مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأعلام

دور أبي عبد الله السكوني في تطور الأشعرية بالغرب الإسلامي من خلال مؤلفه: أربعون مسألة في أصول الدين

يقول يوسف احنانا في مقدمة تحقيقه لكتاب”أربعون مسألة في أصول الدين” لأبي عبد الله السكوني الإشبيلي حول السياق التاريخي لتأليف هذا الكتاب: «بإمكاننا اعتبار القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) بداية النهاية للوجود الإسلامي بالأندلس. فبعد موقعة العقاب(609هـ) والتي كانت إيذانا بقوة عربية خائرة، ووجود إسلامي منخور جنَّد الإسبان أنفسهم للقيام بحروب الاسترداد. وهكذا بدأت المدن الأندلسية تسقط الواحدة تلو الأخرى في يد الإسبان بصفة نهائية، وبدأ الفردوس يفقد جيوبه وأطرافه، ويتداعى أمام قوة نصرانية منظمة وموحدة..»، ويضيف كذلك: « وعلى العموم فليست النهاية هي التي تهمنا، بل ما يهمنا هو بدايتها لأنها هي الفترة التي عاصرها أبو عبد الله محمد بن خليل السكوني، إنها فترة تميزت بقلق الوجود العربي الإسلامي بالأندلس أمام هجمات الإسبان القوية، مما سيدفع عائلات إسلامية كثيرة إلى الهجرة إلى مدن من المغرب العربي الكبير. وقد كانت عائلة السكوني من بين العائلات التي آثرت الهجرة إلى تونس للاستقرار بها، نظرا لوجود الدولة الحفصية بها..».
وعن الباعث على التأليف في العقائد يقول: «لقد عاصر مؤلفنا إذن فترة سقوط مدينته الأصلية إشبيلية في يد الإسبان وكابد مرارة الهجرة وقسوة الفراق..وفي لحظة عصيبة كهذه ما كان لمفكر مثل السكوني إلا أن يبحث عن عوامل اضمحلال القوة الإسلامية وتخاذلها، وفعلا كان هذا هاجسا مركزيا حرك فكره وبالتالي فكر ابنه [مِن] بعده. فقد كان يرى أن العقيدة تذبذبت وأفكار الفساد راحت تنخر من حيث لا يحسب لها المرء أي حساب..إذن فما أصاب العقيدة من وهن وما اعتراها من مرض، كان من أسباب وعوامل سقوط إشبيلية، وبالتالي سقوط الأندلس بعد ذلك. لأجل هذا كان المشروع النظري الذي كرس له محمد بن خليل السكوني وابنه مجهودهما النظري هو البحث عن مجمل هذه الأسباب ومحاولة القضاء عليها».
ويتابع الحديث في البحث عن الأسباب الرئيسية من وراء تأليفه في العقائد فيقول: «فالعقيدة الأشعرية انتابها خليط من أفكار المعتزلة والخوارج والمرجئة واليهود واختلطت بها، وبخاصة في أوساط عامة الناس وداخل حقل الثقافة الشفوية، ومن هنا كان لزاما أن يظهر مشروع يعيد تثبيت ركائز ودعامات العقيدة الأشعرية مع محاولة تنقيتها من الشوائب الأجنبية عنها التي علقت بها، والرجوع بها إلى صفائها ونقائها الأصليين، وذلك بتنحية ومحاربة جميع الأفكار الغريبة من أفكار المعتزلة والخوارج والمرجئة واليهود وغيرهم، وهذا ما سيتمثل جليا في مشروع السكونيين الأب والابن، ولعل مؤلفاتهما العقدية جلُّها تلامس هذا الموضوع وتصدر عن هاجس محاربة ما علق بالعقيدة الأشعرية من أفكار غريبة عنها…».
ويبحث في تاريخية ما علق بالعقيدة من أفكار خارجية لمختلف الفرق الكلامية فيقول: «ففي أوائل القرن الثاني الهجري بعث واصل بن عطاء المعتزلي طائفة من أتباعه المعتزلة إلى أهل المغرب، تمكنوا من استقطاب جمع كبير من سكان تونس والجزائر والمغرب حتى أن بعض النصوص تشير إلى أن دولة الأدارسة قامت على سند من الاعتزال..وبعد اجتياح الفكر الأشعري للمغرب والأندلس بدءا من أواخر القرن الرابع الهجري على يد أبي الحسن علي القابسي(ت403هـ) والذي سيصبح المذهب العقدي الرسمي لبلدان المغرب العربي والأندلس، ما كان لأفكار المعتزلة أن تفنى فناء مطلقا، وتزول زوالا نهائيا، فقد ظلت بكيفية أو بأخرى مبثوثة في الثقافة الشفوية للعامة وخصوصا في الأدعية والكلام السائر..
أما الخوارج فقد عرفوا هم أيضا طريقهم إلى المغرب..وكان منهم طائفتان اشتهرتا بالاعتدال في مواقفهما..ويتعلق الأمر بالصفرية والإباضية، نظرا لما تحمله عقيدتهما من تشدد والتزام بتطبيق مبادئ الدين وتعاليمه وابتعاد عن الظلم والظالمين والثورة على الحاكمين الظالمين الذين لا يقيمون شرع الله..
وفيما يتعلق بالمرجئة فقد تمكنت أفكارهم من الوصول إلى المغرب العربي والأندلس تحت تشجيع الأمويين بشكل ضئيل جدا..
في حمأة هذا الجو المشحون بأفكار اعتزالية وأخرى خارجية وأخرى مرجئية اضطر السكوني إلى الدخول في مشروع يهدف إلى تنقية الجو المعرفي والعقيدة الأشعرية من رواسب الفكر الاعتزالي المندسة في الثقافة الشفوية لعامة الناس، وإلى قطع الصلة مع بقايا الفكر الإباضي وأفكار المرجئة لكي يمهد الطريق لإعادة تثبيت العقيدة الأشعرية التي تمثل عقيدة أهل السنة في صفائها ونقاوتها.
إن هذا المشروع المعرفي فريد في نوعه لأنه يسعى لإقرار الفكر الأشعري بأن يمسح الساحة من فكر الخصوم والأعداء حتى تبقى الساحة ملكا للهيمنة الأشعرية الصافية وحدها. إنها وبادي الرأي فيهم.فالعامة هم المخاطبون الأوائل في هذا المشروع».
ثم انتقل للحديث عن أهم ما عالجه السكوني في عقيدته من المسائل  والبحث في التوجه العام لها فقال: «فنكاد نجد اللغة صريحة في جميع المسائل الأربعين في كونها توجه الخطاب لعامة الناس، ففي المدخل القصير الذي دبَّج به السكوني مسائله الأربعين نراه يؤكد على وجوب معرفة الله من طرف الجميع، هذه المعرفة لا يمكنها أن تأتي إلا بعلم العقائد، فالإنسان غير العارف بالله لا يتوجه في عبادته لله لأنه قد يتوجه إلى شيء غير معروف:( إن من صلى صلاة أو عمل عملا يتقرب به إلى الله وهو غير عارف بالله فإنه ما استقبل لعبادته رب العالمين لأنه يظن ظنا والظن لا يغني من الحق شيئا)، بل إن الإيمان مع انعدام معرفة الله إشراك (كمن يقول بلسانه وليس في قلبه علم).
علاوة على ذلك هناك الأدعية والأقوال التي يرددها عامة الناس والتي يصدر بها معظم مسائله ليعريها من حمولتها الاعتزالية أو الخارجية وليكشف عن نقد لها يتماشى مع أطروحات الأشاعرة وعقيدتهم.
فهذا المشروع يتطلب من صاحبنا أن يكون ناقدا، وفي نفس الوقت عارضا، وبالفعل فقد سلك السكوني في رسالته هذين الطريقين معا (طريقة النقد، وطريقة العرض).
إنه ينقد بقايا الفكر الاعتزالي والإباضي والمرجئي، ويعرض أفكار الأشاعرة ومواقفهم باعتبارها بديلا عن هذه الأفكار المنتقدة والمرفوضة. فالأربعون مسألة- نادرا ما تخلو من هذه الوظيفة الثنائية( النقد/العرض)-، بل إن غالبية هذه المسائل مصدرة بالرأي المطلوب نقده ثم يليه الرأي المثبت، والمطلوب التمسك به..
ونظرا لكون السكوني وجد نفسه أمام ثقافة شفوية، لا أمام ثقافة عالمة، ونظرا لكون المخاطب الأول هو عامة الناس، كان ضروريا أن يتبع أسلوب التبسيط والاختصار دونما دخول في تفاصيل الأشياء وجزئياتها التي لا طائل تحتها، ولأجل هذا جاءت رسالة”أربعون مسألة في أصول الدين” غاية في الاختصار والتبسيط، بعيدة عن الإطناب الممل، والتعقيد المخل».
تحليل “أربعون مسألة في أصول الدين”:
تحت هذا العنوان حاول يوسف احنانا أن يضع يده على أشعرية عقيدة السكوني والبحث في نسبة أقواله إلى أقوال مفكري الأشاعرة الأوائل فقال: «لقد قادنا تمعننا الطويل حول مضامين هذه المسائل إلى تصنيفها على هذا المنوال:
1- معرفة الله تعالى: ويتصدرها السؤال التالي: هل معرفة الله واجبة أو ضرورية؟
يرفض السكوني أن تكون معرفة الله ضرورية، إذ لو كانت كذلك لما وقع التكليف بها، (لأن الضروري لا يتكلف به بإجماع)، ثم إن الضروري عام ومشاع، فلو كانت معرفة الله ضرورية لعرفه عامة الناس بلا استثناء، لكن الواقع على خلاف ذلك، فالمؤمنون الذين يعرفون الله قلة، علاوة على أن الضروري لا يثاب على معرفته لأنه بدهي بفرض نفسه على عقولنا. هكذا يخلص السكوني إلى أن معرفة الله ليست ضرورية وإنما هي واجبة..
2- الصفات الإلهية: إذا كانت معرفة الله واجبة فإنها تقتضي أن يعرف المرء ما يجب له وما يستحيل في حقه وما يجوز، لأجل هذا نرى السكوني يعدّد الصفات الواجبة ويذكر أضدادها من المستحيلات، ثم يذكر أن الله لا يجب عليه شيء إطلاقا، فجائز أن يخلق الله العالم وجائز ألا يفعل، وقس على ذلك..وهذا المبدأ هو الذي عرف في إطار المذهب الأشعري بمبدأ التجويز..
ويخصص السكوني مجموعة من مسائله لمسألة تنزيه الذات الإلهية، فقد ناقش إثبات أو نفي المكان عن الله في المسألة الحادية عشرة.. [وبحث في مسألة رؤية الله، ومسألة كلام الله أمحدث هو أم قديم؟ ومسألة العدل الإلهي، ومسألة الكسب]…
3-السببية: لا شك أن عملية الربط بين السبب والمسبب عملية عقلية تمدنا بها التجربة المعطاة في الواقع المحسوس، فمن تكرار التجربة يوما عن يوم يتولد في أذهاننا أن هناك علاقة ضرورية بين السبب والمسبب، بحيث إذا وجد الأول لزم عنه بالضرورة وجود الثاني..إلا أن السكوني-والأشاعرة بصفة عامة- يرى أن قولنا السيف يقطع والنار تحرق هو من باب نسبة الأفعال إلى الجماد (ومن نسب الفعل إلى جماد فهو عابد وثن)..لأجل هذا سعى السكوني إلى اعتبار أن الجمل التي تفيد السببية كالنار تحرق والسيف يقطع جمل مجازية..
4- الإيمان: يجعل السكوني معرفة الله[تعالى] شرطا في الإيمان إذ الإيمان لا يستقيم إلا بمعرفة الله[تعالى]، والإيمان عنده هو التصديق بالله وبرسوله والكفر بضده، ولما كان الأمر كذلك كان الإنسان إما مؤمنا أو كافرا ولا منزلة بين الكفر والإيمان كما ذهب إلى ذلك المعتزلة…
5-المعرفة وحدودها: يخصص السكوني بعض مسائله للمعرفة بصفة عامة وشروطها وحدودها، وينطلق من الطرح القائل بضرورة وجود الذات العارفة والموضوع المعروف باعتبارهما شرطين أساسيين في عملية المعرفة، أو ما يسميهما بالإدراك والمدرَك…
6-قدم العالم: يقف السكوني من هذه المسألة موقفا أشعريا واضحا، فهو يرفض أي قول بقدم العالم أو المادة، فالله هو مبدع الكون وخالقه…
7-محبة الله:  ينطلق السكوني بصدد مناقشة هذه المسألة من تصور بعض الناس أن حب الله للناس كحبهم لبعضهم بعضا، وهذا أمر مرفوض في نظر السكوني، ويعتبره جهلا، ذلك  أنه لا مجال لمقايسة حبنا بعضنا بعضا بحب الله لنا، وكذلك الشأن بالنسبة للبغض والكراهية، لأنها مقايسة فاسدة. فحب الله لنا يعني إرادته ثوابنا وإكرامنا، وحبنا له يعني إرادة طاعته وعبادته وثوابه وإكرامه…
8-الخوارق: يناقش السكوني الخوارق أو ما يخرج عن قوانين الطبيعة كالكرامة والفراسة والإسراء، فكرامة الأولياء [في نظره] هي تصرفات خارقة لقوانين الطبيعة، والفراسة نوع من علم الغيب، أما الإسراء فهو معجزة…
9-المعاصي والطاعات: هل المعاصي أقوى من الطاعات؟ سؤال يطرحه السكوني ليستعرض وجهات نظر المسلمين حوله، فالمعتزلة والخوارج يرون أن المعاصي أقوى من الطاعات، فالمعصية الواحدة قد تحبط سائر الطاعات. أما موقف المرجئة فيرى أن الطاعات  أقوى من المعاصي لأن الطاعة الواحدة تحبط سائر المعاصي..ويأتي السكوني ليرى أن الحسنات يذهبن السيئات والإيمان يحبط الكفر، فأحرى (أن يحبط الإيمان سائر المعاصي التي صحبها الإيمان)، لكن السلطة المطلقة تبقى لله فهو يؤاخذ من يشاء من المذنبين ويعفو عمن يشاء…
10-الرقى والكي: يقف السكوني من هذه المسألة موقفا متأرجحا، فهناك حديثان صريحان أحدهما يحرم الرقى والكي وثانيهما يحض عليهما، أمام هذا التعارض بين النصين يلجأ السكوني إلى التأويل فيؤول الحديث الذي يحرم الرقى والكي؛ وذلك بأن يعطيه معنى رقى الجاهلية والكي عن صحة وعافية، وبذلك يرفع السكوني هذا التعارض بين الحديثين..
وفي الأخير يكرس السكوني مسألته الأربعين لتمجيد مذهب الأشاعرة وتفضيله على باقي المذاهب الكلامية الأخرى، فالمرجئة هم كلاب أهل النار والمعتزلة مجوس هذه الأمة ويبقى الأشاعرة هم عدول هذه الأمة وأهل الحق فيها فمن حاد عن طريقهم فهو بمعزل عن السنة…»
ويضيف: «وبالجملة فإن النتيجة الأولية التي يمكننا الخروج بها من هذه الإطلالة العامة هي أن السكوني ظل وفيا لتعاليم المذهب الأشعري ومتمشيا دائما مع مبادئه، معتبرا إياها مبادئ أهل الحق، فالحق كل الحق هو ما دعت إليه الأشاعرة ونادت به، وما دونه جهل جاهل أو مروق عن الدين..إن هذا التمسك الجنوني لصاحبنا بمبادئ الأشعرية وأطروحاتهم لم يكن بدعا من تاريخ الغرب الإسلامي؛ بل هو حلقة في عملية تطور وتسلسل حضور الفكر الأشعري بالمغرب والأندلس الذي بدأ في أواخر القرن الرابع الهجري مع أبي الحسن القابسي(ت403هـ) ليتطور بعد ذلك مع شخصيات ساهمت مساهمات جبارة في ترسيخ ونشر مبادئ العقيدة الأشعرية بالغرب الإسلامي، ويتعلق الأمر بأبي عمران الفاسي(ت430هـ) وأبي عمرو الداني(ت444هـ) وأبي عمر الطلمنكي(ت429هـ) ومحمد بن تومرت(ت524هـ) وعثمان السلالجي(ت574هـ) وغيرهم كثير، سواء في الأندلس أو المغرب بصفة عامة..وأيا ما كان الأمر فإن السكوني استطاع أن يعرض مسائله الأربعين وعمل على أن تكون فعلا (من آكد ما تدور عليه أصول الدين وتدعو الضرورة لأن يعلمها جميع المؤمنين)».
وفي الختام اعتبر يوسف احنانا أن السكوني تمكن فعلا من عرض أهم المسائل الكلامية وأكثرها إلحاحا  في عصره، جوابا على سؤال طرحه في أثناء هذه المقدمة مفاده: هل تمكن السكوني من عرض المسائل الكلامية الملحة؟ إلا أنه –يضيف يوسف احنانا- في نفس الوقت قد أغفل بعض المسائل الكلامية ذات الأهمية الكبيرة، وهي على سبيل المثال مسألة النبوة ومسألة الإمامة، والسبب الذي يبرر غياب هاتين المسألتين رغم أهميتهما العقدية والسياسية، يرجعه –يوسف احنانا- إلى عدم طرح مفكري أهل الغرب الإسلامي لهتين المسألتين لغياب أسبابهما على عكس تداولهما في علم الكلام المشرقي مع منكري النبوة ومع مشترطي القرشية في الإمامة…
[ من مقدمة كتاب:”أربعون مسألة في أصول الدين” لأبي عبد الله السكوني الإشبيلي-دراسة وتحقيق: يوسف احنانا- دار الغرب الإسلامي/بيروت-الطبعة الأولى/1993-(ما بين صفحة14و48)].

                                                                      إعداد: منتصر الخطيب

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق