مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

رسالةٌ في: ذَمّ الدَّال قبلَ أسماءِ النِّساءِ والرِّجال. -وتحتها مَقامة أدبية-

بسم الله الرحمن الرحيم

وفّقك الله لشُكره، وأعانك على طاعته، وحبّب إليك قولَ الحق، وصَرَفَكَ عن اتّباعِ الهَوَى، وجعلَك مِمّن يَحْتَمِل غُرْمَ الصّبر، ويقومُ بواجِب الشُّكر.

سألْتَني -وفقك الله- أن أكتب إليك في هذا الأمر الذي لم يَزَلْ يَطْرُقُك منذُ أمَدٍ بَعيد، فلا تنفكّ تُجِيلُ فيه فِكْرَك وتَلْتَمِسُ العُذْرَ لأصحابِه، فأَخَالَ عليكَ مِن حيثُ ظَنَنْتَهُ سَهْلَ المَأْتَى، ولم يستقمْ لك لَمّا عَرَضْتَه على عَقلك، وصَرَفْتَ إليه جماعَ قَلبك، لتكون العِلَّةُ فيه أَوْضَحَ، والقَبُولُ له أقربَ.

وقد أحببتُ منك هذه الخِلال، ورجوتُ أن تكون من جَميل الخِصال، فإنك لم تَزَلْ تُلِحُّ عليّ في السؤالِ فِعْلَ الذي يرجو الجوابَ العاجلَ الذي يَأْتِي له بِما يَشفي غَلِيلَه، ويَسُدُّ خَلَّتَه.

وإن الذي تَدْعُوني إليه، وتَحْمِلُنِي عليه، مُحْوِجٌ إلى نَظَرٍ وتَمَكُّثٍ، موجِبٌ لِاسْتِفْضَال الوَقت واستفْراغ الوُكْد. وقد علمتَ -أصلحكَ الله- أن مَنْزِلَتَك عِندي وإيثَارِي لك يَمْنَعَانِ مِن رَدّ ما سألت. على أنكَ طلبتَ في آخر كتابك أن أُذَيِّلَ الجوابَ بما كنتُ كتبتُه قديما في هذا الأمرِ وَطَوَيْتُه عن أَعْيُنِ الناس، وألَّا أَسْتَبِدَّ به دُونَهم، فإنه -زَعَمْتَ- ممّا يَنبغي أن يطّلعَ عليه جمهورُ المُتعلمين، وناشِئةُ المتأدّبين، وألَّا يُتْرَكَ لِعَوَادِي الدّهر، وقلتَ: ولو تَطَلَّبَ مني الأمرُ أن أَدُلَّ عليه بعضَ الأفاضِل لِيَنْتَزِعُوهُ منك قَسْرا لفعلتُ، لِعِلْمي أنك طَوَيْتَهُ مُسْتَصْغِرًا شَأْنَه، فَلَا تَرَاهُ شَيْئًا بِإِزَاءِ ما كتَبه المُتقدّمون قَبْلَك.

وهذا أيها الكَريمُ مِنْ حُسْن ظَنِّكَ بي، فإنَّك أبدًا تجعلُ الذي بينَنا حامِلًا لك على السَّعْيِ في وُجُوهِ الخَيْرِ لنا. وإني أُقدّر لك هذا الذي تَفْعَلُه وأَعِدُك بِالإِجَابة إلى ما سألتَ، لتعلمَ أنِّي لكَ على مِثْلِ ما أنتَ لِي عَلَيه، مِنْ حِفْظِ الودّ، واسْتِبْقَاءِ الإِخَاء.

وقد نظرتُ في هذا الأمر وأَعْمَلْتُ فيه فِكري كثيرا، لعلّي أَهْتَدِي إلى وَجْهِ تَدْبِيرِ أصحابِه ومَذْهَبِهِمْ فيه، فَوَقَعْتُ على أمورٍ كثيرةٍ تَحَارُ فيها الأَلْبَاب، وتَقِفُ دُونَها الأسْباب. فاقْبَلْ عُذْرِي إنْ وَجَدْتَ في كِتابي هذا شيئا حَادَ عن سبيلِ الصّواب، ولا تَظُنَّنَّ أن إِبْطَائِي عليكَ وَرَاءَهُ الإعْرَاضُ عَمّا سألتَ، فإنِّي مُقْتَحِمٌ أمْرًا لا أدري ما يكونُ بَعده، وما وَقْعُهُ على مَنْ يَصِلُهُ كتابي هذا إن كُتِبَ له القَبول وَسَارَ في الناس وتداوَلوه بينهم، فإن العُقلاء لم تَزَلْ تُؤْثِرُ السلامةَ ولا تَعْدِلُ بها شيئا، وأنت أحقُّ مَن يَقْبَلُ العُذْر، ويُؤَدِّي النَّصِيحَة، ويَلْتَمِسُ العِلَل.

إنِّي لَمّا وجدتُ الأمرَ كما وَصفت، هَمَمْتُ أن أكتبَ فيه بِمَا يَأْتِي عليه مُجْمَلًا في كتابٍ مُفْرَدٍ لهذا الشأن، أَسْتَقِلُّ بِعِبْئِه، وَأَنْتَحِيهِ بِذَمِّه والتَّشْنِيعِ على مَنْ يَنْتَحِلُ صِفَتَه، فحَالَتْ بيني وبينَ ما أردْتُ صَوَارِفُ الدهر الّتي لم تَزَلْ تَطْرُق كُلَّ يَوم، حتى إذا أَتَاني كِتَابُك تسألُني فيه عن بعض ذلك، ابْتَدَرْتُهُ لِئَلَّا يَفْتُرَ العَزْمُ عليه، وبَعَثْتُهُ مِنْ مَرْقَدِهِ الذي صار إليه، وقد أردتُ بما كتبتُ أن أُنَبِّهَ الغافل، وأرشدَ العَاقل، فقدّمتُ لك بِالنُّصْح، وعَاجَلْتُكَ بِسَبِيلِ النُّجْح، فَهِدَايَتَكَ أَرَدْت، وإلى صَلَاحِ أَمْرِكَ ذَهَبْت، فإنْ كان توفيقٌ فَبِاللهِ وَحْدَه، وإن كان غيرُ ذلك فَمِنِّي، وأستغفِرُه عليه.

وبعدُ، اعلم -هدانا اللهُ وإياكَ إلى قَوْلِ الحق- أنّ أمرَ هذه الدَّالِ التي يُصَدِّرُون بها أسْمَاءَهُمْ لا تَعْدُو أن تكونَ ما هي عليه في نَفْسِها، فلا دَلَالةَ فيها عِنْدَ مَن أُوتِيَ حظًّا من العَقْلِ على عِلْمِ صاحبِها أو تَبْرِيزِهِ على أَقْرَانِه، وإنما هي شَهَادةٌ يُعْطَاهَا مَن بَلَغَ مرحلةً من الدرسِ يُنْظَرُ إليه فيها على أنّه قد صَارَ أهْلًا للبحثِ وطَلَبِ العِلْمِ على السَّنَنِ المُتَعَارَفِ عليهِ عِنْدَ أهْلِ هذا الشَّأْن. وما نَرَاهُ اليومَ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا في غَيْرِ ما هي له، فذلك ضَرْبٌ مِنَ الِاغْتِرَارِ بالذَّاهِب، والعُجْبِ بما لا يَنْفَكُّ أن يَكُونَ عَرَضًا زَائِلا، وظِلًّا مُتحوّلا. وقد رأينا بعضَ مَنِ انْتَحَلَ هذه الصِّفَةَ يُقَدَّمُ في المَجَالس، ويُجْعَلُ في الصَّدْرِ مِنْها، فإنْ أَنْكَرَ ذلكَ بَعْضُ الحَاضِرِينَ لِمَا يعلَمُه مِنْ تَأَخُّرِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِه، قيلَ له: هذا فُلان صَاحِبُ الدَّال، فيَدْرِي عِلَّةَ تَقْدِيمِه حِينَئِذ، ويَسْقُطُ عِنْدَهُ العَجَبُ من ذلك الذي شَاهَدَه.

وقد كان بعضُ أصحابِنَا أيامَ الطَّلَبِ إذا رَأى مَن هذه حالُه مِن أصحابِ هذه الدَّالِ المُغْتَرِّينَ بها، نَظَرَ إليهِ نَظَرَ المُشْفِقِ وَمَضَى، وإِنِ اطَّلَعَ لَهُ على كِتاب جَعَلَ يَعْجَبُ مِن قِلَّةِ عِلمِه وكَثْرَةِ خَوْضِه فِيمَا لا يُحْسِنُهُ مِنْ مَبَاحِثِه. ولَعَمْرِي لَقَدْ بُلِينَا بِهِمْ كثيرًا في المَحَافل العِلميةِ حيثُ يحضرُ أهلُ العلمِ ووجوهُ القَوْم، فتكون الزلّةُ فيها أعظمَ منها في غيرِها من المواضع، حتى إذا كثُر منه ذلك قيل: أخِّرُوه، فَكَأَنِّي بالسَّامِعِين يَنْجَلِي عنهُم ما هُم فيه، وتذْهَبُ غَمْرَتُه التِي غَشِيَتْهُمْ.

على أنّا لا نعدمُ مَن هو أَهْلٌ لهذه الدَّال، ومع ذلك لا يَسْتَحْوِذُ عليه الكِبْرُ كَحَالِ مَن ذَكَرْنَا، وإنَّما تَجِدُه إذا تكلَّم فإنما يتكلمُ بلسانِ العِلْمِ الذي يُقَيِّدُه العَقْل، فَيَمْنَعُه من الشَّطَط، ويحُولُ بَيْنَهُ وبينَ الغَلَط، ولا يَنْفَكُّ مُطْرِقًا في أكثر أحوالِه، يُؤْثِرُ السُّكُوتَ على كثيرٍ من الكَلَامِ وإن كان يعلمُ في دَخِيلَةِ نفسِه أنه صَوَاب. ومَن كانت هذه صِفَتَهُ فليسَ مِن هذا الكِتاب في شيء، ولَكِنْ سَبِيلُه غَيْرُ مَا نَحْنُ فيه الساعةَ، إنَّما ذَكَرْنَاه لِبَيَانِ فَرْقِ مَا بَيْنَ هَذَا وذاك.

أمّا ما طَالَعَكَ من عُنْوَانِ الرسالَة فاسْتَفْسَرْتَ عنه، فإني مُخْبِرٌ به ومُوَضِّحٌ شَأْنَه، لِئَلَّا نَضَعَ أنفُسَنا بِحَيْثُ نُجْبَهُ بِالزِّرَايَةِ، وَبِحَيْثُ نُقابَلُ بالإنكار والتَّشْنِيع.

اعلم -وفقك الله- أن العربَ إذا قَدَّمَتْ شيئا في كلامها فهي إنَّما تُقَدِّمُه للعِنَاية به، ونحنُ إنما نَسْلُكُ سَبِيلَهم في ذلك ونَقْتَدِي بِمَذْهَبِهِم الذي ذَهَبُوا إليه، وقد قَدَّمْتُ النِّسَاءَ في العُنْوَانِ لِتَقَدُّمِهِنَّ، وخَصَصْتُهُنَّ دُونَ الرجالِ بِقَدْرِ ذلك في أَنْفُسِهِنّ، وقد عَلِمْنَا أَنَّهُنَّ أَذْهَبُ في التِّيهِ والعُجْبِ  بِما يُنالُ من جُمْهُورِ الرِّجَال. فَلِلرَّجُلِ من ذلك جميعًا إذا كان من أصحابِ هذه الدّال أن يَخُوضَ فيما لا يُحْسِنُهُ مِنْ مَسَائِلِ العِلْم، ويَغْشَى المَجَالِسَ التي لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أو يَتَصَدَّرَ للكلامِ وفي الناسِ مَنْ هُو خَيْرٌ منه، مع معرِفَتِه في نفسِه بقَدْرِه وعَدَمِ بُلُوغِه ذلكَ المَبْلَغ، واطْمِئْنَانِ قلبِه إلى أنه أَدْنَى مِمّا يظهرُ عليه، وإنما جَرَّأه على ذلك تقديمُ أصحابِه له، بِحَيْثُ يَجِدُ في نَفْسِه أنّه أهلٌ لذلك أو أنه قَادِرٌ عليه. وأمّا حالُ النساءِ فَتَخْتَلِفُ عمّا ذكرنَاه باخْتِلَافِ طَبَائِعِهِنَّ عَنِ الرجال، وهِي غيرُ هذه من وجوهٍ، على أَنَّهُنَّ قَدْ يُشَارِكْنَ الرجالَ في أُمُور، فيكونونَ سواءً فيها على مَا جَرَتْ به العَادَةُ في مِثْلِها. فقدْ تَجِدُ المَرْأَةَ مِنْ ذَوَاتِ الدَّالِ ليس بينها وبينَ العِلْمِ سَبَبٌ ولا رَحِم، وهي مع ذلك تَجْزِمُ في نفسها أنها أهلٌ لِما هي عليه، لا يقومُ مَقَامَهَا غيرُها، ولا يُحْسِنُ مِنَ الأمرِ مِثْلَ ما تُحْسِنُه هي، وكلُّ ذلك مِنْ نفسِها، لا عَمَلَ للنَّاسِ فيه، فلا تحتاجُ بذلك لِمن يُصَدِّرُها في مجلسٍ أو يُقَدِّمُها في أَمر، وهذا مع شِدَّةِ التنافُس والتَّحَاسُدِ الذي نَرَاهُ بينَ كَثِيرٍ من النِّسَاء، فيكون ذلك في أحايينَ كثيرةٍ مما يُذْكِي هذا الجزمَ في نفسِها وَيُوغِرُ صَدْرَهَا على مَن تَرَاهَا لا تَبْلُغُ أن تكونَ في مَقَامِهَا الذي تَقَدَّمت إليه، ولو أنَّهَا لَمْ تفعَلْ ذلكَ إِلَّا لِإِغَاظَتِهِنَّ، لَكَانَ ذلكَ عَسَى أنْ يكونَ مِمّا تسعدُ به نفسُها إذا هي بَلَغَتْه، فليس شيءٌ أحبّ إليها من ذلك حِينَئذ.

وغيرُ هذا كثيرٌ مما شاهدْنَاه أو ذُكر لنا، وإنّما نَقْتَصِرُ مِنْهُ على ما يَقُومُ به الحَال، ويُعْرَفُ به المَقَال، فسبيلُ كِتابِنا أن يَعْلَمَ النَّاسُ أَقْدَارَهُمُ  التِي يَسْتَحِقُّونَها، وَمَنَازِلَهُم فلا يَعْدُونَها، لا أنْ نُصَيِّرَهُ إلى المُفَاضَلَةِ بينَ النّساءِ والرجال، في مسألةِ هذه الدال.

على أنّا أيضا لا نعدمُ في النساءِ مَن هي أهلٌ لِما هي عليه، بل وَرُبَّمَا فَاقَتِ الرجالَ في عِلمها وشِدَّةِ حَقْرِها لنفسِها، فلا تَكَادُ تَرِدُ موردًا إلَّا وهي تَرَى أنَّها دُونَ الناسِ جميعا، وهي لَعَمْرِي إذا تَكَلَّمَتْ جَلَّتْ عَنْ نَفْسِها، فكانت في كَلامِها أَبْلَغَ مِنْهَا في سُكُوتِها. فمثلُ هذه تُقَدَّمُ ليستفيدَ الناسُ منها، وتُصَدَّرُ ليَعْلَمُوا أَنَّ هذا الأمرَ ليس بِمُقْتَصِرٍ على الرجالِ دُونَ النساء.

وبابٌ آخرُ لم نَتَعَرَّضْ له في أَوَّلِ الكَلام، وإنما أَخَّرْنَاهُ لبعضِ التَّدْبِير، وهو أنّا قد وَجَدْنا هذا الأمرَ لا يَسْتَقِيمُ على حَال، بل قد يكونُ الظاهِرُ فيه خَفِيّا، والخَفِيُّ فيه ظَاهرا، فلمّا كان الأمرُ على ذلك، دَلَّنَا على أنَّ أهلَ العِلْمِ والمُدَّعِينَ لَهُ لا يستويانِ مَثَلا. والذين يَعْرِفُونَ فَرْقَ ما بين هذا وذاك لا يُحْوِجُهْم شيءٌ إلى المُنَازَعَة في ذلك، فعَلِمْنَا أن الناسَ لم يُؤْتَوْا مِنْ جِهَةِ الجهلِ بِقَدْرِ أحدِهِمَا، بل كان الأمرُ على خِلَافِ هذا كُلّه، وهو أن الشُّهْرَةَ في مثلِ ما نحنُ فيه أَقْرَبُ العِلَلِ لِمَا قَدَّمْنَاه، وقد رأينا أن الناسَ تُغْرَى بما سبِيلُهُ أَوْضَح، وطَرِيقُهُ أَنْهَج، وإن كان لا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْ دَبِير، ولا هُوَ مِنَ العِلْمِ في قَلِيلٍ ولا كَثِير. على أنّا لا نَرَى الحالَ في مثلِ هذا تَخْفَى على النَّبِيه، فلا يَلْبَثُ أن يَظْهَرَ لهُ الأَمْرُ وتَتَوَضَّحَ لهُ السُّبُل.

فإنْ قرأتَ كتابي هذا أيها الكريمُ فلا يَمْنَعَنَّكَ عَيْبُ ما فيه مِنْ رَدِّ ما تَسْتَحْسِنُه منه، واعْمَدْ لِأَيِّهِمَا أَصْلَحُ لِدِينِكَ وَأَوْفَقُ لِمُرُوءَتِكَ فَخُذْ بِه، فإنَّ ههُنا أمُورًا أَعْرَضْتُ عَنْ إِيرَادِهَا لِمَا فيها مِنْ إِطَالَةِ الكلامِ بِما ليس يَحْسُنُ بالكِتَابِ ذِكْرُه. على أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ ذلك بيني وبينَ إِتْمَامِ الفَائِدَةِ لك على الوجْهِ الذي يُرْضِي وَيَأْتِي على جُمْلَةٍ من القولِ على عامّة هذا الموضوعِ.

كما أنِّي لم أَشَأْ أن أَعْرِضَ لِأَسْمَاءِ بعض هؤلاء، فلا يَحْسُنُ أن يَحْمِلَنَا جوابُ مَا سألتَ عنهُ عَلَى أنْ نُصَرِّحَ بالأسماءِ ونُطْلِعَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ مَتَى وَقَعَ ذلك في كتابِنَا لم نَأْمَنْ جَفْوَةَ صَدِيقٍ مُتَجَمِّلٍ كان يَصِلُ ما بينَنَا وبَيْنَه، أو قَالَةَ سُوءٍ تَبْلُغُنَا، وهذا لا يَنْبَغِي أن يكونَ شيءٌ منه في هذا الكتاب.

فافْهَمْ ذلك، فَإِنَّهُ لولا أَنَّك سألتَنِيهِ، ما كنتُ لِأُكَلِّفَ نَفسي أن أكتبه والحالُ كما تَرَى، فليسَ فيهِ إِلَّا وَضْعُ كَلَامِنَا مَوْضِعَ التَّعَقُّب.

وقد جعلتُ في الذَّيْلِ منه ما كُنتُ كتبتُه وسألتنِي أنْ أُطْلِعَكَ عليه، وهو مُودَعٌ في مَقَامَةٍ أَدَبِيَّةٍ، أرجُو أنْ تَقَعَ مِنْكَ مَوْقِعًا حَسَنا.

والحمد لله الذي هيَّأ أسبابَ كل شيء، وصلى وسلم على نبيه، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار.

*   *   *

المَقَامَةُ الدَّالِيَّة:

 

حدثنا صَفْوَانُ بْنُ عَامِرٍ، قال: أنْهَضَتْنِي إلى بلادِ المغرب حاجةٌ عَرَضَتْ، فاستثقلتُ مُؤْنَتَهَا وما فَرَضَتْ، فلمّا تذكرتُ أهلَ تِطْوَان، وما يُذكر عنهم مِن صلاح وإيمان، رجوتُ أن أبلُغَها قريبا، وأَحُلَّهَا حَبِيبا، فاقْتَعَدْتُ طَرِيقَ السَّفْر، وأنا بِبَلَدٍ قَفْر، حتى إذا مرّ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيم، وأصحابُه ما بين صَحِيحٍ وسَقِيم، أتيتُهم فَسَلَّمْتُ عليهم، ثم دَنَوْتُ إليهم، فقال لي حَادِي الْقَوْم، وهُم بين اليَقَظَةِ والنَّوْم: من أين وَرَدْت، وأين أَرَدْت؟ فقلت له: إني رجلٌ مِنْ بَنِي تَغْلِب، وقد أردتُ تطوانَ بالمغرب، فقال لي: إلى أهلك سَاقَتْكَ قَدَمَاك، وعلى مَنْ يَصْحَبُكَ في سَفَرِكَ وَقَعَتْ يَداك. فحمِدْتهم، ورجوتُ الخَيْرَ لَمّا صحِبْتُهُم، وركبنا النَّجائب، وجعلنا بإزَائِها الجَنَائِب، فلمّا بَعُدْنا عن الديار، انبَعث منهم رجلٌ كأنه جذوةُ نار، فجعل يُنشد مِنْ شِعْرِ بَشَّار:

كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا === وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهْ

فالتفتُّ إليه وقلت له: أَتَرْوِي الشِّعْر؟ فقال لي: كيف لا أَرْوِيهِ وَأَدَبُ العَرَبِ مُسْتَوْدَعٌ فيه؟ فتطَارَحْنَاهُ طَرِيقَنَا، ومَعَنا مَزَادَةٌ نَبُلُّ بها رِيقَنَا، وحين أشْرفنا على وجهنا الذي نُريد، قلت له: هل مِن مَزِيد؟ فقال لي: عليك بتطوانَ حيث فحولُ القَصِيد، فافترقْنَا وذهب كلٌّ مِنا إلى قَصْدِه وموضِع رُشْدِه. فلمّا دخلتُها مكثتُ فيها أعواما، وعرفت فيها أقواما، من شيوخ وعلماء، وكُتَّاب وشعراء، فَظَلْتُ أَتَرَدَّدُ عليهم وأُلِمّ، وأسألهم في كل فَنٍّ وعِلم، ورويتُ عن العَرب أخبارَها، وحَفِظْتُ أشعارَها، مما يَتَمَثَّلُ به كُل وَاجِد، ويُرْوَى لِغَيْرِ وَاحِد.

ثم دخلتُ يوما سوقَ الورّاقين، لعلّي أَظْفَر من الشِّعْرِ ببعض الدواوين، أو أجد بعضَ ما كنتُ سجّلته في مجالس الدّرس من العناوين، فَإِذَا بِرجُلٍ عليه عِمَامَة، كأنه ظِلُّ غَمَامَة، جعل يبرق ويرعد، ويَصيح ويُنشد:

ظَمِئْتُ وَبَعْضُ الْمَاءِ مُرٌّ مَذَاقُهُ === إِذَا كَانَ يَسْقِيكَ الْحَبِيبُ بِهِ ذُلَّا

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعِلْمَ حَوَّلَ رَحْلَهُ === لِتِطْوَانَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِي الْوَرَى أَهْلَا

إِلَى أَنْ رَأَيْتُ الدَّالَ تُزْرِي بِمَنْ بِهَا === تَزَيَّا، وَلَمْ يُحْرِزْ عُلُومًا وَلَا فَضْلَا

فقلت له: وَيْحَك، ما أصابك؟ وأيُّ شَيْءٍ رَابَك؟ فانْقَبَضَ مِني، وأعرضَ عَنِّي، فقلت: فما خَبَرُ هذه الدَّالِ، فإني أُلِحُّ عليكَ في السؤال، فنظر إليّ وقال: إن ههنا قومًا، يزعُمون أنهم أحرزوا عِلما، وههنا أُناسا، يَدَّعُون أنهم فَاقُوا في الذَّكَاءِ إِيَاسا، وليس أولائك للعلمِ بِأَهْل، وما هؤلاء لِإِيَاسٍ بِمِثْل، ولكنها الدَّالُ، تذلّ أعناقَ النساء والرجال. ثمّ أخذني إلى قوم يَتَحَلَّقُون، وإلى مَن يُخاطِبُهُمْ يُحَدِّقُون، فنظرتُ فإذا بِنَاسٍ يتكلَّمون بالعربية ويَلْحَنُون، ومعهم امرأةٌ كَبَيْتِ حَسَّانَ فِي دِيوَانِ سُحْنُون، فانطلقَ الرجلُ وشَقَّ صفوف الناس الذين سَمِعُوا ولم يَعُوا، وهو يُرَدِّد: سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقَشَّعُ، فارْتَقَى يَفَاعًا بِحَيْثُ يُرَى، وجعلَ يَحُلُّ مِنْ قَمِيصِهِ العُرَى، فقال: أيها الناس، إنما مَثلي ومَثَلُ هؤلاء، كَمَنْ أُلقي في ظَلْمَاء، أحدُهم اهتدى بما لَقِنَهُ عن العلماء، والآخر يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاء، فقال منهم رجل: نحن أصحابُ الشَّواهد، فلا نَغِيبُ عن المَشَاهِد، تَقْدُمُنَا الدَّالُ إِنْ وَرَدْنَا أَيَّ مَجَال، ثم تكلّم بكلامٍ جَانَبَ فِيهِ الصَّوَاب، وأتى فيهِ بِمَا يُعاب، ولم يَدْرِ أنه فَتَحَ على نفسه شَرَّ بَاب، فأجابه على البَدِيهَةِ وقال:

لك الوَيْل، يا حَاطِبَ لَيْل، قد تكلمتَ بِتفْصيل، لا يَدُلُّ على تَحْصِيل، وأكثرتَ التَّعْلِيل، كأنَّ النَّهَار يَحْتَاجُ إلى دَلِيل، فأين أنتَ ممّن بَلَغَ في العلمِ مَبْلَغا، أَفَتُقَارِنُ المُصِيبَ بِمَنْ لَغَا؟ وأنتَ إن ذكرتَ سِيبَوْيهِ، شَنَّعْتَ عليه، أو ابْنَ جِنِّي، نسبْتَهُ إلى التَّجَنِّي. بلَغَنِي أنك لا تَرَى امْرَأَ القَيْسِ وزُهَيْرًا والنَّابِغَةَ شَيْئا، وَتَعُدُّ شِعْرَ الأعشى وَعَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ قَيْئا، وزعمتَ أن طَرَفَة، لم يأخذْ مِنَ الشِّعْرِ إلَّا طَرَفَه، وإن قرأتَ لابْنِ المُقَفَّعِ والجاحِظ، قلت: هذا كلامُ لَافِظِ بْنِ لَاحِظ. يستوي عندك بَاقِل، مَعَ سَحْبَان وَائِل، فلا تفرق بين الحقّ والباطِل. إن وصفتَ الْحَسَنَ جعلْتَهُ ذَمِيما، أو ذكرتَ الكريمَ صَيَّرْتَه لَئِيما، وتُقَدِّمُ مَنْ جَمَّعَ مِحَاشَهُ على مَن أَعَدَّ يَرْبُوعًا وَتَمِيما. قد ظننتَ أنَّ العِلْمَ هُوَ خَرْقُ المُعْتَاد، وما علمتَ أنه يُؤْتَاهُ المُجِدُّون وَدُونَهُ خَرْطُ القَتَاد، وما بِكَ مَا قُلْت، فَمَا لَكَ وَلِمَا رُمْت؟ إن كنتَ أعمى فما نَظَرُكَ إلى المِرْآة؟ أو كنتَ أَعْرَجَ فما تكلُّفُك لِلْمِرْقَاة؟

حَصَّلْتَ هذه الدَّالَ فظَنَنْتَ أنَّ عَمْرًا شَبَّ عَنِ الطَّوْق، فجعلتَ تُنَاظِرُ في أنَّ السَّقْفَ يَخِرُّ مِنْ فَوْق. لو سألوك في الدِّين لَأَنِفْتَ أن تقول: لا أدري، أو سألوك عن الشِّعْرِ لَكَفَّرْتَ مَنْ يقولُ: لَعَمْرِي. اغْتَرَرْتَ بنفسك إِذْ خَلَا لَكَ الجَوّ، فَإِذَا بَرَزْنَا لَكَ كُنْتَ فِيهِ كَنِقْنِقِ الدَّوّ، وزعمتَ أنّ مَنْ رَآكَ بِعِلْمِكَ أَقَرّ، وما علمتَ أن كُلَّ مُجْرٍ في الخَلَاءِ يُسَرّ. إذا حَمِيَ الوَطِيس، نَكَصْتَ على عَقِبَيْكَ كفِعل إبْلِيس، واقْتَدَيْتَ بِالحَارِثِ بْنِ هِشَام، إِذْ نَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامٍ. وَدَعْكَ مِنْ طَائِفَة، بالطَّعْنِ في أهلِ العِلم بَيْنَ النَّاسِ طَائِفَة، فَلَأَنْتَ في نَظَرِهِمْ أَذَلُّ مِنَ الْعَيْرِ، وفي مِثْلِكَ يُنْشِدُون: فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْر. فَلَا تَغْتَرَّ بهذه الدَّال، واحفظْ عَنِّي هذا الْمَقَال: إنّ العِلْمَ مَا قَرَّ في الصَّدْرِ وَعَقِلْتَه، لا مَا كَانَ بِالشَّوَاهِدِ وَجَهِلْتَه.

فلمّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِه، عَجِبْنَا مِنْ بَدَاهَتِه، وَحُسْنِ بَيَانِهِ وَبَلَاغَتِه. ثُمّ تقدّم نَحْوِي وَأَمْسَكَ يَدِي، وقال: أَزِفَ التَّرَحُّلُ، فَقلتُ له: كَأَنْ قَدِ. فَفَهِمَ عَنِّي ما أَوْرَدْت، وَقَبِلَ مِنِّي مَا أَرَدْت، فَحَسَرَ عَنْ وَجْهِهِ وَرَأْسِه، وَعَرَّفَنِي بِنَفْسِه، فَإِذَا هُوَ أَبُو يَزِيدَ التَّمِيمِيُّ الَّذِي تطارحت معه في سَفَرِنَا الأَشْعَار، وتذَاكَرْنَا الأخْبَار، فقلتُ: أينَ كنتَ هذه المُدّة، وما أَرَاكَ أَعْدَدْتَ للسَّفَرِ عُدَّة؟ فقال: ما زِلْتُ على حالي التي تَرَكْتَنِي عليها، وإِنَّ بِي شَوْقًا إلى الدِّيَارِ يُنَازِعُنِي إليها، فأنشدَ يقول:

مَا عَلَيَّ الْيَوْمَ فِي === عِلْمِ قَوْمٍ مِنْ عَتَبْ

زُرْتُ أَرْضًا أَبْتَغِي === عِلْمَ آدَابِ الْعَرَبْ

فَإِذَا نَاسٌ بِهَا === قَدْ أَتَوْنَا بِالْعَجَبْ

جَعَلُوا الدَّالَ لِمَنْ === جَمَعَ الْجَهْلَ لَقَبْ

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق