مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

حكميات عطائية , “إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية”

الإرادة: حالة من حالات القلب، ووصف من صفات العبد، وهي جائزة كهو، وهي بتخصيص الأمور وتدبيرها[1]، وقد علمت ما العبد عليه من القصور والعجز، لجهله بتقدير الأمور، والعجز من لوازم إرادتهِ الأشياءَ واختيارها.

والمطلوب من العبد حيث كان كذلك: أن یکون بتدبير الله واختياره، تاركا لإرادته وسائر أوصافه وأفعاله، ويبقى بتدبير من له الإرادة الكاملة، والقدرة النافذة في حركاته الظاهرة والباطنة، فعلى ذلك: لو أبيح له أن يختار … لكان من حقه ترك الاختيار، فكيف والعبد مأمور بترك الاختيار؛ لقوله تعالى: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة[2]_[3].

والأسباب إذا ثبتت الإقامة فيها بحصول ثمراتها، كانت عبادة وسترا للعبد، لكنها شاقة على المبتدئين لما فيها من مزج الحقوق بالحظوظ، فلا تنضبط النفس عندها ولا يكاد يتخلص المقصد، فإرادة العبد الانتقال منها إلى التجريد، شهوة نفس، إما لأنه يطلب ما يسهل على نفسه ويترك ما يشق عليها، وذلك شفقة منه عليها، وإما لأن الغالب على أهل الاختصاص هو التجريد، فهو يريد التمييز والاتصاف بصفات الخواص، وإما لأنه يقول بلسان حاله: أنا أهل لما هو أعلا من هذا، فيحتقر نعمة الله، ويتطلع لما فوقها[4].

ومن ثمرات مقام السبب؛ أن المتسبب الذي أقيم فيها وأريد بها فعلامة ذلك تيسيرها، وحصول النتائج فيها من المنافع الدينية؛ من صلة أرحام، وإرفاق ذوي الفاقات، مع حفظ الأوقات، وعدم الفرح بما أتى، والتأيُّس على ما فات.

فإذا ظهرت هذه العلامات … علم بأنه مراد بالمقام فيها، فليحسن في مقامه بتحليل حلاله وتحريم حرامه، ولا يطلب الخروج عنها بنفسه؛ حتى يكون الحق هو الذي يتولى إدخاله وإخراجه، ﴿وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا[5] نصيرا على هواي وسائر أعدائي؛ فالمدخل الصدق والمخرج الصدق: أن تدخل في الأشياء وتخرج عنها كما ذكرنا لك.

ومن آداب المتسبب بل من وظائفه وعلامة صدقه: ألا يحتجب بالأسباب عن مسببها، ويكون اعتماده على حول الله وقوته في جميع ما يأخذ ويدع.

ومن وظائفه أيضا: مراعاة القوانين الشرعية فيما يصح له الإقدام علیه، وما يطلب منه فيه الإحجام عنه، ويأخذ من الفقه كل ما يحتاج إليه من كل ما يريد الدخول فيه والتلبس به؛ فما يقوم بوظائف الأسباب إلا الأقوياء الكُمَّل العالمون بدقائق المعاملات[6].

قال سيدي أبي الحسن الشاذلي: «وآداب الفقير المتسبب أربعة: موالاة الأبرار، ومجانبة الفجار، وإيقاع الصلاة في الجماعة، ومواساة الفقراء والمساكين بما يفتح عليه»[7]

والتجريد إذا ثبتت الإقامة فيه بحصول ثمراته كان عبادة، والله يفعل بعبده ما يشاء من إخفاء وإظهار، والستر لا ينحصر في تعاطى الأسباب، فإن أوصاف البشرية الساترة للخصوصية كثيرة متعددة، فإرادة الانتقال من التجريد إلى الأسباب رضیً بالنزول عن طريق أهل الاختصاص إلى طريق أهل الانتقاص بحسب الغالب، وإذا كان كل منهما عبادة وطريقا صالحا للتوصل، فعلى العبد أن يرضى بما اختاره له الحق منهما، مستعينا به، سائلا منه التأييد، فإن رام خلاف ذلك خرج عن مقتضی العبودية[8].

والمتجرد إذا تركته الأسباب … فلا تتيسر له أسبابها، وتُغلق دونه أبوابها، وتخطفه الحقائق، وتنسلخ عنه العوائق، فإذا كان كذلك … الله يقيمه مقاما حسنا، ويكلؤه کلاءة مريَّة، ويحييه حياة طيبة، ويغذيه بعيشة هنية؛ بأن يملأ قلبه نورا، وفرحا وحبورا، ويوصل إليه ما قدَّره له، ويكفيه هم ذلك؛ بأن ييسر له من يوصله إياه: إما من أبناء جنسه، وإما أن تمدَّ له موائد الغيب، فتكون له أرزاقا معنوية، وأقواتا خلدية قُرْبِيَّة، تتلون له كما تتلون لأهل الجنة، فقد يكون من ذلك في الدنيا لبعض المرادين؛ كما كان لابنة عمران، ﴿ولما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنَّى لك هذا، قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء يغير حساب[9] ولا نصب ولا عقاب ، فهكذا يعامل الأحباب[10].

يقول سيدي أبي الحسن: «وآداب الفقير المتجرد أربعة الحرمة للأكابر والرحمة للأصاغر والإنصاف من نفسك وعدم الإنتصار لها»[11]

(…) ولذا حكم المؤلف على إرادة العبد المخالفة لمختار الله تعالى بالذم، سواء تعلقت بمعالي الأمور أو بأدانیها، لأن المتعلقة بمعاليها في الموضوع المذكور لا تكون إلا من الشهوة الخفية، والمتعلقة بأدانیها فيه لا تكون إلا من الشهوة الجلية[12].

فهذه الحكمة مكملة لسابقتها على اعتبار أن الحكم العطائية مصوغة صياغة متكاملة ومترابطة، وبالتالي فما هنا من مظاهر الاعتماد على العمل وأمثلته ذكرها سيدي ابن عطاء الله لتوضيح الحكمة السابقة، ثم بين أنها مع ذلك لا تنتج ولا تفيد، إذ لا يقع متعلقها إلا إذا أراده الله تعالى، فمراده هو الذي يقع، سواء أراده العبد أم لا، ومالم يُرِده لم يقع، سواء أراده العبد أم لا، فإرادة العبد إذا لا تساوي شيئا، وهو معنی قول من قال: «تركت السبب كذا وكذا مرة فعدت إليه، فلما تركني السبب لم أعد إليه»[13]

وصدق من قال:

من قام لله في الأحوال قام له             كل الوجود بتسخير وتيسير[14]

الهوامش:

[1] عرف البيجوري في: “تحفة المريد على جوهرة التوحيد” ص:122- صفة الإرادة بكونها: “صفة قديمة زائدة على الذات قائمة به، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه” فتعلقها إذا تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، لكن الكلام هنا عن الإرادة البشرية لذلك وصفها الشارح بالقاصرة العاجزة فالعجز من لوازم العبد.

[2] القصص، الآية:68.

[3] “شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم” لأبي محمد علي باراس (ت:1094هـ) ط1/ 2016م، دار السنابل ودار الحاوي، ص:118.

[4] شرح سيدي محمد ابن زكري على الحكم العطائية، تقديم وتحقيق: العلمي طارق، أطروحة لنيل الدكتوراه في الآداب، مرقون. كلية الآداب والعلوم الإنسانية – تطوان، السنة الجامعية 2014م/2015م. ص:84

[5] الإسراء، الآية:80.

[6] شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم، ص:121، بتصرف.

[7] إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لابن جيبة، ص:13/1، دار الفكر ب – ت.

[8] شرح سيدي محمد ابن زكري على الحكم العطائية، ص:85.

[9] آل عمران، الآية:37

[10] شفاء السقم، ص:122.

[11] إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لابن جيبة، ص:13/1، دار الفكر ب – ت.

[12] شرح ابن زكري على الحكم، ص:85.

[13] إيقاظ الهمم ص:14.

[14] شفاء السقم، ص:122.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق