مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (16): خصال عشر في أعمال الباطن في تلاوة الكتاب: -5- التفهم

لئن كان للتدبر في الوفاءبـ “حق التلاوة القرءانية”  مقامه المعلوم من الاعتبار، قياما بأوضاع التنزيل، وتبصيرا بحقائقه ، وتوقيرا لمقاصده ، بحسب ما تمهد في سالفة الدرر، فإن مما ينتظم في نظامه، وينشعب في شعاب مُحصِّلاته ، مُدِلًّابمُجرَيات إجرائه وخصوص مفرداته، ومُثخِنا في مَعنِيّاته ومُعَيَّناته ما أردفه الإمام عليه في هذه الدرة الخامسة تحت وسم: التفهم، وهو – كما تجلوه عبارته-:  تعمُّل الفهم في استيضاح معاني آحاد الآي بحسب مقاماتها ، والإلحاح في تلمُّس بطائنها ومقتضياتها، وإدمان المدارسة في تثوير دفائنها بحسب  مَعارضها وتنوع سياقاتها في الدلالة على  آفاق الوجود الكوني،  وآثار التدبير في خلق الله وأمره..وتتبسط عبارة الإمام في هذه السياقة، يرسم لك فيها  مسالك هذا  التفهم، وما به يتذلل لك المشي في مناكبه و الإفضاء منه إلى أغيى مراتبه؛  فيوجه عنايتك إلى مكامنه ،ومواطن التأمل في أنحائه، ويضرب لك  من عظيم المُثُل : الافتكار في أفعال الله وصفاته، وأحوال أنبيائه وأصفيائه، ومصائر مكذبيهم وما نزل من المثلات بمناوئيهم، وماحمله الكتاب في تضاعيفه من أوصاف الجحيم والنعيم..وغيرها من القضايا الكبرى التي غنيت نجوم الكتاب الكريم بالاعتناء بها وتصريف القول فيها، وعرض المشاهد الحية في تصويرها والإخبار عنها، وأخلق بها – إذ هي هي – أن تستنهض همة التالي ،  وتستحث بعوث فكره  لتعميق النظر في أنساق مساقاتها، و مداولات مدلولاتها، وتبطن إحالاتها وإيحاآتها، والتحقق بمشاهدة الحق في مشاهد حقائقها… وتلك غاية لا إلى غاية، وإنما هي فرائد هبات ، ومحض فتوحات وفيوضات يتفضل الله بها على من يشاء من عباده، وحظ التالي من ذلك استفراغ كنه المكابدة والمجاهدة، والتضرع  إلى الله بدعاء الفتح والمكاشفة، ودرء عارض الصد والممانعة، ليخلص له صفو التزكية المباركة ؛ فكل ميسر له من ذلك بحسب ما قدر له، والله الموفق إلى فهم كتابه، وهو الهادي إلى سواء سبيله…

الخامس التفهم:

 وهو أن يستوضح من كُلِّ آيَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا؛ إِذِ الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وذكر أفعاله، وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام، وذكر أحوال الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَيْفَ أُهْلِكُوا، وَذِكْرِ أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ، وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
أَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ عز وجل؛ فكقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَےْءٞۖ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْبَصِيرُۖ﴾ [الشورى:9]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اَ۬لْمَلِكُ اُ۬لْقُدُّوسُ اُ۬لسَّلَٰمُ اُ۬لْمُومِنُ اُ۬لْمُهَيْمِنُ اُ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْجَبَّارُ اُ۬لْمُتَكَبِّرُۖ﴾ [الحشر:23]، فَلْيَتَأَمَّلْ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِيَنْكَشِفَ لَهُ أسرارها، فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للموفقين،  وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله: ” ما أسر إِلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً كتمه عن الناس إلا أن يؤتيَ الله عز وجل عبداً فهماً في كتابه” [1]، فليكن حريصاً على طلب ذلك الفهم .

 وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ” من أراد علم الأولين والآخرين فليثُوِّر القرآن”[2]، وأعظم علوم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته؛  إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلا أموراً لائقة بأفهامهم، ولم يعثروا على أغوارها.

وأما أفعاله تعالى،  فكذكره خلقَ السموات وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا،  فَلْيَفْهَمِ التَّالِي مِنْهَا صِفَاتِ اللَّه عز وجل وجلالَه؛ إذا الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ فَتَدُلُّ عَظَمَتُهُ عَلَى عظمته،  فينبغي أن يشهد في الفعل الْفَاعِلَ دُونَ الْفِعْلِ،  فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ رَآهُ في كل شيء؛ إذ كل شيء فهو منه وإليه، وبه وله، فهو الكل على التحقيق،  ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه،  ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل،  وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال،  بل هو الآن باطل إن اعتبر ذاته من حيث هو،  إلا أن يعتبر وجوده من حيث إنه موجود بالله عز وجل وبقدرته،  فيكون له بطريق التبعية ثبات،  وبطريق الاستقلال بطلان محض، وهذا مبدأ من مبادىء علم المكاشفة.

 وَلِهَذَا يَنْبَغِي إِذَا قَرَأَ التَّالِي قَوْلَهُ عَزَّ وجل: ﴿أَفَرَٰٓيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة:66] ، ﴿أَفَرَٰٓيْتُم مَّا تُمْنُونَ﴾ [الواقعة:61]، ﴿أَفَرَٰٓيْتُمُ اُ۬لْمَآءَ اَ۬لذِے تَشْرَبُونَ﴾ [الواقعة:71]، ﴿أَفَرَٰٓيْتُمُ اُ۬لنَّارَ اَ۬لتِے تُورُونَ﴾ [الواقعة:74] ،  ألَّا يَقْصُرَ نَظََرَهُ عَلَى الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَرْثِ وَالْمَنِيِّ،  بَلْ يَتَأَمَّلُ فِي الْمَنِيِّ وَهُوَ نُطْفَةٌ مُتَشَابِهَةُ الْأَجْزَاءِ،  ثُمَّ يَنْظُرُ فِي كَيْفِيَّةِ انْقِسَامِهَا إِلَى اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ،  وَكَيْفِيَّةِ تَشَكُّلِ أَعْضَائِهَا بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ وَغَيْرِهَا،  ثُمَّ إِلَى مَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ إِلَى مَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ مِنَ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْكِبْرِ وَالْجَهْلِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْمُجَادَلَةِ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ اَ۬لِانسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَٰهُ مِن نُّطْفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞۖ﴾ [يس:76]،  فيتأمل هذه العجائب ليرقى منها إلى أعجب العجائب،  وهو الصفة الَّتِي مِنْهَا صَدَرَتْ هَذِهِ الْأَعَاجِيبُ،  فَلَا يَزَالُ ينظر إلى الصنعة  ويرى الصَّانِعَ.
وَأَمَّا أَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ،  فَإِذَا سمع منها أنهم كيف كذبوا وضربوا وقتل بعضهم،  فليفهم منه صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرسل والمرسل إليهم،  وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه شيئاً،  وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر،  فليفهم قُدْرَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِرَادَتَهُ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ.
وَأَمَّا أَحْوَالُ الْمُكَذِّبِينَ،  كَعَادٍ وَثَمُودَ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ،  فَلْيَكُنْ فَهْمُهُ مِنْهُ اسْتِشْعَارَ الْخَوْفِ مِنْ سَطْوَتِهِ وَنِقْمَتِهِ،  وَلْيَكُنْ حَظُّهُ مِنْهُ الِاعْتِبَارَ فِي نفسه،  وأنه إن غفل وأساء الأدب واغتر بما أُمهل فربما تدركه النقمة وتنفذ فيه القضية.

 وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن،  فلا يمكن استقصاء ما يفهم منها؛ لأن ذلك لا نهاية له،  وإنما لكل عبد منه  بقدر رزقه،  فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين: ﴿قُل لَّوْ كَانَ اَ۬لْبَحْرُ مِدَاداٗ لِّكَلِمَٰتِ رَبِّے لَنَفِدَ اَ۬لْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّے وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِۦ مَدَداٗۖ﴾ [الكهف:104].ولذلك قال علي رضي الله عنه: ” لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب”[3].
فالغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق التفهم لينفتح بابه،  فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه،  ومن لم يكن له فهم ما في القرآن ولو في أدنى الدرجات،  دخل في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ يَّسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّيٰٓ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاًۖ ا۟وْلَٰٓئِكَ اَ۬لذِينَ طَبَعَ اَ۬للَّهُ عَلَيٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوٓاْ أَهْوَآءَهُمْۖ [محمد:17]. والطابع:  هي الموانع التي سنذكرها في موانع الفهم، وقد قيل:” لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد،  ويعرف منه النقصان من المزيد ويستغني بالمولى عن العبيد”[4]                                                                 إحياء علوم الدين:2/ 299 – 303 ( دار المنهاج)


[1] – ن. النسائي: ( 8/23)

[2] – ابن المبارك في الزهد: 814

[3]  – قوت القلوب:  1/50

[4]  – قوت القلوب: 1/57

د.توفيق العبقري

  • مشرف على البحث العلمي بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق