وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

رباط الفتح

تحميل كتاب : تاريخ رباط الفتح – عبد الله السويسي

عبد الله الجراري

إذا كان العمران سبق في الضفة اليمنى السلوية وكانت الضفة اليسرى فضاء واسعا ليس فيه إلا القصبة كانت أوفق محل لتدبير الحركة السياسية والعسكرية إلى الأندلس، لقربها أولا من بغاز جبل طارق والثغور البحرية التي يعبر منها الغزاة إلى الجزيرة، وكان عددهم يبلغ أزيد من المائة ألف100.000، ولقتال البرغواطيين ثانيا، ولتوسطها ثالثا بين مخلاتي الغرب والحوز، لهذه الغاية -اختط عبد المومن:«المهدية»- وهي: القصبة التي كان ينزلها إذا أراد إبرام أمر وتجهيز جيش.
وكانت همة الموحدين تطمح إلى إعادة عظمة عصر بني أمية -من علوم وفنون وصنائع- خاصة منهم المنصور، فقد اشتهر بحب العلم وجمع الكتب، بل كان يتناقش مع ابن رشد الفيلسوف الشهير، وظهر لعهده جمهرة من العلماء والشعراء والفلاسفة، وكان يختار لإقامة تلك الآثار وتشييدها مدينتي العدوتين، ومراكش بهذه العدوة، وإشبيلية بتلك العدوة.
وشيد جامع حسان بربوة تشرف على مصب النهر المزين بمنارة المسجد الأعظم المضروب به المثل في الشموخ ورائع الصنعة والهندسة، وقد نقش حول إحدى نوافذه من جهة البحر -صورة سيفين عظيمين مصلتين، رؤوسهما إلى السماء- وفي تخصيص تلك الجهة بهاتين الصورتين إرعاب للعدو المهاجم من البحر، ورمز إلى التهيؤ والاستعداد.
مدينة رباط الفتح -العاصمة اليوم- ابتدأ تأسيسها يوسف بن عبد المومن الموحدي، وشيدها ابنه يعقوب المنصور، وأعطيت لقب -رباط الفتح- تذكارا للفتح الأندلسي الذي كان بناؤه من غنائمه، ولأنه بني لغرض الجهاد والفتح، وبه فتح على الموحدين، لهذا فهو رباط الفتوحات والفاتحين، ومعترك الجهاد والمجاهدين، ومعبر العساكر والجنود، ومركز تجهيزالجيوش ونشر البنود.
قال ابن الأثير: بنى يعقوب المنصور مدينة محاذية لسلا من أحسن البلاد وأنزهها، ويقول ليون الإفريقي في تاريخه: إن المنصور لما اختط رباط الفتح سنة 593هـ جعل عليها من أمناء المصامدة من ينظر في أمر نفقاتها وما يصلحها من الفرق الاحتياطية والقوات العسكرية، ولم يزل العمل فيها مدة 15 سنة. وكان يقطن بها نحو الستة أشهر في السنة، وقد وضع تخطيطها على تصميم الإسكندرية المدينة المصرية الجميلة الواقعة على شاطئ المتوسط، ومن رأى هذا الشاطئ يؤمن بالتشابه والتقارب الواقع بين الشاطئين طولا وجمالا، واتساعا، وحسن تقسيم.
وللشاعر الفحل قائلا:
رباط الفتح مأوى الفاتحينا           بكعبته يطوف الناس حينا
هو البلد الأمين ومن بناه            عظيم من ملوك المسلمينا
إلى المنصور نسبته وأعظم           به نسبا يزكي الناسبـينا
ويتصل بهذه المدينة بقايا آثار مدينة شالة العتيقة، حيث هناك أضرحة أشهر ملوك بني مرين وبعض آثارهم، كالمدرسة والمسجد.
ويقال إن البناء الأول الموحدي كان يتصل بأبنية شالة، إذ كانت الدور والأسواق والمرافق وما إليها في طول مارة على ما يعرف اليوم بشارع القناصل ووقاصة، خارقة المرتفع المتصل بالمنزه والمشرف على شالة الأثرية، المنزه الذي كانت على شرفاته قصور الموحدين، ومن هذا المعنى أتته تسمية المنزه.
وإذ ندم المؤسس المنصور على تأسيس المدينة -كندمه على غيرها- حيث شاهدها فارغة حين التأسيس، فها قد تحققت نيته الأولى، وأصبحت جوانبها تكتظ بالسكان، وتزدحم عشرات الأحياء الجديدة بحمل الواردين عليها من أطراف المغرب وغيره، كتوأمتها سلا، ذات الأثر الموحدي المتجلي في مسجدها الأعظم والمدرسة التي لم يبق عليها الدهر، والأثر المريني الخالد بفنيته البارزة في المدرسة المرينية قرب المسجد.
فبعد وفاته انتقل إليها غالبا أهل شالة (الأثرية) وعمروا بعضها، ولم تتسع عمارتها بالمعنى الكامل إلا عند استيطان أهل الأندلس بها لدى خروجهم من الجزيرة مشردين بنفي العدو سنة 1017هـ-1602م فتفرقوا في بلاد المغرب الأدنى، والأوسط، والأقصى، وخرج منهم بسلا طوائف عبروا الرباط فحصنوه فبنوا فيه القصور والدور والحمامات، وذلك أيام «فيليبس الثالث»، وعددهم 6000 نزلوا بقياطنهم بحسان وبنوا سورا من سيدي مخلوف المطل على أبي رقراق إلى باب الأحد، ثم بنوا دورهم بنواحي العلو من «لوبيرة» إلى البحيرة قربا من البحر واستنشاقا لهوائه. ثم جدد المولى سليمان العلوي باب السور المذكور لما بلغه أن نابليون جاء إلى اسبانيا (1)، فأصدر قدس الله روحه مكاتبه إلى ولاة المغرب وعماله يحثهم على تجديد أبواب البلاد ودروبها -كما جاء بتاريخ ابن عبد السلام الضعيف- وهؤلاء جماعة من أهل الدار البيضاء تقدربـ 600 عائلة أخرجهم البرتغال من ديارهم سنة 915هـ1510م فنزلوا بالبحيرة من الرباط إذ أنقذهم الله من شر العدو البرتغالي الذي هدم البيضاء وقتئذ وما أبقى حجرا على حجر.
ومن نوازل العلامة عبد العزيز الزياتي الكبرى في ترجمة- نوازل الجهاد- من سؤال وجهه أندلس سلا الجديدة -يعني رباط الفتح- للعلامة أبي المهدي السكناني في شأن نفارهم من طاعة محمد العياشي. منه في وصف الرباط حين خروجهم من الأندلس إليه: وكان هذا الثغر قبل دخول هذه الجماعة له وسكناها فيه – في غاية الإهمال- فبالغوا في تشييده وتحصينه وبناء مساجده وأسواقه حتى صار حاضرة من الحواضر، وأصبح الناس يؤمونه من كل ناحية، وكانوا في نحر الكفرة في البر في جزائرهم، وكانوا يغزونهم في عقر ديارهم، يغيرون عليهم في كل وقت، ويسبون دراريهم ويأسرونهم حتى كان النصارى لهذا السبب يباعون بالبخس فاستعبدهم الغنى والفقير، وأذلهم العزيز والحقير، وهم مع ذلك قائمون بحدود الشريعة تحت طاعة ملك البلاد.
نعم بلغ هذا الثغر الطيب -رباط الفتح- أوج العز والسؤدد عندما جلس على كرسيه ملوك دولتنا العلوية الشريفة، فأتموا المرافق، وأكملوا ما كانت المدينة الرباطية في أمس الحاجة إليه دينا واقتصادا واجتماعا، فهذا أبو النصر المولى إسماعيل جر إليها الماء من عين «عتيق»، وقد تحدث عن ذلك الفقيه القاضي الحاج محمد مرين في قطعة شعرية توجد بخزانة الجراري، كما أدخل الماء إليه السلطان المقدس المولى محمد بن عبد الله العلوي، لذا وجدت في المجرى أنبوبتان إحداهما فوق الأخرى عند حفر الممر خارج باب العلو حسبما هو مثبت أسفل القطعة المشار إليها.
والمولى محمد بن عبد الله هو الذي اتخذ أبواب القصبة هذه بيت ماله وخزينة أموال دولته التي كانت تبلغ أحيانا 30 مليون ريال. وهو الذي أسس عدة مساجد بهذه العاصمة كمسجد السنة العظيم الذي نراه اليوم يوسع ويحسن، ومسجد أهل فاس، ومسجد القصر، ومسجد «مولينا» الواقع أمام مسرح رويال، حيث لم تبق منه عدا صومعته وبعض جدرانه بالحديقة العمومية، كما أن الكنيسة الكاثوليكية الكائنة قرب قصر العمالة، على أنقاض أحد المساجد أسست، ويقال إنه مسجد سعيد بن صالح.
وهذا المولى سليمان الملك العالم رحمة الله عليه عمد إلى اليهود الذين كانوا يسكنون داخل المدينة -بالسوق التحتي، شارع القناصل- ونقلهم إلى حيث هم بالملاح، كما فعل ذلك بيهود التوأمة سلا. وكانت زاوية مولاي العربي الدرقاوي الواقعة بالحي الذي كانوا يسكنونه -بالحرارين- بيعة لهم- مسجدا، وإلى عهد قريب كان بسقفها فوهة ينظر اليهود منها «أضناي» «الله» في زعمهم. وكان هذا سنة 1222-1840م كما أنه جدد عدة مساجد كمسجد المولى سليمان الذي كان اسمه قبل مسجد السوق، وبعد التجديد أعطى اسم المجدد «المولى سليمان» قدس الله روحه.
أما الدار الواقعة بالمدرسة المسماة -مدرسة الأوداية- وكانت حقا مدرسة بحرية ملاحية يتكون منها البحارة المغاربة فمن تأسيس المولى إسماعيل، والطوى الذي يشاهد بها ليس بمرقب ولا مرصد، وإنما هو مرتفع يشرف منه الملك على الجهات بدل أن يشاهد من خارج، والسور المحاط بالدار هو من بناء الأسارى الذين كان منهم مويط الفرنسي صاحب التاريخ في سيرتي المولى الرشيد والمولى إسماعيل، ومويط هذا بقي أسيرا بسجن القصبة عشرة أعوام حتى أعانه على افتكاك نفسه أحد رهبان فرنسا على مال.
وهكذا استمرت إصلاحات الدولة للمساجد والمصالح والمرافق والعناية بها أكثر من المتوقع، فهذا المولى يوسف طيب الله ثراه يقوم بإصلاح المسجد الأعظم الواقع قرب باب شالة، والزيادة في صومعته نحو السبعة أمتار، كما أسس الليسي المنسوب إليه والمستشفى.
أما ابنه الصالح محمد الخامس قدس الله روحه فحدث عن البحر ولا حرج، فمآثره تفتقر إلى مجلدات وأوقات لا تفي بها هذه اللحظة الخاطفة.
وعلى هذا السنن نرى نجله الحسن الثاني أيده الله يسير بخطى سريعة في سائر الميادين وإصلاحها ماديا وروحيا، ولو لم يكن من مآثره الخالدة إلا تأسيس دار الحديث لكان وحده كافيا، أما وأعماله تترى وتتابع يوما بعد يوم بما لا يكاد يحصره العد -أبقاه الله- لتحقيق أماني وآمال شعبه الوفي.
ومما عرضناه يتضح أن الرباط منذ نشأ العرش المغربي وهو مركز الدول القومية والأمراء الفاتحين، ترابط فيه وتصدر منه أوامرها السياسية والعسكرية كقاعدة أساسية بالقصبة في عهد المرابطين ثم في عهد الموحدين، وكذلك في عهد بني مرين وفي عهد السعديين وفي عهد دولتنا العلوية الشريفة، إذ تركت كل دولة أثرا لها سواء بالقصبة أو المدينة، كالقصور الملكية والحصون الحربية والمراكز الإدارية التي هي من لوازم الدولة المستقرة في كل عاصمة من العواصم.
وهذا ما يؤكد أن العدوتين التوأمتين -الرباط وسلا- كانتا مهيأتين لهذه الغاية، وليس ذلك جديدا في تاريخهما.
ثم مما ادخرته الأقدار لرباط الفتح أنه ضم رفات ثلاثة ملوك من ملوك الدولة العلوية الماجدة، ملوك يعتبرون واسطة عقد هذه الأسرة الكريمة سياسيا وإداريا وعلميا.
محمد بن عبد الله، والحسن الأول، ومحمد الخامس -قدس الله أرواحهم-.
وهاك شخصيتين عاشت إحداهما في العصر الموحدي، والثانية معاصرة:
1) أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي القاضي العالم المحدث الشاعر الناثر، يعد ثاني رجل تولى القضاء بالرباط في القرن السابع للرشيد الموحدي ولأخيه أبي الحسن، ترجمه ابن الخطيب في الإحاطة وصاحب الجذوة، وصرحا معا بقضائه على الرباط، عرف بقوة الإدراك والتضلع في العلوم حديثا وتاريخا وأخبارا، مع التبريز في الأصلين، غزير المعاني والمحاسن، شفاف اللفظ حر المعنى .

من شعره مفتتحا به رسالة:

يا غائبا سلبتني الأنس غيبتـــــه         فكيف صبري وقد كابدت بينهمـا
دعواي أنك في قلبي فعارضها         شوقي إليك فكيف الجمــع بينهما

فكرة وجيهة ومشكلة في ذات اللحظة، توقع في الحيرة لا محالة؛ حبيب في القلب وبه امتزج، وأنت تتوق إليه وتتشوق.

له تآليف وكتابات تنبئ عن مقدرته وكفاءته الثقافية، وتعطينا في ذات الوقت صورة حية عن رجالات المغرب وعلماء عواصمه، كالرباط وسلا، مما لا ينفك يهدينا بأجلي وضوح إلى الامتداد المتسلسل الحلقات منذ القرن السابع الهجري – الثالث عشر الميلادي- إلى عصرنا الماثل – القرن الرابع عشر- (القرن العشرين)، حيث هناك أفذاذ وأفذاذ لا يقلون معرفة عن تلك البذور الأولى.
2) المحدث الواعية الحافظ المحاضر الشريف محمد المدني بن الحسني الحسني الرباطي الذي قد لا تحتاج لتقديمه بأكثر من هذه التحلية ما دام الكل يعرفه شباب وكهول وشيوخ.
ومن ميميته التاريخية، والموجهة للشباب في نهضته الأولى قوله.

ويعقوب ذو رباط الفتـــح لمــــــا         تمادى المعتدون في الانتقـام
فكان جوابـه مــــا قـــــــــد رأوه         من البطش القوي المستــدام
وقد سالت بطـــاح الأرض طــرا         بنبـــال وسيـــــــــاف ورام
وصب على الأعادي في البوادي         سياطا من عـذاب كالضـرام

وكم لهاتين الشخصيتين البارزتين ماضيا وحاضرا في عالم المعرفة من أمثال وأمثال.
———-
(1) ومن اسبانيا كان يطمح ويطمع في الاستيلاء على المغرب فبعث إليه أحد عيونه وأقام به نحو الثلاثة أشهر حضر فيها معلومات كتبت باللغة الفرنسية تمهيدا لخطته.

  دعوة الحق، العدد 77.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق