مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

حديث خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك في صحيح البخاري: مواضع ذكره، وسبب تكراره

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

لقد خص الله  تعالى الصيام من بين سائر الأعمال بمزيد فضل ، وقد ورد بشأنه أحاديث نبوية عدة تبين هذا الفضل وتؤكده؛ من ذلك أن: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة  المسك ، وهو من الأحاديث الصحيحة التي أخرجها أئمة الحديث في مصنفاتهم الحديثية، ومنهم الإمام البخاري في جامعه الصحيح، عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد أورده في خمسة أبواب من كتابه لغرض الاستنباط؛ وفي هذا يقول الإمام  النووي رحمه الله "ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباط منها، والاستدلال لأبواب أرادها"[1].

ولأهمية هذا الحديث فقد انتقيته موضوعا لهذا المقال، وسيكون منهجي فيه كالآتي: أذكر أولا المواضع التي ذكر فيها البخاري الحديث، ثم أعلل سبب تكراره له  معتمدة في ذلك على كلام بعض الأئمة الأعلام الذين اعتنوا بشرح الجامع الصحيح؛ وهم: العلامة ابن بطال القرطبي (449هـ) في شرح صحيح البخاري، والعلامة العيني (855 هـ) في عمدة القاري، والعلامة  ابن حجر (882 هـ) في فتح الباري، والعلامة القسطلاني (923 هـ) في إرشاد الساري، والعلامة محمد الفضيل الشبيهي (1318 هـ) في الفجر الساطع .

وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

أولا: سياق مواضع الذكر:

ذكر البخاري هذا الحديث في خمسة مواضع من كتابه؛ وهي كالآتي:

الموضع الأول:

ذكره في باب: فضل الصوم من كتاب: الصيام

قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الصيام جنة، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه، فليقل: إني صائم –مرتين-،والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها"[2].

الموضع الثاني:

أعاد ذكره في باب: هل يقول إني صائم من كتاب:الصيام

قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء ،عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه"[3].

الموضع الثالث: باب ما يذكر في المسك في كتاب اللباس

قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"[4].

الموضع الرابع: باب:  يريدون أن يبدلوا كلام الله من كتاب  التوحيد

قال حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يقول الله عز وجل : الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"[5].

 الموضع الخامس: باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه في كتاب التوحيد

قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم قال:" لكل عمل كفارة ، والصوم لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"[6].

ثانيا: ذكر سبب التكرار

إن من منهج  البخاري  رحمه الله أنه كان يكرر الحديث الواحد لاستنباط أحكام مختلفة في كل باب يورده فيه ، ويتضح ذلك في حديث خلوف فم الصائم؛ حيث أورده بألفاظه المختلفة، وكل لفظ يخدم الغرض من الباب الذي أورده فيه؛ ففي باب فضل الصوم أورده لبيان عظم وفضل أجر الصوم عند الله تعالى يوم القيامة؛  وقد بين ابن بطال ذلك بقوله: " يجازيه يوم القيامة بتطييب نكهته الكريهة في الدنيا حتى تكون كريح المسك "[7] .

وأما إيراده له في باب: "هل يقول إني صائم إذا شتم " يقول بدر الدين العيني: " مطابقته للترجمة في قوله :"فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم " [8]انتهى.وقال القسطلاني:"فليقل له بلسانه: إني صائم ليكف خصمه عنه ، أو بقلبه ليكف هو عن خصمه"[9].وقال النووي: "كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى ولو جمعهما لكان حسنا"[10]. قال ابن حجر في الفتح: "ولهذا التردد أتى البخاري في ترجمته لهذا الباب بالاستفهام فقال: هل يقول إني صائم إذا شتم"[11].

وهذا  فيه تذكير الصائم  بعِظَم أجر الصوم ؛ لأنه عندما يتعرض الصائم للشتم  قد يضعف؛ فتذكيره برائحة  الفم ، وأنها أطيب عند الله  من ريح المسك يجعله يتذكر  عظم أجره ويصبر على الأذى ويكظم غيظه. والله تعالى أعلم وأحكم .

وأما مناسبة ذكره في باب: المسك ؛قال العيني: " مطابقته للترجمة في قوله:ريح المسك "[12] ؛ لأن  فيه مقارنة بين الرائحتين: رائحة خلوف فم الصائم ورائحة  المسك؛  قال ابن بطال: " قال المؤلف: المسك أطيب الطيب..؛ لأنه لو كان في الطيب فوق المسك لضرب به المثل عند الله كما ضرب بالمسك "[13].

وأما  إيراده في باب: "يريدون أن يبدلوا كلام الله"؛ قال العيني: " مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله: "يقول الله"[14] ، و قال الحافظ ابن حجر: "والذي يظهر لي أن غرضه أن كلام الله لا يختص بالقرآن؛ فإنه ليس نوعا واحدا ، وأنه وإن كان غير مخلوق وهو صفة قائمة به، فإنه يلقيه على من يشاء من عباده بحسب حاجتهم في الأحكام الشرعية وغيرها من مصالحهم،  قال: وأحاديث الباب كالمصرحة بهذا المراد"[15].–ومنه هذا الحديث-.

وإيراده  في باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه قال العيني: "مطابقته للترجمة في قوله: فيما يرويه عن ربه" [16]، وتخصيص الصوم  له سبحانه وتعالى دلالة على عظيم قدره عنده؛ قال الشبيهي: "والكريم إذا تولى الإعطاء بنفسه عظم العطاء وفخم"[17].

وختاما فإن البخاري رحمه الله أورد هذا الحديث وكرره في خمسة أبواب ، وقد كان هدفه استخلاص الفوائد الفقهية التي يتضمنها هذا الحديث ،وهذا يدل على براعته وعمق فهمه ؛ فجزى الله البخاري عن الحديث وعن عن النبي صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، ولله در من قال: 

                       قالوا لمسلم فضل *** قلت البخاري أعلى

                       قالوا المكرر فيه*** قلت المكرر أحلى[18].

****************

هوامش المقال:

[1]- نقلا من هدي الساري (ص: 10).

[2] -صحيح البخاري (ص: 456-457)، برقم: (1894).

[3] -صحيح البخاري (ص: 459)، برقم: (1904).

[4] - صحيح البخاري (ص: 1491)، برقم: (5927).

[5] - صحيح البخاري (ص: 1849-1850)، برقم: (7492).

[6] - صحيح البخاري (ص: 1863)، برقم: (7534).

[7] - شرح صحيح البخاري (4 /12).

[8] - عمدة القاري (10 /277).

[9]- إرشاد الساري (8 /249).

[10] -  نقلا عن إرشاد الساري (8 /249).

[11] -  فتح الباري (4/ 136).

[12] - عمدة القاري (22 /61).

[13] - شرح صحيح البخاري (9 /165)

[14] - عمدة القاري (25/ 158).

[15] - فتح الباري (13 /578).

[16] -عمدة القاري (25/ 190).

[17] - الفجر الساطع (13/ 138).

[18] - إرشاد الساري (1 /247).

***************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري. لأبي العباس أحمد بن محمد القسطلاني. تحقيق: المكتب العلمي بدار الكمال المتحدة. دار عطاءات العلم- دار ابن حزم بيروت . ط1/ 1442 هـ- 2021 مـ

شرح صحيح البخاري. لأبي الحسين علي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال. ضبط نصه وعلق عليه: أبو تميم ياسر بن إبراهيم. مكتبة الرشد الرياض. (د.ت).

صحيح البخاري. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير دمشق بيروت. ط1/ 1423 هـ- 2002 مـ.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري. لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني. عنيت بنشره  وتصحيحه والتعليق عليه: إدارة الطباعة المنيرية مصر. تصوير : دار الفكر بيروت. (د.ت). 

فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني. طبعة منقحة ومقابلة على طبعة بولاق والطبعة الأنصارية والطبعة السلفية التي عني بإخراجها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وقام بإكمال التعليقات بتكليف وإشراف علي بن عبد العزيز الشبك. رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها: ذ محمد فؤاد عبد الباقي. دار السلام الرياض. ط1 /1421 هـ- 2000 مـ.

الفجر الساطع على الصحيح الجامع. لمحمد الفضيل الشبيهي.دراسة وتحقيق وتعليق: د.عبد الفتاح الزنيفي. مكتبة الرشد الرياض.  ط1/ 1430هـ/2009 مـ.

هدي الساري مقدمة فتح الباري بشر صحيح الإمام أبي عبد الله  محمد بن إسماعيل البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تحقيق وتعليق: عبد القادر شيبة  الحمد. طبع على نفقة  سلطان بن عبد العزيز آل  سعود. ط 1421 هـ- 2001 مـ.

*راجع المقال الباحث: يوسف ازهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق