مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

بيان القول في مسألة التوسل

طارق العلمي: باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.  

   من المعلوم أن من أوائل ما عمل عليه علماء الأمة إبان تشييد بناء العلوم الإسلامية، وحفظ استقلالية كل منها، أن يؤسسوا بالتلازم مع ذلك منهج في كيفية استخلاص الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، علما بأن من الأسباب التي أثارت فتنا عظمى داخل هذه الأمة، تمثلت في خرق منهج قراءة الأصول الشرعية على هدي ما كان عليه سلف الأمة، فأصبح التحريف والتعمية والتهويل، وقلب الحقائق، واحتكار الصواب، والانفراد بالتوحيد، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، فتسمى الزيارة عبادة، والتوسل شركا، وسوء الفهم -عند هؤلاء- كفرا، وتنتقل أحكام الحلال والحرام إلى أحكام الكفر والإيمان، وتسحب الآيات التي نزلت في الكافرين والمشركين والمنافقين لتطبق على أهل القبلة من المومنين، مع الفارق الأكبر من كل الوجوه.

   ومن هذه المواضيع التي أثارت نقاشا عند بعض المتأخرين ما تعلق بمفهوم التوسل، الذي وجد فيه البعض مدخلا في حل ذلك الرباط الوثيق بين الأمة وصلحائها، فالتوسل “هو الطلب من الله تعالى مباشرة مع الاستشفاع إليه بما يحب أو بمن يحب”[1]، فالله تعالى هو المقصود المنفرد بالعطاء، وهو المطلوب منه وحده لا سواه، وابتغاء الوسيلة مما أمر به في القرآن صريحا واضحا، فقد قال المولى عز وجل ﴿وابتغوا إليه الوسيلة﴾ [المائدة الآية 35] والوسيلة بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص، والتوسل بالأعمال، أما شمول الآية للتوسل بالأشخاص، فليس هو برأي مجرد عن الدليل، بل هو المأثور عن عمر الفاروق رضي الله عنه، قوله: “اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون”[2]، كما أضاف في الاستيعاب قول الفاروق: “هذا والله الوسيلة إلى الله عز وجل”[3].

  أما في السنة عن عثمان بن حُنَيف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد وقد شُقَّ علي، فقال الصادق المصدوق: ائت الميضاة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه بك إلى ربك فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر”[4].

   وعلى التوسل بالأنبياء والصالحين أحياء وأمواتا جرى عمل السلف طبقة عن طبقة، فقول عمر في الاستسقاء إنا نتوسل إليك بعن نبينا نص على توسل الصحابة بالصحابة، وفيه إنشاء التوسل بشخص العباس رضي الله عنه، وقوله: كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوسلون به صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد لحوقه الرفيق الأعلى إلى عام الرمادة، وقصر ذلك على ما قبل وفاته عليه السلام قول ينطوي على اعتقاد فناء الأرواح المؤدي إلى إنكار البعث، وعلى ادعاء انتفاء الإدراكات الجزئية من النفس بعد مفارقتها البدن، المستلزم لإنكار الأدلة الشرعية في ذلك.[5]

   وقد ورد في الصحاح من اجتماع أرواح الأنبياء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، واحتفالهم به، وما تبادلوه من خطب، وما حدث بينه وبينهم من أخذ ورد في المعراج من سماء إلى سماء، مما يدل على أن حياة الأرواح موصولة بأهل الأرض. ودليل آخر حاسم في موقفه صلى الله عليه وسلممن المشركين الذين قتلوا يوم بدر، وسُحِبوا إلى القليب، وقد جعل يحدثهم صلى الله عليه وسلم، فلما سُئل عن ذلك قال: “والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم”[6] فإذا كان المشركون بعد الموت أشد سماعا من المسلمين في الحياة، فكيف يكون شأن موتى المسلمين؟

   وقد صحت أحاديث سماعه صلى الله عليه وسلم المصلين عليه ورده عليهم، كما صحت أحاديث أن الموتى يردون السلام على من يسلم عليهم، وأنهم يعرفونه، وأن الميت يتأذى مما يتأذى منه الحي، وأنه ينتفع بصلاة الجنازة والزيارة، والصدقة، والدعاء، والقرآن، وقد ألف في الحياة البرزخية غير واحد من علمائنا الأعلام، وفي صدرهم العلامة المحدث الشيخ اللكنوي في “تذكرة الراشد”، وابن القيم في كتابه “الروح”، ولو لم يكن في يدنا من حجة غير هذا الكتاب لكفا الناس الكلام، وكذلك كتب الشيخ يوسف الدجوري :سبيل السعادة” والشيخ طنطاوي جوهري :الأرواح”، وحق الشيخ العلامة زاهد الكوثري رسالة بعنوان: “محق التقول في مسألة التوسل”، أجاد فيها وأفاد.

   أما من جهة المعقول فإن أمثال الإمام فخر الدين الرازي، والعلامة سعد الدين التفتازاني، والعلامة السيد الجرجاني وغيرهم من كبار أئمة أصول الدين، الذين يفزع إليهم في حل المشكلات في أصول الديانة قد صرحوا بجواز التوسل بالأنبياء والصالحين أحياء وأمواتا، وأي أحد يمكن أن يرميهم بدعوى الإشراك وعبادة القبور، وإليهم تفزع الأمة في معرفة الإيمان والكفر، والتوحيد والإشراك. والمدد كله عند الجميع من مسبب الأسباب جل جلاله، فدونك نصوصا من كلام هؤلاء الأئمة في هذه المسألة، قال التفتازاني في شرح المقاصد: “بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات جزئية وإطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء، سيما الذين كانوا بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا، ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بمنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات، فإن  للنفس بعد المفارقة تعلق ما بالبدن وبالتربة التي دفن فيها، فإذا زار تلك التربة وتوجهت نفسه تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات”[7].

   وقال العلامة السيد الشريف الجرجاني في أوائل حاشيته على المطالع عند بيان الشارح وجه الصلاة على النبي وعلى آله عليه وعليهم الصلاة والسلام في أوائل الكتب، ووجه الحاجة إلى التوسل بهم في الاستفاضة قوله: “فإن قيل هذا التوسل إنما يتصور إذا كانوا متعلقين بالأبدان، وأما إذا تجردوا عنها، فلا، إذ لا جهة مقتضية للمناسبة، قلنا: يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها، متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية، فإن أثر ذلك باق فيهم، ولذلك كانت زيارة مراقدهم مُعدة لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين، كما يشاهد أصحاب البصائر”[8].

   فالتوسل بالحي أو الميت ليس توسلا بالجسمانيات ولا بالحياة أو الموت، ولكن بالمعنى الطيب الملازم للإنسان في الموت والحياة، وهي تلك النفحة الإلهية، والسر الكامن في جوهر الإنسان النموذج، بتلك المحبة الإلهية المبثوثة في قلوب المحبوبين من أهل الوجاهة عند الله والقبول لديه، بكونهم من أهل استجابة الدعاء، سواء كان نطقا باللسان أو توجها بالقلب، وتعلقا للإرادة والهمة، كما جاء في الحديث الصحيح: ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وحديث: “من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين”[9] أو كما قال صلى الله عليه وسلم: “رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره”[10]، وهو تفضل الله تعالى على عبده بإيقاعه تعالى الأمر على مراد عبده الظاهر، كما يجيء في دعائه القولي، أو توجهه القلبي، أو تحرك إرادته الروحية، فليس العبد مصرفا شيئا مع الله تعالى، ولكن الله تعالى يتفضل فيصرف الأشياء كما هي في علمه على مراد أوليائه وأحبائه، تنفيذا لسبق إرادته، وهذا مقام خاص ب “الربانيين” الذين هم على قدم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، فكل ما يصدر عنهم ليس منهم، فقد ذابت بشريتهم، وفنيت إرادتهم، وبقيت روحانيتهم، لقيامهم في مقام المحبوبية، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح عن الله: “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها”[11] ومعنى هذا تجرده من كل شيء، إلا من مظاهر انعكاس الصفات الإلهية عليه، فتظهر شؤونه كأنها منه، وما هي إلا من الله، وهو مقام ﴿هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب﴾ [ص الآية 39] .

   وعليه فإن الأمة جرت على التوجه إلى صالحيها الذين لهم مزية وخصوصية عند المولى عز وجل قصد استمطار الفضل الإلهي خصوصا عند اشتداد الأزمات، وضيق الأحوال، وحينما نتصفح كتب المناقب نجد حكايات عن الصالحين بهذا الخصوص،  يذكر أن الشيخ أبا يعزى اشتكى إليه الناس احتباس المطر، فرمى طاقيته وبرنوسه وأخذ يبكي ويتضرع إلى الله قائلا بالبربرية ما معناه بالعربية يا مولاي هؤلاء السادات يرغبون من هذا العبد أن يستسقي لهم، وما قدري أنا حتى يطلب مني هذا؟ واستمر على ذلك، فهطلت الأمطار[12]، وكذلك الشأن بالنسبة لأبي العباس السبتي الذي “كان أصل مذهبه مبنيا على الصدقة، وكان أمره عجبا في إجابة الدعاء بنزول المطر، حتى قال عنه معاصره ابن رشد الحفيد قولته المشهورة: هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود، وغير هذه الروايات كثير.[13]

هوامش

 

[1] اللإفهام والإفحام قضايا الوسيلة والقبور: محمد زكي إبراهيم، اعتنى به وخرج أحاديثه: محيي الدين يوسف الإسنوي، ط. الخامسة 1425هـ/2004م، ص 20.

[2] صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، رقم 964.

[3] الاستيعاب في أسماء الأصحاب: ابن عبد البر، الناشر مكتبة مصر، -دون-، 3/53.

[4] جامع الترمذي،

[5] محق التقول في مسألة التوسل، ضمن مقالات الكوثري، دار السلام، ط. الثالثة، ص 286-287.

[6] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي الجهل، رقم 3757.

[7] نقلا عن صاحب كتاب محق التقول في مسألة التوسل، ص 290.

[8] نفس المرجع، ص 291.

[9] – صحيح البخاري، كتاب الرقاق، إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه، رقم 6137.  

[10] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الضعفاء والخاملين، رقم 2622.

[11] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه، رقم 6137. 

[12] التشوف إلى رجال التصوف: التادلي، تحقيق: أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية –الرباط- ط. الثالثة 2010م، ص 231-232.

[13]– المصدر نفسه، 454. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق