مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (7)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها  بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وجملته: ادعاء أننا لا نلفي في الرسالة إلا تلخيصا لمسائل قد حررت أصولها، وبينت مآخذها، ونقحت مسالكها في أصول المذهب وأمهاتها

وقد مضى أن الشيخ قد ظهر في طور بلغ فيه الفقه أوجه تقريرا لأدلته، وتمهيدا لمآخذه، وتحريرا لمسائله، وتنقيحا لعلله، وتصنيفا لأمهاته عبر قرون ثلاثة: الأول والثاني والثالث، تتعاوره العقول بإمعان النظر، وتتداوله الأقلام بإتقان التأليف في اقتراء مكيث، وتتبع مهيل([1]) فلم يبق لأهل المائة الرابعة وما بعدها إلا التخريج عن روايات الإمام وأقوال الأصحاب، أو النظر فيهما إطلاقا وتقييدا، تعميما وتخصيصا، شرحا وتأويلا، تأصيلا وتعليلا، جمعا وتهذيبا، تنظيما وتقريبا، أو مراجحة وتغليبا:

ومع هذا الذي تقرر فقد قال رحمه الله في خاتمة رسالته في شأن من درس الرسالة ونظر فيها أنه:«يفهم كثيرا من أصول الفقه وفنونه»([2]) وهو كذلك إذا أمعن النظر في مسائلها، ورد فروعها إلى الأصول والكليات المنتزعة منها، ومن ذلك أنه خير في كثير من المسائل، وأطلق في أخرى لتطرق الاحتمال إلى نصوص الشرع، أو الروايات أو الأقوال، أو لغيرها من النكت التي سنقف عليها من خلال هذه المعاقد: معاقد التخيير والإطلاق والإهمال:

المعقد الأول: اختيار التخيير: وقد تمهد ذلك من خلال هذه النصوص المختارة:

النص الأول: قال رحمه الله: «وترفع يديك حذو منكبيك أو دون ذلك»([3])  ففي هذا النص تخيير فيما ورد من الأقوال في كيفية الرفع عبر عنه بـ «أو» رغم تصديره المشهور؛ وذلك لأمرين:

الأول: أن النصوص الشرعية الواردة في الرفع محتملة، قال في التوضيح: «ومنشأ الخلاف اختلاف الآثار والأحاديث»([4]) ففي صحيح مسلم مثلا روايات: +حتى يحاذي منكبيه) +يحاذي بهما أذنيه) +يحاذي بهما فروع أذنيه) ([5])، وفي سنن أبي داود أيضا: +حتى يحاذي منكبيه) +حتى تكون حذو منكبيه) +حتى كانتا بحيال منكبيه) +وحاذى بإبهاميه أذنيه) +حتى حاذتا أذنيه) +رفع يديه حيال أذنيه) ([6]) +حتى يبلغ بهما فروع أذنيه)([7])؛

والأمر الثاني: أن نص المدونة محتمل كذلك، قال ابن ناجي:«واختلف في ‌منتهى ‌الرفع، فروى أشهب حذو صدره، وقيل: إلى المنكبين، وهو المشهور، والمدونة محتملة لهما في قولها: يرفع شيئا قليلا »([8])

ولهذا الاحتمال في النص الشرعي، والرواية في المذهب حاول أبو الفضل عياض الجمع بين النصوص الشرعية، وروايات الأصحاب، فقال: «وقد يجمع بين الأحاديث وبين الروايتين عن مالك بأن يكون مقابله أعلى صدره، وكفاه حذو منكبيه، وأطراف أصابعهما مع أذنيه، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا..» ([9])

وانتحى الطحاوي في الجمع ـ خارج المذهب ـ منحى آخر فزعم أن اختلاف الآثار لاختلاف الحالات، وذهب غيرهما إلى التوسعة، وإليه جنح الشيخ كما هو ظاهر عبارته، فهو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وهو خلاف غير معتبر، كما علمت، فالأمر فيه واسع([10])

والحاصل أن نزوع الشيخ إلى التخيير مبني على الاحتمال في النص الشرعي، والنص المذهبي، وتصديره المصدر؛ رعاية لمكانة ابن القاسم في المذهب، والله أعلم.

 

([1]) ن للتوسع الفكر السامي للحجوي:2/398، والإنصاف في بيان أسباب الخلاف لولي الله الدهلوي:53.

([2]) ص 217.

([3]) ص 44  قال الشيخ زروق: 1/155: «وقوله «أو دون ذلك» يحتمل أن يكون تخييرا في الفعل فقط، ولم أقف على هذا القول، ويحتمل أن يكون تخييرا في الأقوال كقوله مثل: «مثل ثمانية أو عشرة» في الطهر، فتأمل ذلك».

([4]) التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب تأليف الشيخ خليل بن إسحاق المالكي:1/334.

([5]) كتاب الصلاة: باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود

([6]) سنن أبي داود كتاب الصلاة باب رفع اليدين في الصلاة.

([7]) سنن أبي داود كتاب الصلاة باب من ذكر أنه يرفع يديه إذا قام من الثنتين.

([8]) شرح ابن ناجي على الرسالة بهامش شرح الشيخ زروق: 1/154.

([9]) ن إكمال المعلم بفوائد مسلم لأبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي:2/262 .

([10]) ن في ذلك كتاب الموافقات للشاطبي:5/210.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق