مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حلقــات الذكــر

للحافظ السيوطي رضي الله عنه وأرضاه في هذا الموضوع رسالة اسمها « نتيجة الفكر في الجهر بالذكر» قال في أولها:

     «الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى سألتَ أكرمك الله عما اعتاده السادة الصوفية من عقد حِلق الذكر والجهر به في المساجد ورفع الصوت بالتهليل، وهل ذلك مكروه أو لا؟ الجواب: أنه لا كراهة في شيء من ذلك، وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإِسرار به، والجمع بينهما: أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما جمع النووي بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن، والأحاديث الواردة باستحباب الإِسرار بها» [1]. ثم أورد خمسة وعشرين ما بين حديث وأثر، نقتطف منها ما يلي:

  1- روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «يقول الله تعالى أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إِذا ذكرني، فإِن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإِن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه» قال: والذكر في الملأ لا يكون إِلا عن جهر، قلت: والحديث رواه بقية الستة إِلا أبا داود [2].

  2- روى البزار بإِسناد صحيح عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إِذا ذكرتني خالياً ذكرتك خالياً وإِذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم» [3].

  3- روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنّ لله تبارك وتعالى ملائكةً سيّارة فُضلاء يبتغون مجالس الذكر، فإِذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحفّ بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء، فإِذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إِلى السماء، فيسألهم الله عزّ وجلّ -وهو أعلم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض، يُسبحونك ويُكبرونك ويهللونك ويَحمدونك ويسألونك، قال: فما يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب، قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا يا رب، قال: فكيف لو رأوا ناري، قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قال: يقولون: يا رب فيهم فلان عبدٌ خطّاء، إِنما مر فجلس معهم، فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» [4].

  4- روى البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «إِذا مررتم برياض الجنة فارتَعوا» قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة، قال: «حِلق الذكر»، قلت: رواه الترمذي وحسّنه [5].

  5- روى الطبراني وابن جرير عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: لمّا نزلت على رسول الله ﷺ- وهو في بعض أبياته-﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ الآية[6]، فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله تعالى، منهم ثائر الرأس، وجاف الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم» [7] وروى أحمد في الزهد عن ثابت قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله، فَمَرَ النبيّ ﷺ فكفوا، فقال «ما كنتم تقولون؟» قلنا: نذكر الله، قال: «إِني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها» ثم قال «الحمد لله الذي جعل في أُمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم»، قلت: للحديث طرق كثيرة [8].

     ثم قال السيوطي: «إِذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتّة في الجَهرِ بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه إِما صريحاً أو التزاماً، وأما معارضته بحديث «خير الذكر الخفي»[9] فالجمع بينهما بأن الإِخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذى به مصلون، أو نيام، والجهر في غير ذلك أفضل، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إِلى السامعين، ولأنه يُوقظ قلب الذاكر ويجمع همّه، ويصرف سمعه إِليه ويطرد النوم، ويزيد في النشاط، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فإِن قلت: قال الله تعالى ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [10].قلت: الجواب من ثلاثة أوجه:

   أحدها: أنها مكّية كآية الإِسراء﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [11].وقد نزلت حين كان النبي ﷺ يجهر بالقرآن، فيسمعه المشركون فيسُبون القرآن ومن أنزله، فأمر بترك الجهر سداً للذريعة، كما نهى عن سب الأصنام لذلك بقوله تعالى ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [12].وقد زال هذا المعنى الآن، أشار إِلى ذلك ابن كثير في تفسيره.

   الثاني: أنّ جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير حملوا الآية على الذاكر حالة قراءة القرآن، وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويؤيده اتصالها بقوله ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ﴾ [13].

   الثالث: ما ذكره الصوفية أنّ الأمر في الآية خاص بالنبيّ ﷺ الكامل المُكمل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمورٌ بالجهر لأنه أشد تأثيراً في دفعها. فإِن قلت: فقد قال تعالى:﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، [14]وقد فسر الاعتداء بالجهر في الدعاء، قلت: الجواب من جهتين: «أحدهما»: أن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه[15] والحاكم [16]وصَحَّحَه عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إِني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: أني سمعت رسول الله r يقول: «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء» [17] .فهذا تفسير صحابي وهو أعلم بالمُراد. «الثاني»: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه السر، لأنه أقرب إِلى الإِجابة، ولذا قال تعالى: ﴿إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [18].

      ومن ثم استحب الإِسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقاً، لأنها دعاء، فإِن قلت: فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال: ما أراكم إِلا مبتدعين، حتى أخرجهم من المسجد، قلت: هذا الأثر يحتاج إِلى بيان سنده، ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، وعلى تقدير ثبوته فهو مُعارضٌ بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إِنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدّثنا حسين بن محمد المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلساً قط إِلا ذكر الله فيه. وأخرج أحمد في الزهد عن ثابت البنانى قال: إِنّ أهل ذكر الله ليجلسون إِلى ذكر الله وإِنّ عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإِنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شئ» [19].

هذا ملخص رسالة نتيجة الفكر، وهي مطبوعة بتعليقاتي عليها، فليراجعها من أرادها.

  هوامـــــــــــــــــــــــــش :

[1] نتيجة الفكر في الجهر في الذكر، ضمن الحاوي للفتاوى، السيوطي، (1/375).

[2] صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾رقم 7405. ورواه مسلم، رقم 2675. والترمذي رقم 3603. النسائي رقم 7683. ابن ماجة رقم 3822.

[3] مسند البزار، رقم 5138.

[4]  مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل مجالس الذكر، رقم 2689. والبخاري في كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، رقم 6408.

[5]  سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في عقد التسبيح، رقم 3510. وقال: هذا حديث  حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس. ورواه أحمد في مسنده، رقم 12462.

[6]  الكهف الآية28.

[7]  المعجم الأوسط: الطبراني، رقم 8866. وذكره الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ضبطه وعلق عليه، رضوان جامع رضوان، خرج أحاديثه، أبي عمرو أحمد بن عطية الوكيل، دار ابن الجوزي القاهرة، ط الأولى 1430ﻫ/2009م، (18/215).

[8]  المستدرك، رقم 415، الحلية (1/420). سنن أبي داود، رقم 3666.

[9] المقاصد الحسنة: شمس الدين السخاوي، رقم456.

[10] الأعراف الآية 205.

[11]  الإسراء الآية 109.

[12]  الأنعام الآية 109.

[13] الأعراف الآية 204.

[14] الأعراف الآية 54.

[15]  سنن ابن ماجة، كتاب الدعاء، باب كراهية الاعتداء في الدعاء، رقم 3864.

[16] المستدرك للحاكم، كتاب الطهارة، رقم 579.

[17]  سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، رقم 1480.

[18] مريم الآية 2.

[19] الحاوي للفتاوي، نتيجة الفكر بالجهر في الذكر، السيوطي، (1/379-380). بتصرف.

Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق