مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

رجالات التربية الصوفية وبناء الإنسان، أية علاقة؟

   إن لله عز وجل رجالٌ يندر أن يؤتى لهم بمثال، بيّن أوصافهم في كتابه العزيز، وزاد إيضاح أحوالهم حضرة الرؤوف الرحيم، منهم: ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ [الأحزاب الآية 23]، ومنهم: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ [النور الآية 37]، ومنهم رجال أضاء الله سريرتهم، وكشف الحجُب عن بصيرتهم: ﴿يعرفون كلا بسيماهم﴾ [الأعراف الآية 46]، رجال في القرآن تشتاق إليهم النفوس الزكية، وتهيم في أحوالهم الأرواح النقية، يُجْمِلهم السادة الصالحون في كلمة الصالحين، أو كلمة الأولياء، وهم صالحون لحضرة الله، وأولياءُ أقامهم الله عز وجل لنا في هذه الحياة، وجعل فيهم وبهم ولهم أسرارا لا تُكْشَفُ إلا لقلبٍ زهى بالأنوار، وملأه الله بالأسرار، وكان مأذونا بالمشاهدة من حضرة  النبي المختار عليه الصلاة والسلام، هؤلاء الرجال يقول فيهم سيِّدُهم وإمامهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: إني لأَهُمُّ بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرتُ إلى عُمّار بيوتي، والمتحابين فيّ، والمستغفرين بالأسحار صرفتُ عنهم).[1]

   يُصْرَفُ العذاب عن أهل الأرض بسرِّ هؤلاء، وببركة هؤلاء القوم الذين جعلهم الله غياثا لخلقه، وبابا لقربه على جنة حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.[2]

   رجال تربوا على مائدة القرآن، واقتدوا في سلوكهم وكل أحوالهم بالنبي العدنان عليه من ربنا أفضل الصلاة وأزكى السلام، وصحابته عليهم سحائب الرضوان.

   تلكم التربية التي اتخذها أهلُ الله وأحباؤُه العارفين به المنهاج الأسنى والطريقة المثلى في بناء الإنسان المتوازن، الصالحِ المصلح، النافعِ لدينه ونفسه وأهله ووطنه، فخرّجوا رجالا جعلوا من دين الله شريعتهم، ومن رضاه سبحانه وتعالى حقيقتهم، شُغْلهم الشاغل نشرُ القيم والمبادئ والأخلاق المحمدية، التي بدونها لن يحصل لهذه الأمة رقي ولا نهضة ولا تقدم، إنها القيم التي “لا تعتمد على المال، ولا تعتمد على قوة التكنولوجيا، ولا تعتمد على خيرات الأرض، ولا تعتمد على قوة العدد، ولا تعتمد على صلابة الأجسام، ولكن تعتمد على صلابة النفس في التخلق بأخلاق الله، والتمسك بالقيم التي جاءت في كتاب الله، والتشبه في كل الأحوال بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وقيمه”.[3]   

   وتجسيدا لهذا المنهج النبوي الكريم، وعملا بهدي الكتاب والسنة أنشأ العلماء العاملون -وهم الأولياء المتقون- تلك المدارس التربوية التزكوية التي اصطلحوا عليها ب “الطرق الصوفية”، وأسسوا معانيها ومبانيها على الأسس الشرعية من قرآن وسنة؛ وقد ظهرت تلك الطرق في ساحة العمل الإسلامي كمدارس تربوية سلوكية، وكمشارب روحية تهتم بالتزكية والتربية والترقية والتهذيب، خرّجت أبطالا في كل المجالات وعلى مدى الأجيال، فكان لرجالات التصوف الدور الأكبر والأعظم والأبرز في ترسيخ قيم الإسلام ومبادئ الدين ومُثله وتعاليمه السمحة، فقدّموا الإسلام للناس على وجهه المشرق والوضاء بتلك الروح الدينية السامقة، التي ترقى بالسالك إلى تطهير نفسه والبلوغ بها أعلى المقامات والمراتب، وكانت لمدارسهم ومعاهدهم وزواياهم ومساجدهم في الديار القاصية والدانية الرسالة الروحية والعلمية الكبرى لإصلاح القلوب وتزكية النفوس، وتمتين أواصر التضامن الإسلامي بين مختلف الشعوب الإسلامية التي انتشرت فيها الطرق الصوفية.

   نشعر ونحن في هذه الأيام – المفعمة بالفتن الظاهرة والباطنة– أننا بأمس الحاجة إلى الاستفادة من تجارب الصالحين المصلحين ، لكي نمارس عملية الإصلاح الشامل على بصيرة، ونحمل رسالة الإسلام إلى العالمين، نقية من الشوائب، ومتصلة بالحاضر ومتطلباته، ومستشرفة لمستقبل أفضل، بقلوب ملؤها الحبّ والرحمة والأمل، لأن “الأمر الجامع لشتات الأمة، وبزوغ أنوارها، وإظهار فتوة وبطولة شبابها، وانتصارها على أعدائها، وتحطيمها لكل من يريد كيدها، لا يحدث إلا على أيدي رجال تربوا على منهج الحبيب صلى الله عليه وسلم”.[4] بحيث إنه لا يستقيم الكلام عن التربية الروحية إلا بالنظر في مناقب مشايخ التصوف وكتبهم، وما خلّفوه من علم وصلاح وفكر ينتفع به.

   فرجالات التصوف لم يكونوا من عامة الناس، بل هم رجال علم وشريعة، عارفون بأمور الدين والدنيا، ولا أدل على ذلك من تلك المجالس التي كان يعقدها قطب الإسلام مولاي عبد القادر الجيلاني، والتي لم تكن “تخلو ممن يسلم من اليهود والنصارى، ولا ممن يتوب من قطاع الطريق، وقاتلي النفس، وغير ذلك من الفساق ولا ممن يرجع عن معتقد سيئ، وقد كان يشعر بذلك ويحمد الله عليه، ويفضله على ما كان يهواه من الخلوة بالله، والانقطاع عن الخلق والاشتغال بالعبادات، قال الجبائي: قال لي سيدنا الشيخ: أتمنى أن أكون في الصحاري والبراري كما كنت في الأول، لا أرى الخلق ولا يرونني، ثم قال: أراد الله عز وجل مني منفعة الخلق، فإنه قد أسلم على يدي أكثر من خمسة آلاف من اليهود والنصارى…، وهذا خير كثير”.[5] وكان يقول رضي الله عنه: “سبحان من ألقى في قلبي نصح الخلق، وجعله أكبر همي، إني ناصح ولا أريد على ذلك جزاء، أجرتي قد حصلت لي عند ربي عز وجل، ما أنا طالبُ دنيا، ما أنا عبدُ الدنيا ولا الآخرة، ولا ما سوى الحق عز وجل، ما أعبد إلا الخالق الواحد الأحد القديم، فرحي بفلاحكم، وغمِّي لهلاككم”.[6]

   كانت رسالة رجالات التربية الصوفية عبر تاريخ الإسلام هي إصلاحُ الإنسان وبناؤه البناء المتكامل، البناء الذي يجعله جديرا بأن يكون خليفة الله في الأرض، والذي كرمه الله عز وجل أفضل تكريم، وخلقه في أحسن تقويم، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا، فهو إنسان اكتملت فيه خصائص الإنسانية، وارتفع عن حضيض البهيمية، وهذا الإنسان الصالح هو أساس الأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح، والأمة الصالحة. 

   فقد ثبت بالوجه القطعي الذي يخلو من كل أسباب الشك وألوان الريبة أن أهم عامل من عوامل نجاح أي مشروع إصلاحي أو تنموي يتمثل بالقدرة على إتقان بناء الإنسان، الذي يشكل جوهرَ العملية التنموية، وروحَها وغايتَها وسرَّ نجاحها، لأن بناء الإنسان يعد من أصعب الصناعات التربوية، وفي مقابل ذلك فإن سر فشل مشاريع الإصلاح والتنمية  يكمن في الإنسان نفسه، روحاً وفكراً وأداءً.            

   لهذا انطلقت مناهج التربية الروحية من هذه المُسَلَّمة، مُركزة على ذلك المضمون الداخلي في الإنسان والمرتبط بالله تعالى، “وهو الذي يشكل الأساس الذي يُقوِّم صرح الشخصية الإسلامية بالكامل، وتصدر عنه عناصرها الأخرى وسماتها، وخصائصها المميَّزة عن الناس، وعلاقة الإيمان بالله وخوفه ورجائه والتواضع له والإخلاص، بالعبادة الخارجية من صلاة وصيام وأذكار…، وكذلك الحال في الأخلاق والتربية الروحية هي بالنتيجة بناء هذه العلاقة الداخلية للمؤمن بالله، وتنميتها، وتحصينها، والحفاظ عليها”.[7]

   لقد عمل شيوخ التربية الصوفية على بناء الشخصية الإسلامية، بغرس قيم التربية الروحية في النفوس، انطلاقا من اعتبارها النموذج الأمثل لبناء الإنسان وإخراجه من براثن الجهل والأزمات باختلاف أنواعها ومجالاتها، وقدرتها على امتصاص المحن والبلايا، وتجاوز الأزمات والصمود في وجه التحديات، “حتى يكون الإنسان المسلم مُجسِّداً للإسلام في الفكر والروح والسلوك الشخصي، أي متعلقا بالله تعالى، ومتعاملا معه بالطريقة التي يحددها الإسلام لهذا التعامل، وبناء الشخصية الإسلامية هو الآخر جزء من الاهتمام بالمجتمع والناس، وعملية الإصلاح والتغير الاجتماعي، لأن الإسلام كما ينظر في أخلاقه وتربيته وأحكامه للأفراد، كذلك ينظر إلى المجتمع…”.[8]

   إن التصوف بمناهجه التربوية السلوكية: من تزكية للنفوس من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، وتربيتها على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى العبادة والذكر، والتسبيح، والاستغفار، ومراقبة الله سبحانه وتعالى، وعلى الإخلاص والخلق الكريم، حتى تتكون جماعات من الشباب المسلم في كل مكان يعشقون ذكر الله عز وجل، وبذلك يمكن أن يقوموا بالدور الذي قام به أسلافهم الصالحون في سبيل نشر هذا الدين الحنيف بين أبناء الأمة الإسلامية.

لا يجادل أحد في أن بناء الإنسان كبناء البيت، يجب أن يكون أساسه قويا، ولن يكون أساسه قويا إلا إذا تربى على أخلاق أهل القرآن وأهل الله تعالى العارفين به، الواقفين عند حدوده، الذين بلغوا أعلى المقامات والرتب في معرفة المولى جل في علاه، وعلى طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن رُبِّيَ على هذه الأسس نشأ كالجبل: خلقا وحكمة وتصرفا، “فمزارعُ الصالحين، ومعسكراتُ المقربين، ومراكزُ تدريب الأولياء والعارفين هي التي تُخَرِّجُ هذا الصنف العزيز من عباد الله في كل وقت وحين”.[9]

وعليه، فلا مخرج لنا مما نحن فيه إلا برجال على هذه الكيفية…

رجال الواحد منهم بألف كما يروي لنا تاريخنا الإسلامي…

رجال لا يستحيون من الحق، ولا يخافون في الله لومة لائم…

رجال يتناصحون فيما بينهم، ويأخذون بأيدي إخوانهم إلى الحق وإلى المنهج القويم…

رجال دفة مركبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم…

 رجال يصْحَبُون ويتَّبعون ويريدون من هم في كفالة الله عز وجل وفي صيانته سبحانه،   من أوليائه الصالحين المصلحين الذين يمسكون بالمذنبين والضالين والمُبْعَدين، وليس بشدة ولا بقساوة ولا بغلظة، لأنهم يعلمون أنهم مرضى يحتاجون إلى إشفاق الطبيب…

رجال يرى الناس فيهم آثار وثمار التربية الروحية، كأنهم قرآن يمشي على الأرض…

   نحن في حاجة إلى صحوة أخلاقية، تطابق فيها أخلاقنا أخلاق كتاب الله عز وجل، وأخلاق حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، حتى نكون محسنين إلى هذا الدين، ونحسن عرضه على العالم أجمع، وكانت هذه رسالة رجالات التربية الصوفية الذين عملوا على بناء الإنسان المسلم من الداخل، تربية وترقية وتزكية وتهذيبا، لأنهم يخاطبون القلوب، فهي مركز الداء والدواء، عالجوها بالذكر الكثير، والتوجه السليم، والصدق في الطلب، والإخلاص في الدعوة إلى الله عز وجل، لم يكن همهم سوى الإصلاح، إصلاح محتوى الإنسان الداخلي، فإنه متى صلُحَ تعامل “مع الخلق بالجمال القرآني، ومع الحق بالصفاء النوراني في قلبه، فمن رآه من الخلق أحبه، لأخلاقه ولأدبه، ولحسن هديه في تعامله مع من حوله، هذا هو المسلم الذي يقدم الإسلام إلى جميع الأنام، وإذا كان مع ربه تراه خاشعا، تراه وكأنه حاضر بقلبه مع مولاه، يظهر عليه سيما الخشية، ويظهر عليه تقوى الله، لأنه يرعى الله في كل حركة وسكنة، ويوجه النيات لله، فلا ينوي عملا إلا إذا ابتغى به وجه الله”.[10]

   وفي هذا السياق سأورد كلاما للعلامة سيدي أحمد لسان الحق رحمة الله عليه لما خاطبه أحدهم قائلا: أُخْبرت أنك منتسب لطريقة صوفية، وتأخذ عن شيخ صوفي، وأنك مقدم فيها، وأنت عالم فقيه، فكان جوابه: العلم الذي عندك عندي، وليس هذا ما أطلبه، وإنما أطلب علما ليس عندك ولا عندي، وأنا محتاج وفقير إليه، وأنت لست بمستغن عنه، إنه سر لا إله إلا الله الذي تنشرح به الصدور، وتلين به القلوب، ويوافق فيه السر العلن، وتصلح به النيات، وتزكو به الأخلاق، وتهتز به الأرواح شوقا إلى ربها، وقد عثرت على الذهب الإبريز، فلن أفارقه إلى أن يأخذ الروح باريها. فهذا الذهب الإبريز لا يملكه إلا شيوخ التربية الروحية، ولذلك اعترف بفضل هذه الصحبة في مقدمة كتابه الحقيقة القلبية فقال: “إلى العالم بالله الذي اخترنا طريقته في التربية الروحية، وأسلوبه الرباني الحكيم في الدعوة والإرشاد والهداية نموذجا تربويا عمليا لهذه الدراسة، الشريف الرباني والشيخ المربي الذي أنقذ الله على يده الكثير من الحائرين، وأصلح الكثير من المفسدين، وأيقظ الكثير من الغافلين، الداعية إلى الله بإذنه ومن أجله الشيخ الحاج حمزة ابن الشيخ الحاج العباس ابن الشيخ سيدي المختار القادري البودشيشي لقبا، أهدي هذه الدراسة ولسان حاله يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا، والواقع أنه بعد صحبة والده -رحمه الله- هو الذي أهداها إليّ حقيقة، قبل أن أردها شكلا إلى مصدرها اعترافا لأولي الفضل بفضلهم”. (الحقيقة القلبية، ص:4).

 

الهوامش

[1]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك، رقم 9051.

[2]) العطايا الصمدانية للأصفياء، فوزي محمد أبو زيد، دار الإيمان والحياة، القاهرة، ط1، 1432ھ/2011م، ص ص: 9-10.

[3] شراب أهل الوصل، فوزي محمد أبو زيد، دار الإيمان والحياة، القاهرة، ط1، 1434ھ/2013م، ص: 9.

[4] المرجع السابق، ص: 8.

[5] رجال الفكر والدعوة في الإسلام، أبو الحسن علي الحسني الندوي، تحقيق: مصطفى أبو سليمان الندوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1420ھ/2000م، ص: 191.

[6] المصدر نفسه، ص: 192.

[7] نظرات في الإعداد الروحي، حسين معن قده، تحقيق وتنقيح: مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط2، 1412ھ/1992م، ص ص: 41-42.

[8] المرجع السابق، ص: 53.

[9] الولاية والأولياء، فوزي محمد أبو زيد، دار الإيمان والحياة، القاهرة، ط1، 1428ھ/2007م، ص: 133.

[10] أمراض الأمة وبصيرة النبوة، فوزي محمد أبو زيد، دار الإيمان والحياة، القاهرة، ط1، 1434ھ/2013م، ص: 16.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق