وابن عبد السلام في ترجيحه الركوع؛ تبعا لأشهب، وتضعيفا لحديث النهي كما سيأتي ـ([2])؛ لمعنيين:

أحدهما: أن القولين كليهما لمالك، فاستنكف من ترجيح أحدهما على الآخر، ولم يستد له التخيير فأطلق الخلاف، قال الشيخ زروق: «والروايتان مشهورتان، وعن مالك الركوع وعدمه واسع..» ([3])، وقال ابن ناجي: «ما ذكر من القولين كلاهما لمالك»([4]).

والثاني: أن هذا الخلاف مبني على مسألة أصولية مشكلة، وهي ما إذا تعارض نصان كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه، خاص من وجه: ذلك أن النصين إما أن يكون مدلول أحدهما لا يتناول مدلول الآخر ولا شيئا منه فهما متباينان، كلفظة «المشركين» و«المؤمنين» مثلا

وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر فهما متساويان كلفظة «الإنسان» و«البشر».

وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر ويتناول غيره، فالمتناول له ولغيره عام من كل وجه بالنسبة إلى الآخر، والآخر خاص من كل وجه كلفظة «الملائكة» و«جبريل»

وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة، وينفرد كل واحد منهما بصورة أو صور، فكل واحد منهما عام من وجه، خاص من وجه، وهو المراد هنا

إذا تقرر هذا، فقد ورد في المسألة حديثان: أحدهما: (إذا دخل ‌أحدكم ‌المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس”([5]) والثاني: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر”([6]): وقد اجتمعا في صورة وهي: ما إذا دخل المصلي المسجد بعد ما ركع الفجر في بيته، فالأول يأمر، والثاني ينهى؛ إذ لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر وقد صلاها في بيته:

فالأول عام يشمل الذي ركع في بيته والذي لم يركع، خاص بدخول المسجد، والثاني يعم كل مكان داخل المسجد وخارجه، خاص بالنهي بمن ركع خارج المسجد فحسب، فمن رأى إعمال خصوص الراكع قال بعدم الركوع وقضى بالخاص على العام كالشيخ خليل، ومن رأى إعمال خصوص المحل دون المصلي قال بالركوع وقضى أيضا بالخاص على العام كابن عبد السلام، فكلاهما عام من وجه، خاص من وجه: الأول عام فيمن ركع في بيته، ومن لم يركع، خاص بالمحل وهو دخول المسجد. والثاني عام في المحل خاص بالراكع فحسب، «فوقع الإشكال من ههنا، وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف حتى يأتي ترجيح خارج بقرينة أو غيرها، ومن ادعى أحد هذين الحكمين ـ أعني الجواز أو المنع ـ فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث».

فهذا مبنى إطلاق الشيخ للخلاف هـهنا، وهو وجيه لو تكافآ في القوة كما تكافآ في الدلالة، قال ابن عبد السلام: «والظاهر ركوعه، ولا مانع يمنع، والحديث: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) لا يقوى قوة (إذا أتى أحدكم إلى المسجد).([7])

 

([1]) ص 54

([2]) ن التمهيد لابن عبد البر: 20/101، وشرح ابن ناجي  على الرسالة:1/190.

([3]) شرح الشيخ زروق على الرسالة:1/190.

([4]) شرح ابن ناجي:1/190.

([5]) الموطأ كتاب قصر الصلاة في السفر، باب انتظار الصلاة والمشي إليها.

([6]) أطنب في تخريجه وتضعيفه، والحديث عن دلالته الحافظ ابن عبد البر في التمهيد:20/101 وما بعدها.، فليراجع فإنه مفيد جدا.

([7]) شرح ابن ناجي التنوخي على الرسالة:1/190.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق