مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

عقائد الصوفية من الرسالة القشيرية

هذه رسالة كتبها الفقير إلى الله تعالى عبد الكريم بن هوازن القشيري، إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام، في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
أما بعد: رضي الله عنكم فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده، بعد رسله وأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره. فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية. ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهد مجارى أحكام الربوبية. فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف، وتحققوا بما منه سبحانه لهم من التقليب والتصريف. ثم رجعوا إلى الله، سبحانه وتعالى، بصدق الافتقار، ونعت الانكسار، ولم يتكلوا على ما حصل منهم من الأعمال، أو صفا لهم من الأحوال. علماً منهم بأنه جل وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد. لا يحكم عليه خلق. ولا يتوجه عليه مخلوق حق، ثوابه: إبتداء فضل. وعذابه: حكم بعدل. وأمره قضاء فصل. ثم اعلموا، رحمكم الله، أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:
                    أما الخيام فإنها كخيامهم … وأرى نساء الحي غير نسائها
حصلت الفترة في هذه الطريقة..، لا، بل إندرست الطريقة بالحقيقة مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه.
وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام. ودانوا بترك الاحترام. وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة، والنسوان، وأصحاب السلطان.
ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحروا من رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق، تجري عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية. وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا، بل صرفوا.
ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت ببعضه من هذه القصة وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار، غيرة على هذه الطريقة أن يذكر أهلها بسوء، أو يجد مخالف لثلبهم مساغاً، إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة، ولما كنت أؤمل من مادة هذه الفترة أن تنحسم، ولعل الله سبحانه يجود بلطفه في التنبيه لمن حاد عن السنة المثلى في تضييع آداب هذه الطريقة، ولما أبى الوقت إلا استصعاباً. وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تمادياً فيما اعتادوه واغتراراً بما ارتادوه، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده. وعلى هذا النحو سار سلفه، فعلقت هذه الرسالة إليكم، أكرمكم الله. وذكرت فيها بعض سير شيوخ هذه الطريقة في آدابهم، وأخلاقهم، ومعاملاتهم، وعقائدهم بقلوبهم، وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وكيفية ترقيهم من بدايتهم إلى نهايتهم؛ لتكون لمريدي هذه الطريقة قوة، ومنكم لي بتصحيح شهادة، ولي في نشر هذه الشكوى سلوة، ومن الكريم فضلاً ومثوبة وأستعين بالله سبحانه فيما أذكره؛ وأستكفيه؛ وأستعصمه من الخط فيه، وأستغفره وأستعينه. وهو بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير.
– بيان اعتقاد هذه الطائفة في مسائل الأصول:
اعلموا، -رحمكم الله-، أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم. وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم.
ولذلك قال سيد هذه الطريقة الجنيد، رحمه الله: “التوحيد إفراد للقدم من الحدث”. وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل، ولائح الشواهد.
كما قال أبو محمد الحريري، رحمه الله: “أن من لم يقف على علم التوحيد بشاهد من شواهده زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف” يريد بذلك: أن من ركن إلى التقليد، ولم يتأمل دلائل الوحيد؛ سقط عن سنن النجاة؛ ووقع في أسر الهلاك.
ومن تأمل ألفاظهم، وتصفح كلامهم، وجد في مجموع أقاويلهم ومتفرقاتها ما يثق -بتأمله- بأن القوم لم يقصروا في التحقيق عن شأو، ولم يعرجوا في الطلب على تقصير.
ونحن نذكر في هذا الفصل جملا من متفرقات كلامهم فيما يتعلق بمسائل الأصول.
ثم نحرر على الترتيب بعدها ما يشتمل على ما يحتاج إليه في الاعتقاد، على وجه الإيجاز والاختصار، إن شاء الله تعالى.
– معرفة الله:
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: “الواحد: المعروف قبل الحدود وقبل الحروف”. وهذا صريح من الشبلي أن القديم -سبحانه- لا حدَّ لذاته، ولا حروف لكلامه.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر الطوسي يقول: سئل رُويم عن أول فرض افترضه الله عزَّ وجلَّ على خلقه ما هو؟ فقال: المعرفة؛ لقوله جلَّ ذكره: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” . قال ابن عباس: إلا ليعرفون.
وقال الجنيد: إن أول ما يحتاج إليه العبد من الحكمة: معرفة المصنوع صانعه، والمحدث كيف كان إحداثه، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث، ويذل لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته؛ فإن من لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه.
أخبرنى محمد بن الحسين، قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازى يقول: سمعت أبا الطيب المراغى يقول: للعقل دلالة، و للحكمة إشارة، وللمعرفة شهادة؛ فالعقل يدل. والحكمة تشير. والمعرفة تشهد: أن صفاء العبادات لا ينال بصفاء التوحيد.
وسئل الجنيد عن الوحيد، فقال: إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته: أنه الواحد، الذي لم يلد، ولم يولد. بنفي الأضداد، والأنداد، والأشباه، بلا تشبيه. ولا تكييف، ولا تصوير ولا تمثيل “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” .
أخبرنا محمد بن يحيى الصوفي، قال: أخبرنا عبد الله بن علي التميمي الوصفي، يحكى عن الحسين بن علي الدامغاني، قال: سئل أبو بكر الزاهر أباذي عن المعرفة، فقال: المعرفة: اسم، ومعناه وجود تعظيم في القلب يمنعك عن التعطيل والتشبيه.
– صفاته:
وقال أبو الحسن البوشنجي، رحمه الله، التوحيد: أن تعلم أنه غير مشبه للذوات، ولا منفيٍّ الصفات.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله تعالى، قال: سمعت محمد بن محمد بن غالب. قال: سمعت أبا نصر أحمد بن سعيد الأسفنجاني يقول، قال: الحسين بن منصور: ألزِم الكلَّ الحدث، لأنَّ القدم له. فالذي بالجسم ظهوره فالعرَض يلزمه، والذي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه والذي يؤلِّفه وقت يفرقه وقت والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه. والذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقي إليه؛ ومن آواه محل أدركه أين، ومن كان له جنس طالبه مكيِّف.
إنه سبحانه لا يظله فوق، ولا يقله تحت، ولا يقابله حد ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلْف، ولا يحدُّه أمام، ولم يظهره قبل ولم يفنه بعد. ولم يجمعه كلُّ ولم يوجده كان، ولم يفقده ليس.
وصفه: لا صفة له. وفعله: لا علة له؛ وكونه: لا أمد له تنزَّه عن أوال خلقه. ليس له من خلقه مزاج، ولا في فعله علاج باينهم بقدمه، كما باينوه بحدوثهم.
إن قلت: متى، فقد سبق الوقتّ كونه. وإن قلت: هو، فالهاء والواو خلْقه. وإن قلت: أي، فقد تقدَّم المكانّ وجوده.
فالحروف آياته. ووجوده إثباته ومعرفته توحيده. وتوحيده تمييزه من خلقه. ما تُصوِّر في الأوهام فهو بخلافه، كيف يحلُّ به ما منه بدأه؟ أو يعود إليه ما هو أنشأه؟ لا تماقلة العيون، ولا تقابله الظنون. قربه كرامته، وبُعده إهانته، علوُّه من غير توقُّل ومجيئه من غير تنقُّل.
هو: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، القريب البعيد، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر الطوسيِّ السرَّاج يحكى عن يوسف بن الحسين، قال: قام رجل بين يدي ذي النون المصري، فقال: أخبرني عن التوحيد: ما هو؟ فقال هو: أن تعلم قدرة الله تعالى في الأشياء بلا مزاج، وصنعه للأشياء بلا علاج، وعلَّة كل شيء صنعه، ولا علَّة لصنعه. وليس في السموات العلا، ولا في الأرضين السفلى مدبِّر غير الله، وكل ما تصوّر في وهمك فالله بخلاف ذلك.
وقال الجنيد: التوحيد: علمك وإقرارك بأن الله فرد في أزليته لا ثانية معه ولا شيء يفعل فعله.
– الإيمان:
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الإيمان: تصديق القلوب بما علمه الحق من الغيوب.
وقال أبو العباس السياري: عطاؤه على نوعين: كرامة، واستدراج. فما أبقاه عليك فهو كرامة، وما أزاله عنك فهو استدراج، فقل: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى. وأبو العباس السياري كان شيخ وقته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق، رحمه الله، يقول: غمز رَجلٌ رِجل أبي العباس السياري: فقال: تغمز رِجلا ما نَقلتها قط في معصية الله عزَّ وجلَّ!! وقال أبو بكر الواسطي: من قال “أنا مؤمن بالله حقاً” قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف، وإطلاع، وإحاطة، فمن فقده بطل دعواه فيها.
يريد بذلك ما قاله أهل السنَّة: إن المؤمن الحقيقي: من كان محكوما له بالجنة فمن لم يعلم ذلك من سرِّ حكمة الله تعالى، فدعواه: بأنه مؤمن حقاً غير صحيحة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا الحسن العنبري يقول: سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول: ينظر إليه، تعالى، المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
وقال أبو الحسين النوري: شاهد الحقُّ القلوبَ، فلم ير قلباً أشوق إليه من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فأكرمه بالمعراج، تعجيلاً للرؤية والمكالمة.
سمعت الإمام أبا بكر محمد بن الحسن بن فورك، رحمه الله تعالى، يقول: سمعت محمد بن المحبوب – خادم أبي عثمان المغربي – يقول: قال لي أبو عثمان المغربي يوماً: يا محمد، لو قال لك أحد: أين معبودك؟ إيش تقول؟ قال: قلت: أقول حيث لم يزل.
قال: فإن قال: أين كان في الأزل؟ إبش تقول؟ قال: قلت: أقول حيث هو الآن، يعني: أنه كما كان ولا مكان فهو الآن كما كان. قال: فارتضى مني ذلك، ونزع قميصه وأعطانيه.
وسمعت الإمام أبا بكر بن فورك، رحمه الله تعالى، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي، يقول: كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبت إلي أصحابنا بمكة: أنى أسلمت الآن إسلاماً جديداً.
سمعت محمد بن الحسين السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول، وقد سئل عن الخلق، فقال: قوالب وأشباح تجري عليهم أحكام القدرة.
– الأرزاق:
وقال الواسطي: لما كان الأرواح والأجساد قامتا بالله، وظهرتا به لا بذواتها، كذلك قامت الخطرات والحركات بالله لا بذواتها، إذ الحركات والخطرات فروع الأجساد والأرواح. صرَّح بهذا الكلام أن أكساب العباد مخلوقة لله تعالى، وكما أنه لا خالف للجواهر إلا الله تعالى، فكذلك لا خالق للأَعراض إلا الله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر الصيدلاني يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: من ظنَّ أنه ببذل الجهد يصل إلى مطلوبه فمتَعنٍ، ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمنٍ.
وقال الواسطني: المقامات أقسام قُسِّمت، ونعوت أجريت، كيف تُستجلب بحركات، أو تنال بسعايات؟.
– الكفر:
وسئل الواسطي عن الكفر بالله أو الله، فقال: الكفر والإيمان، والدنيا الآخرة من الله، وإلى الله، وبالله، ولله، من الله ابتداء وإنشاء، وإلى الله مرجعاً وانتهاء، وبالله بقاء وفناء، ولله ملكا وخلقاً.
وقال الجنيد: سئل بعض العلماء عن التوحيد، فقال: هو اليقين.
فقال السائل: بّين لي ما هو؟ فقال: هو: معرفتك،أن حركات الخلق وسكونهم، فعل الله عزَّ وجلَّ، وحده، لا شريك له فإذا فعلت ذلك فقد وحَّدته.
سمعت محمد بن الحسين رحمه الله، يقول: سمعت عبد الواحد بن علي، يقول: سمعت القاسم بن القاسم يقول: سمعت محمد بن موسى الواسطي يقول: سمعت محمد بن الحسين الجوهري يقول: سمعت ذا النون المصري يقول، وقد جاءه رجل فقال: ادع الله لي، فقال.
إن كنت قد أُيدت في علم الغيب بصدق التوحيد، فكم من دعوة مجابة قد سبقت لك، وإلا فإن النداء لا يُنقذ الغرقي.
وقال الواسطي: ادَّعى فرعون الربوبية على الكشف، وادَّعت المعتزلة على الستر، نقول: ماشئت فعلت.
وقال أبو الحسين النوري: التوحيد: كلُّ خاطر يشير إلى الله تعالى، بعد أن لا تزاحمه خواطر التشبيه.
وأخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله تعالى، قال: سمعت عبد الواحد بن بكر، يقول: سمعت هلال بن أحمد يقول: سئل أبو علي الروذباري عن التوحيد، فقال: التوحيد: استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل، وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة: كل ما صوَّره الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه، لقوله تعالى: “ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير”.
وقال أبو القاسم النصر أباذي: الجنة باقية بإبقائه. وذكرُه لك، ورحمته، ومحبته لك باق ببقائه. فشتان بين ما هو باق ببقائه، وبين ما هو باقٍ بإبقائه.
رحم الذي قاله الشيخ أبو القاسم النصر أباذي، هو غاية التحقيق؛ فإن أهل الحق قالوا: صفات ذات القديم سبحانه  باقيات ببقائه تعالى. فنبه على هذه المسألة وبين أن الباقي باقٍ ببقائه. بخلاف ما قاله مخالفو أهل الحق فخالفوا الحق.
أخبرنا محمد بن الحسين؛ قال: سمعت النصر أباذي يقول: أنت متردد بين صفات الفعل وصفات الذات، وكلاهما صفته تعالى على الحقيقة، فإذا هيمَّك في مقام التفرقة قرنك بصفات فعله، وإذا بلَّغك إلى مقام الجمع قرنك بصفات ذاته. وأبو القاسم النصراباذي كان شيخ وقته.
سمعت الإمام أبا اسحق الاسفرايني، رحمه الله، يقول: لما قدمت من بغداد كنت أدرس في جامع نيسابور مسألة الروح، وأشرح القول في أنها مخلوقة، وكان أبو القاسم النصر أباذي قاعداً متباعداً عنا؛ يصغي إلى كلامي، فاجتاز بنا بعد ذلك يوماً بأيام قلائل، فقال لمحمد الفراء: أشهد أني أسلمت جديداً على يد هذا الرجل، وأشار إليَّ.
سمعت محمد بن الحسين السلمي، يقول: سمعت أبا حسين الفارسي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول: متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير له بمن له شبيه ونظير؟! هيهات، هذا ظن عجيب إلا بما لطف اللطيف من حيث لا درك، ولا وهم، ولا إحاطة إلا إشارة اليقين وتحقيق الإيمان.
أخبرنا محمد بن الحسين، رحمه الله تعالى، قال: سمعت عبد الواحد ابن بكر يقول: حدثني أحمد بن محمد بن علي البردعي، قال: حدثنا طاهر بن إسماعيل الرازي، قال: قيل ليحيى بن معاذ: أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ.
فقال: الله واحد.
فقيل له: كيف هو؟ فقال: ملك قادر.
فقيل: أين هو؟ فقال: هو بالمرصاد.
فقال السائل: لم أسألك عن هذا!! فقال: ما كان غير هذا كان صفةَ المخلوق. فأما صفته فما أخبرتك عنه وأخبرنا محمد بن الحسين، قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: كل ما توهمه متوهم بالجهل أنه كذلك، فالعقل يدل على أنه بخلافه.
وسأل ابن شاهين الجنيدَ عن معنى: مع.
فقال مع، على معنيين: مع الأنبياء بالنصرة والكلاءة، قال الله تعالى: “إنني معكما أسمع وأرى”.
ومع العامة بالعلم والإحاطة، قال تعالى: “ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم”.
فقال ابن شاهين: مثلك يصلح أن يكون دالاَّ للأمة على الله.
– الاستواء على العرش:
وسئل ذو النون المصري عن قوله تعالى: “الرحمن على العرش استوى” .
فقال: أثبتّ ذاته ونفى مكانه، فهو موجود بذاته، والأشياء موجودة بحكمة، كما شاء سبحانه.
وسئل الشبلي عن قوله تعالى: “الرحمن على العرش استوى”. فقال: الرحمن لم يزل، والعرش محدث والعرش بالرحمن استوي. وسئل جعفر بن نصير عن قوله تعالى: “الرحمن على العرش استوى”، فقال: استوى علمه بكل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء. وقال جعفر الصادق: من زعم أن الله في شيء، أو من شيء، أو على شيء، فقد أشرك؛ إذ لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدثاً.
وقال جعفر الصادق أيضاً في قوله “ثم دنا فتدلّى”: من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثّمَّ مسافة، إنما التداني أنه كلما قرب منه بَعَّده عن أنواع المعارف إذ لا دنوَّ ولا بُعد.
ورأيت بخط الأستاذ أبي عليٍّ أنه قيل لصوفيِّ: أين الله؟ فقال: أسحقك الله!! تطلب مع العين أين؟! أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت أبا العباس ابن الخشاب البغداي يقول: سمعت أبا القاسم بن موسى يقول: سمعت محمد بن أحمد يقول: سمعت الأنصاري يقول: سمعت الخراز يقول: حقيقة القرب: فقد حِسِّ الأشياء من القلب وهدوء الضمير إلى الله تعالى.
– عن خلق القرآن:
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن علي الحافظ يقول: سمعت أبا معاذ القزويني يقول: سمعت أبا عليٍّ الدلال يقول: سمعت أبا عبد الله بن قهرمان يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: انتهيت إلى رجل، وقد صرعه الشيطان، فجعلت أؤذن في أذنه، فناداني الشيطان من جوفه: دعني أقتله؛ فإنه يقول القرآن مخلوق.
وقال ابن عطاء: إن الله تعالى لما خلق الأحرف جعلها سراً له، فلما خلق آدم عليه السلام بث فيه ذلك السر، ولم يبث ذلك السر في أحد من ملائكته، فجرت الأحرف على لسان آدم عليه السلام بفنون الجريان وفنون اللغات، فجعلها الله صوراً لها. صرح ابن عطاء القول بأن الحروف مخلوقة.
وقال سهل بن عبد الله: إن الحروف لسان فعل، لا لسان ذات؛ لأنها فعل في مفعول.
قال: وهذا أيضاً تصريح بأن الحروف مخلوقة.
وقال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين: التوكل عمل القلب، والتوحيد قول القلب، قال: هذا قول أهل الأصول، إن الكلام: هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي، والخبر، والاستخبار.
أقوال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين أيضاً: تفرد الحق بعلم الغيوب، فعلم ما كان، وما يكون، وما لا يكون: أن لو كان كيف كان يكون.
وقال الحسين بن منصور: من عرف الحقيقة في التوحيد سقط عنه: لِمَ وكيف.
أخبرنا محمد بن الحسين، قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: قال الجنيد: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد.
وقال الواسطي: ما احدث الله شيئاً أكرم من الروح. صرَّح بأن الروح مخلوقة.
قال الأستاذ الإمام زين الإسلام أبو القاسم، رحمه الله: دلَّت هذه الحكايات على أن عقائد مشايخ الصوفية توافق أقاويل أهل الحق في مسائل الأصول.
وقد اقتصرنا على هذا المقدار خشية خروجنا عما آثرناه من الإيجاز والاختصار.
– الحق سبحانه:
فصل قال الأستاذ زين الإسلام أبو القاسم، أدام الله عزَّه: وهذه فصول تشتمل على بيان عقائدهم في مسائل التوحيد ذكرناها على وجه الترتيب.
قال شيوخ هذه الطريقة، على ما يدلُ عليه متفرقات كلامهم، ومجموعاتهم، ومصنفاتهم في التوحيد:
إن الحق، سبحانه وتعالى: موجود، قديم، واحد، حكيم، قادر، عليم، قاهر، رحيم، مريد، سميع، مجيد، رفيع، متكلم، بصير متكبر، قدير، حيُّ أحد، باق، صمد.
وأنه عالم بِعِلم، قادر بقدرة؛ مريد بإرادة؛ سميع بسمع؛ بصير ببصر؛ متكلم بكلام؛ حيُّ بحياة؛ باقٍ ببقاء.
وله يدان هما صفتان؛ يخلق بهما ما يشاء، سبحانه، على التخصيص.
وله الوجه الجميل. وصفات ذاته مختصة بذاته، لا يقال هي هو، ولا هي أغيار له، بل هي صفات له أزلية، ونعوت سرمدية، وأنه إحدىُّ الذات، ليس يشبه شيئاً من المصنوعات، ولا يشبهه شيء من المخلوفات، ليس بجسم، ولا جوهر ولا عرّض، ولا صفاته أعراض، ولا يتصوَّر في الأوهام، ولا يتقدَّر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان، ولا يخصُّه هيئة وقدُّ، ولا يقطعه نهاية وحدُّ، ولا يحله حادث، ولا يحمله على الفعل باعث، ولا يجوز عليه لون ولا كوْن، ولا ينصره مدد ولا عون؛ ولا يخرج عن قدرته مقدور؛ ولا ينفك عن حكمه مفطور؛ ولا يعزب عن علمه معلوم؛ ولا هو على فعله كيف يصنع وما يصنع ملوم؛ لايقال له: أين؛ ولا حيث؛ ولا كيف؛ ولايُستفتح له وجود: فيقال: متى كان: ولا ينتهي له بقاء: فيقال إستوفى الأجل والزمان، ولا يقال: لِمَ فعل ما فعل؛ إذ لا علَّة لأفعاله؛ ولا يقال ما هو؛ إذ لا جنس له فيتميز بأمارة عن أشكاله.يُرى لا عن مقابلة، ويرى غيره لا عن مماقلة، ويصنع لا عن مباشرة ومزاولة. له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، يَفعل ما يريد، ويذل لحكمه العبيد، لايجري في سلطانه إلا ما يشاء، ولا يحصل في ملكه غير ما سبق به القضاء، ما علم أنه يكون من الحادثات أراد أن يكون. وما علم أنه لا يكون. مما جاز أن يكون: أراد أن لا يكون. خالق إكساب العباد: خيرها وشرِّها. ومبدع ما في العالم من الأعيان والآثار: قُلُّها وكُثْرها. ومرسل الرسل إلى الأمم من غير وجوب عليه.
ومتعبَّد الأنام على لسان الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ بما لا سبيل لأحد باللوم والاعتراض عليه، ومؤيد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، بما أزاح به العذر، وأوضح به اليقين والنكر، وحافظ بيضة الإسلام بعد وفاته،صلى الله عليه وسلم، بخلفائه الراشدين، ثم حارس الحق وناصره بما يوضحه من حجج الدين على ألسنة أوليائه، عصم الأمة الحنفية عن الاجتماع على الضلالة، وحسم مادة الباطل بما نصب من الدلالة، وأنجز ما وعد من نصرة الدين بقوله: ” ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ” .
فهذه: فصول تشير إلى أصول المشايخ على وجه الإيجاز، وباللّه التوفيق.

 

 

————
(*) الرسالة القشيرية، للإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري وبهامشها منتخبات من شرح شيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، دار السلام الطبعة الرابعة، 1431هـ/2010م، (ص:3-9)

 

                                                           إعداد الباحث: يوسف الحزيمري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق