1. لقد كان العربون وما يزال من أهم الأدوات القانونية التي يلجأ إليها المتعاقدون قصد توثيق عقودهم والتزاماتهم التي حصل الاتفاق بشأنها، فالعربون، إذن، ينطوي على فكرة ضمان تنفيذ الالتزام بصورة عامة وبالتالي فهو يساهم إلى حد كبير في حماية حقوق المتعاقدين باعتباره أداة رادعة للطرف المخل بالعقد، والتعاقد بالعربون لا يقتصر على نوع معين من العقود دون سواه، فهو يشمل العقود الناقلة للملكية كالبيع، كما يشمل تلك التي تقتصر على نقل منافع الأعيان كالكراء مثلا، إلا أن الذي يتعين التذكير به هو أن معظم المعاملات التي تستند إلى دفع العربون غالبا ما تكون من صنف العقود الابتدائية التي يتم بها التمهيد لتكوين عقود نهائية، فيكون العربون بذلك واحدا من جملة الأشياء التي يتم بها ضمان تنفيذ العقود النهائية[1].
2. وللعربون في كل من الفقه والقانون عدة مفاهيم قانونية تختلف باختلاف المنظور الذي أعطي لهذه المؤسسة، فتباينت بخصوصها النظريات الفقهية، الأمر الذي انعكس بدوره على الصيغ التشريعية التي حيكت بها النصوص المنظمة للعربون في كل من القانون المغربي والقانون المقارن على حد سواء.
ويعتبر موضوع الطبيعة القانونية للعربون واحدا من أهم الموضوعات التي احتد حولها النقاش الفقهي لما لهذه الطبيعة من أهمية بخصوص مسألة التكييف القانوني الذي ينطبق على العربون.
3. وحتى نتمكن من حصر معالم هذا الموضوع فإننا سنحاول التعريف بالعربون (أولا) باعتبار ذلك بمثابة الخيط الرابط الذي يقربنا من هذه المؤسسة وبعد ذلك سنحدد الطبيعة القانونية للعربون (ثانيا) على أن نختم هذا العرض ببيان أحكام العربون (ثالثا) وذلك كله في إطار دراسة مقارنة بين كل من الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.
مما سبق يتبين أن دراسة هذا الموضوع ستكون على الشكل التالي :
أولا: التعريف بمؤسسة العربون
ثانيا: الطبيعة القانونية للعربون
ثالثا: حكم التعامل بالعربون
أولا: التعريف بمؤسسة العربون
4. العربون بضم العين وفتحها من الإعراب عن انصراف النية إلى تأكيد أمر ما وقد سمي بذلك لما فيه من الرغبة في توثيق العقود وإقرارها وعلى خلاف العادة فإننا نلاحظ أن قانون الالتزامات والعقود المغربي قد عرف لنا العربون في الفصل 288 بأنه "هو ما يعطيه أحد المتعاقدين للآخر بقصد ضمان تنفيذ تعهده".
5. فبالرغم من أن مهمة وضع التعاريف القانونية تعد في الواقع مهمة فقهية وليست تشريعية إلا أن غموض بعض المفاهيم القانونية قد تدفع المشرع أحيانا إلى المساهمة في إجلاء بعض هذا الغموض بوضعه بعض التعاريف التي تشكل منطلقا لتوضيح هذه المفاهيم.
- ومن خلال التعريف الوارد في الفصل 288 (ق. ل. ع) فإننا نستنتج منه ما يلي:
أ. أن العربون باعتباره أداة لضمان تنفيذ العقد فإنه لا يقتصر على عقد دون آخر فهو يشمل العقود الابتدائية والعقود النهائية على حد سواء، سواء كانت هذه العقود ناقلة للملكية كالبيع أو ناقلة للمنفعة فقط كالكراء[2].
ب. أنه نتيجة لاختلاف المنظور القانوني للعربون فإن موقف التشريعات المدنية منه ليس واحدا إذ أن هذه المواقف غالبا ما تعكس الاتجاه الذي تأثر به هذا التشريع أو ذاك[3] وهذا ما سنراه لاحقا.
ج. أن هذا الاختلاف في المنظور التشريعي المعاصر ليس بالأمر الجديد، بل كان يستند في عمقه إلى اختلافات فقهية سابقة، الأمر الذي يفرض علينا الرجوع إلى أصل هذا الخلاف قصد الوقوف على أهم النتائج المترتبة على هذا التباين في المنظور.
ثانيا: مفهوم وطبيعة العربون في الفقه الإسلامي
6. لقد عرف الفقهاء المسلمون اختلافا في الرأي حول كثير من المسائل الفقهية منها العربون لذلك قيل بأن اختلاف الفقهاء رحمة ومؤشر صحي على غزارة العلم والمعرفة. وبالرجوع إلى هذه الآراء الفقهية الإسلامية التي تناولت موضوع العربون، فإننا نلاحظ أنها كانت تتراوح بين جواز التعامل بالعربون ومنعه، وهناك آراء تحفظية لا تجيز التعامل به إلا في حدود ضيقة وحالات استثنائية، ونظرا لأهمية هذه الآراء فإننا سنحاول توضيحها من خلال الأنصار الذين تزعموا هذه الآراء ودافعوا عنها.
الرأي الأول: أنصار منع التعامل بالعربون أصلا
7. وهو رأي الجمهور من الفقهاء حيث يذهبون إلى منع التعامل بالعربون لعدم مشروعيته، فقد استدل هؤلاء بالحديث المروي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي نهى فيه عن بيع العربان[4]. أما بخصوص أساس هذا المنع أو النهي فيرده الجمهور إلى الغرر الذي يحيط بالعقد الذي تم تسبيق العربون. وقد وردت في هذا الخصوص عدة نصوص فقهية تكرس مبدأ المنع لهذا السبب، من ذلك مثلا ما ذكره ابن رشد صاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد من أن بيع العربون يسري عليه ما يسري على البيوع الفاسدة من أحكام، فجمهور علماء الأمصار يذهبون إلى القول بأنه غير جائز... وصورته أن يشتري الرجل شيئا فيدفع إلى المبتاع من ثمن ذلك المبيع شيئا على أنه إن نفذ البيع بينهما كان ذلك المدفوع من ثمن السلعة، وإن لم ينفذ ترك المشتري ذلك الجزء من الثمن عند البائع ولم يطالبه به، وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض..."[5].
8. وهذا الأساس في المنع هو الذي ذهب إليه جل الفقهاء المالكيين فقد جاء في الموطأ ما يلي: "فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة، فما أعطيته لك باطل بغير شيء..."[6].
الرأي الثاني: أنصار جواز التعامل بالعربون
9. يعتبر الإمام أحمد بن حنبل من أشهر دعاة التعامل بالعربون وهذا الموقف هو الذي ذهب إليه قوم من التابعين، منهم مجاهد وابن سيرين ونافع وزيد بن أسلم، وهو الرأي الذي عمل به عمر بن الخطاب، فقد جاء في المغني[7] بأن المرتهن إذا قال للراهن إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك فلا يصح البيع إلا بيع العربون، وهو أن يشتري شيئا ويعطي البائع درهما ويقول إن أخذته وإلا فالدرهم لك، فقال أحمد يصح لأن عمر فعله، والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع درهما أو أكثر على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فهو للبائع..."
واستدل الإمام أحمد بن حنبل بما روي عن نافع بن الحارث، عامل عمر بن الخطاب على مكة، أنه اشترى لعمر من صفوان بن أمية دارا للسجن بأربعة آلاف درهم واشترط عليه نافع إن رضي عمر فالبيع له وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم. وعندما رفع الأمر إلى عمر لم ينكر عليه شراءه بالعربون.
الرأي الثالث: المواقف المتراوحة بين المنع والجواز
10. وأنصار هذه الآراء في الواقع لم يقطعوا برأي قار في الموضوع وإنما التزموا موقفا وسطا بين الرأيين السابقين بحيث اعتبروا بيوعات العربون من البيوعات الفاسدة إن كان المقصود من العربون هو حبسه عند البائع من أجل تغريم المشتري على عدم إتمامه البيع، أما إن حصل الاتفاق على رده للمشتري فالأمر جائز.
ومن هنا نستنتج أن هذا الاتجاه الفقهي وأغلب أصحابه من المالكية والشافعية[8]، يذهب إلى جعل التعامل بالعربون أمرا جائزا ومسموحا به إذا حصل الاتفاق على رده لصاحبه. أما إن كان الأمر على العكس من ذلك فالبيع فاسد يستوجب الفسخ[9].
11. ومن خلال المقارنة بين الآراء الفقهية السابقة، يمكن القول إن الرأي الثاني الذي يذهب إلى جواز التعامل بالعربون، هو الرأي الذي كان صائبا في اعتقادنا بالرغم من معارضته لبعض الأصول كنهيه، صلى الله عليه وسلم، عن التعامل بالعربون. ووجه صواب هذا الرأي يظهر من عدة وجوه، منها أن الرأي القار في كل من الفقه والتشريع المعاصرين يذهبان إلى إجازة فكرة التعامل بالعربون كأصل عام بالرغم من الاختلاف حول بعض الأحكام الفرعية التي تخص دفع العربون.
ثم إن دفع العربون غالبا ما ينطوي على فكرة ضمان تنفيذ العقد وهي من الأفكار التي تهدف إلى تحقيق العدالة وإنصاف الطرف المتضرر، حيث يحصل العدول والتراجع فرديا عن إتمام العقد سواء كان العربون جزاء من الثمن الإجمالي ودفعة أولية منه، أو كان أداة للعدول عن إتمام التعهد، فيكون بمثابة جزاء وعقوبة للمتراجع الذي فضل خسارة هذا العربون كمقابل لتحلله من هذا التعهد.
12. أما بخصوص الرأيين الأول والثالث اللذان يكرسان فكرة المنع، والمنع المشروط فإننا نلاحظ أنهما قد جانبا الصواب من عدة وجوه، فهؤلاء الأنصار يجعلون التعامل بالعربون من التعاقدات الفاسدة لما يحوطها من الغرر والمخاطرة وأكل مال الغير بالباطل في الوقت الذي لا نلمس فيه أي غرر من هذا النوع من التعامل لأن خسارة مبلغ العربون تقابل الإخلال الذي حصل من الطرف الآخر فهو بمثابة جزاء للمتراجع ومعاملة له بنقيض قصده، أما بالنسبة للآراء المتراوحة بين المنع والجواز التي تجعل التعامل بالعربون أمرا مشروطا برده لمن دفعه في حالات التراجع والعدول فإننا نلاحظ أن هذه الآراء فارغة من محتواها، فالتعامل بالعربون إن كان مشروطا برده لمن دفعه لا يحقق أي فائدة تذكر بالنسبة للطرف المضرور من الإخلال بالالتزام، وكأن هؤلاء الأنصار قد نصبوا أنفسهم مدافعين عن الطرف الذي دفع العربون فخولوا له إمكانية استرداد عربونه في الوقت الذي حصل الإخلال والتراجع من جهته، وهذا الوضع يضر بمصلحة الطرف الآخر لا محالة.
ثالثا: طبيعة العربون في القانون المقارن
13. لقد تنازع موضوع العربون مدرستان فقهيتان، الأولى ذات أصل لاتيني ترى بأن العربون مجرد أداة عدول عن عملية التعاقد يمكن بمقتضاها لكل من المتعاقدين أن يتراجعا عن العقد مقابل فقد العربون من طرف من أعطاه أو رده مضاعفا إذا حصل العدول ممن تسلمه[10]. أما المدرسة الثانية، فذات أصل جرماني وترى بأن العربون علامة على إبرام العقد، وأي عدول أو تراجع عن تنفيذ مقتضيات العقد إلا ويستوجب الفسخ مع ثبوت الحق في المطالبة بالتعويض الذي تقدره المحكمة على أساس حجم الضرر الذي لحق الطرف المضرور من جراء العدول عن إتمام العقد.
14. وعلى ضوء هذين الاتجاهين الفقهيين السابقين، فإن مواقف التشريعات المعاصرة لم تستقر على رأي قار وثابت بخصوص هذه الطبيعة القانونية، فهناك من اعتبرته أداة عدول عن العقد وهذا هو موقف كل من القانون المدني الفرنسي[11]، وكذا القانون المدني المصري الحديث[12]، بما في ذلك باقي التشريعات العربية التي تم اقتباسها من القانون المدني المصري كالقانون المدني السوري والليبي والجزائري والأردني[13]. وهذه المواقف التشريعية تقترب اقترابا كليا من موقف الحنابلة في العربون حيث رأينا في إطار المفاضلة بين المواقف الفقهية الإسلامية التي اهتمت بموضوع دفع العربون، أن رأي الحنابلة كان أحق بالتأييد لما يحققه من العدل والإنصاف. فهو يبيح لدافعه إمكانية التراجع عن إتمام العقد إن هو رغب في ذلك ولكن بشرط خسارته لمبلغ العربون المدفوع، وبهذا الشكل فالعربون في إطار هذا الفقه لم يكن إلا أداة عدول وهو ما كرسته المدرسة اللاتينية عندما أكدت هذه الفكرة، الأمر استتبع اعتناقها من قبل جملة من التشريعات العربية والغربية على حد سواء.
15. وفي مقابل هذا الاتجاه التشريعي اللاتيني، يوجد هناك اتجاه آخر تأثر بالمفهوم الجرماني للعربون، حيث يعتبر العربون بمثابة دفعة أولية من ثمن الصفقة يتعين على من دفعه إتمام ما تبقى من الثمن المتفق عليه، ومن التشريعات العربية التي سلكت هذا الاتجاه نجد المشرع العراقي[14] وكذا قانون الالتزامات والعقود المغربي[15] ويأتي القانون المدني الألماني على رأس التشريعات التي تأثرت بهذا الاتجاه الثاني الذي يعتبر العربون دلالة على إبرام العقد[16].
رابعا: حكم العربون في التشريع المغربي
16. لقد خصص المشرع المغربي لأحكام العربون الفصلين 289 و290 من (ق.ل. ع) إذ ورد في الأول منهما بأنه: "إذا نفذ العقد خصم مبلغ العربون مما هو مستحق على من أعطاه مثلا إذا كان من أعطى العربون هو المشتري أو المكتري خصم من ثمن البيع أو من الكراء، وإذا كان من أعطى العربون هو البائع أو المكري ونفذ العقد وجب رده كما يجب رد العربون أيضا إذا ألغي العقد بتراضي عاقديه" أما النص الثاني فقد جاء فيه بأنه" إذا كان الالتزام غير ممكن التنفيذ أو إذا فسخ بسبب خطأ الطرف الذي أعطى العربون كان لمن قبضه أن يحتفظ به ولا يلزم برده إلا بعد أخذه التعويض الذي تمنحه له المحكمة إن اقتضى الأمر ذلك".
17. ومن خلال التمعن في صيغة الفصلين السابقين يمكن التوصل إلى استخلاص النتائج الآتية:
أ. أنه خلافا لجل التشريعات العربية التي تأثرت بالاتجاه اللاتيني في العربون فإن المشرع المغربي قد تأثر بمبادئ النظرية الجرمانية التي تعتبر العربون بمثابة دفعة أولية من الثمن الإجمالي المتفق عليه الأمر الذي يعني أنه لا يحق لأي من الأطراف أن يتراجع بصورة انفرادية عن إتمام العقد[17].
ب. باعتبار أن العربون في إطار التشريع المغربي أداة لتأكيد العقد وليس وسيلة للتراجع عنه فإنه بذلك يعد خطوة جدية نحو تنفيذ العقد، الأمر الذي يعني أن العقد يكون قد انعقد بين الطرفين وأي عدول أو تراجع انفرادي[18] بدون موافقة الطرف الآخر إلا ويعد إخلالا بالالتزام الرابط بينه وبين الطرف الآخر.
ج. بما أن العدول الانفرادي عن إتمام العقد المسبوق بدفع العربون يدخل في مفهومه القانوني ضمن الأخطاء العقدية التي تستوجب التعويض عن الضرر اللاحق بالمتعاقد الآخر، فإن للمحكمة في إطار سلطتها التقديرية أن تحدد التعويض الذي تراه مناسبا لجبر هذا الضرر وليس ضروريا أن يكون هذا التعويض مساويا لمبلغ العربون الذي قدمه الطرف المتراجع[19] عن إتمام العقد، بل يمكن أن يكون أقل أو أكثر من مبلغ العربون المدفوع، وفي كل الأحوال فإنه يكون من حق الطرف المتضرر أن يحجز مبلغ العربون إلى غاية الفصل في جوهر النزاع.
د. أن القواعد والأحكام الواردة في الفصلين (289 و290) من قانون الالتزامات والعقود المغربي تعد في أصلها من صنف القواعد المكملة التي تمكن الأطراف من الاتفاق على خلافها[20]، فقرينة تأكيد العقد بالعربون تعد في الواقع من القرائن البسيطة التي يمكن دحضها بما هو أقوى منها أو بإثباتها بالأدلة المعاكسة لها، فيحق للأطراف المتعاقدة الاتفاق على إمكانية استرداد مبلغ العربون عند التراجع عن إتمام العقد، وفي كل الأحوال فإن للأطراف في إطار مبدأ سلطان الإرادة الاتفاق على تعديل قواعد وأحكام العربون طالما أن ذلك لا يخالف النظام العام.
ﻫ. بالرغم من أن المشرع المغربي قد تأثر بالموقف الجرماني بخصوص حكم العربون عندما خول للمحكمة في إطار سلطتها التقديرية أن تحدد التعويض الذي تراه مناسبا لإنصاف الطرف المضرور من جراء العدول عن إتمام العقد (الفصل 290 ق. ل. ع) إلا أن ذلك لم يمنع المشرع المغربي من الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات الخاصة وبمقتضى نص قانوني خاص كما هو الشأن بالنسبة لمضمون الفصل (210 من قانون المسطرة المدنية) الذي يتعلق بالمزاد العلني الذي يرسو على من يشتري عقارات القاصرين فيمتنع عن إتمام العقد بعد تسبيقه للعربون فقد جاء في الفقرة الثانية من الفصل (210 من ق. م. م) ما يلي : "إذا لم ينفذ من رسا عليه المزاد شروط السمسرة أنذر بتنفيذها فإن لم يستجب لهذا الإنذار داخل أجل ثمانية أيام بيع العقار ضمن الشروط المنصوص عليها في الفصل السابق، ولا يمكن في هذه الحالة للمشتري المتخلف أن يسترجع العربون الذي قد يكون دفعه".
و. أن العربون باعتباره أداة لضمان تنفيذ العقد وفقا لما جاء في الفصل 288 (ق.ل.ع) فهو بذلك يختلف عن جملة المؤسسات القانونية المشابهة له كالكفالة النقدية والشرط الجزائي[21] المدرج في العقد إلى غير ذلك من الأدوات القانونية الأخرى التي تهدف إلى توثيق العقود وضمان تنفيذها، فالعربون له كيان مستقل يهدف إلى ضمان الأولوية في استحقاق الشيء المتعاقد عليه، وبمجرد دفع هذا العربون إلا ويكون ذلك دليلا على التعاقد وارتباط الإرادتين وأي تراجع عن مواصلة التنفيذ يعد إخلالا بالتزام قانوني قائم الذات.
خاتمة البحث
18. من خلال العرض السابق يظهر لنا أن موضوع العربون قد تنازعته مدرستان فقهيتان غربيتان الأولى ذات أصل لاتيني والثانية ذات أصل جرماني، ونتيجة لتباين منظور هاتين المدرستين بخصوص الطبيعة القانونية للعربون، فإن موقف التشريعات المدنية المعاصرة قد تباين بدوره أيضا حيث تراوحت مواقف هذه التشريعات بين من يعتبر العربون أداة عدول عن العقد ومن يعتبره بداية تنفيذ لهذا العقد، وقد رأينا أن الأحكام المترتبة على اختلاف هذين المنظورين ليست واحدة، وهكذا يحق للطرف المضرور في إطار التشريع المغربي من جراء عدول الطرف الآخر عن إتمام العقد أن يحصل على التعويض المناسب الذي تحدده المحكمة في إطار سلطتها التقديرية مقياسها في ذلك هو حجم الضرر الذي لحق بالطرف الآخر الذي يتمسك بتنفيذ العقد.
19. وإذا كان هذا الموقف الذي سلكه المشرع المغربي يعد عادلا من حيث الأساس القانوني الذي يستند إليه، إلا أن ترك مسألة تحديد التعويض الناشئ عن الإخلال بالالتزام المسبوق بالعربون للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع تطرح أكثر من علامة استفهام بخصوص هذا التحديد على أساس أن هذه السلطة التقديرية غالبا ما تتباين من قاض لآخر ومن محكمة لأخرى، الأمر الذي يعني أن حجم هذه التعويضات في القضايا المتشابهة ستختلف لا محالة، لعدم وجود ضابط معياري يحددها.
20. وهذا العيب قد تفادته التشريعات التي تأثرت بالمنظور اللاتيني للعربون حيث أن جزاء المخل بالتنفيذ هو فقده لحجم العربون الذي دفعه قل أو كثر وهو بذلك يقترب من مفهوم الشرط الجزائي الذي يحدد الأطراف بمقتضاه نوعية الجزاء الذي يتحمله الطرف المخل بالتزاماته إزاء الطرف الآخر، وهذا المنظور في واقع الأمر هو الذي يتبادر إلى الذهن عند الكلام عن مؤسسة العربون في معناه العام، وهو المفهوم الذي ترسخ لدى التجار والصناع والحرفيين عادة وعرفا، فأقصى ما كان يتحمله المخل بالالتزام المسبوق بدفع عربون هو فقده لما دفعه جزاء له على هذا التقاعس الصادر منه، وهذا المفهوم ذو الطابع اللاتيني هو الذي كان معروفا لدى الاتجاهات الفقهية الإسلامية التي كانت تجيز التعامل بالعربون كالفقه الحنبلي الذي كرس هذا المنحى منذ زمن بعيد.
وهذا الموقف هو الذي نراه جديرا بالتأييد على أساس أن دفع العربون إذا كانت الغاية منه هي ضمان الأولوية وسد الطريق أمام كل راغب في التعاقد على نفس المعقود عليه، فإننا نظن أن خسارة هذا العربون تعد خير جزاء للمتخلف عن إتمام العقد، خصوصا وأن المتعاقد الآخر قد تتوفر له ظروف أحسن لإعادة التصرف في الشيء الذي كان محلا للتعاقد، وأن أخذه لمبلغ العربون كان بمثابة تعويض له عن التماطل وما لحقه من جراء تفويت فرصة التعاقد التي تسبب فيها دافع العربون بعدوله وتراجعه عن إتمام العقد.
(العدد 8)
الهوامش
- السنهوري–الوسيط في القانون المدني الجزء الرابع ص 86 فقرة 44 حيث يقول بأن أكثر ما يقع الاتفاق على العربون في البيع الابتدائي فيبرم المتعاقدان بيعا ابتدائيا ويحددان ميعادا لإبرام البيع النهائي ويتفقان في البيع الابتدائي على عربون يدفعه المشتري للبائع فإذا امتنع المشتري عن إبرام البيع النهائي في الميعاد المحدد خسر العربون الذي دفعه للبائع وسقط البيع الابتدائي، وإذا كان الذي امتنع عن إبرام البيع النهائي هو البائع ترتب على امتناعه نفس الجزاء المتقدم فيخسر البائع قيمة العربون بان يرد للمشتري العربون الذي أخذه منه ومعه مثله.
- السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، الجزء الثاني ص91. أيضا الدسوقي في حاشيته على الدردير الجزء الثالث، ص63.
- هشام فرعون، محاضرات في القانون المدني المغربي ألقيت على طلبة الإجازة بكلية الحقوق، فاس للموسم الجامعي 77–1978، فقرة 164. ص76.
- حديث رواه مالك بن أنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه والمقصود بالعربان في سياق الحديث هو منع التعامل بالعربون ولأخذ فكرة عامة عن مختلف الإطلاقات التي يوظف فيها مصطلح العربون انظر على وجه الخصوص: رمضان علي السيد الشرنباصي "حماية المستهلك في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة، ط1، 1404، ص16.
نيل الأوطار للشوكاني، ج5.
- ابن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج2، ص162 وما يليها.
- الموطأ الجزء الثاني ص609.
- المغني لابن قدامة، ج4، ص58 وما يليها.
- من هؤلاء مثلا ابن جزي الغرناطي في قوانينه الفقهية ص171 حيث يقول وهو بصدد الكلام في البيوع الفاسدة" ومنه بيع العربون وهو ممنوع إن كان على أن لا يرد البائع العربون إلى المشتري إذا لم يتم البيع بينهما فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع فهو جائز".
- الخرشي شرح مختصر خليل ج5 ص 78 حيث يقول: " والعربان هو أن يشتري سلعة بثمن على أن المشتري يعطي البائع أو غيره شيئا من الثمن على أن المشتري إن كره البيع لم يعد إليه ما دفعه وإن أحب البيع حاسبه به من الثمن، قال عيسى ويفسخ العقد فإن فاتت مضت بالقيمة".
- للتفاصيل حول دلالات العربون وطبيعته في القانون الوضعي انظر عبد الرزاق السنهوري في الوسيط الجزء الأول ص276 فقرة 140 وما يليها–أيضا مؤلفنا حول نظرية العقد ص 71 فقرة 110.
- تنص المادة 159 من القانون المدني الفرنسي على أنه " إذا اقترن الوعد بالبيع بدفع العربون، كان لكل من العاقدين حق العدول عن العقد فإذا عدل من دفع العربون خسره وإذا عدل من قبضه وجب عليه رد ضعفه".
- جاء في المادة 103 من القانون المدني المصري الجديد بأن "دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك، فإذا عدل من دفع العربون فقده وإذا عدل من قبضه رد ضعفه هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر".
- جاء في المادة 107 مدني أردني بأن دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك".
- انظر نص المادة 93 من القانون المدني العراقي.
- انظر موقف المشرع المغربي من العربون في الفقرة 16 وما يليها من هذه الدراسة.
- انظر المادة 336 من القانون المدني الألماني وقد سلك المشرع السويسري نفس النهج في المادة 158 من تقنينه المدني.
- هذا الموقف هو الذي يكرسه الاتجاه الغالب في ميدان الاجتهاد القضائي الذي صدر بخصوص هذه المادة، انظر على سبيل المثال: قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ: (21/1/1976) في الملف المدني عدد: 196566 أيضا قرار المجلس الأعلى الصادر عنه بتاريخ (10/1/1977) في الملف المدني عدد: 50623.
- تستند فكرة عدم جواز العدول الفردي عن العقد إلى مبدأ مشهور في القانون المدني وهو كون العقد شريعة للمتعاقدين وقد أكده المشرع المغربي في الفصل 230 من( ق. ل. ع) الذي ورد فيه ما يلي: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون".
- يتعين لفت الانتباه إلى أنه ليس ضروريا أن يكون العربون مقدما من قبل الطرف الذي حمل التراجع من جهته، فالعدول عن التنفيذ يمكن أن يصدر أيضا عن الطرف الذي قبض العربون، وجزاء ذلك في إطار التشريعات التي تأثرت بقواعد المذهب الجرماني فإن الاحتكام سيكون حتما للتعويض.
- هشام فرعون، م، س، ص78.
- يقصد بالشرط الجزائي ذلك المدرج في صلب العقد والذي يتفق الأطراف بمقتضاه على تحديد مبلغ نقدي لتعويض الطرف المضرور في حالات الإخلال بالالتزام، فهو بذلك نوع من الجزاء المدني الذي يتخذ باتفاق الأطراف المتعاقدة، إلا أن المحكمة تملك سلطة واسعة في مراجعة مبلغ الشرط الجزائي بالتخفيض منه أو الزيادة فيه إذا تبين لها أن المبلغ المتفق عليه غير عادل.