حديث حازم عن التركيب والتضاعف في المعاني: شرح نص من نصوص المنهاج

لا سبيل إلى تحليل معظم نصوص حازم وقراءتها إلا بشرحها أولا، لغموض معظم نصوصه، لعدة أسباب منها: طبيعة لغته، وضياع جزء من الكتاب، وتركه التمثيل لقواعده، واعتماده القواعد الكلية، وحرصه على التقسيم في كل باب.. إلى أمور أخرى لا سبيل هنا إلى الخوض فيها .
ولذلك فترك الشرح مُوقِعٌ في حديثٍ غير مفهوم عن نص غامض.. والشرح في هذا الباب وذكر الشواهد يصبح في أحايينَ كثيرة ٍإنجازا في حد ذاته.. ولو لم يجد حازم إلا شارحا عارفا بمقاصده، مدركا لأبعاد نظريته على وجهها لكفاه ذلك خدمة لكتابه..
ومن النصوص التي تحتاجُ إلى كثير من التأمل لفهمها هذا النص الذي اخترته من المنهاج.. فأقول :
أولا: النص:
قال حازم في المنهاج :
«وصور المعاني ضربان : صور متكررة وصور غير متكررة . والتكرار لا يجب أن يقع في المعاني إلا بمراعاة اختلاف ما في الحيزين اللذين وقع فيهما التكرار من الكلام. فلا يخلو أن يكون ذلك إما لمخالفة في الوضع : بأن يُقَدَّمَ في أحد الحيزين ما أُخِّرَ في الآخر ، أو بأن تختلف جهات التعلق في الحيزين ، أو بأن يفهم المعنى أولا من جهة من جهات الإبهام ثم يورد مفسَّرا من الجهة التي وقع فيها الإبهام، أو بأن يجمل ثم يفصَّل ـ وهذا يجتمع مع ما قبله من جهة ويفارقه من جهة ـ أو بأن يفصل ثم يجمل الضرب من المقاصد ، أو بأن يورد على صورة من الجمع والتفريق ، كما يقال : أنت وزيد بحران : لكن أنت للعذوبة وذلك للزعوفة .أو بأن تبان الجهتان اللتان توافى بهما الضدان على الشيء كقوله :
......يخشى ويتقى(1) /// يُــرجَّى الحيا منه وتخشى الصواعقُ .
فعلى هذه الأنحاء وما ناسبها يقع التكرار في المعاني فيستحسن. وكثيرا ما تقع التفصيلات والتفسيرات والتقسيمات في المعاني التي تكون من هذا القبيل».
منهاج البلغاء وسراج الأدباء. حازم القرطاجني . 36 – 37 .
ثانيا: الشرح:
1 ـ قول حازم: «فلا يخلو أن يكون ذلك إما لمخالفة في الوضع: بأن يقدَّم في أحد الحيزين ما أُخِّـر في الآخر». جامع لأنواع بلاغية هي :
أولا : العكس و التبديل : وهو أن «يُـقَـدَّم في الكلام أحدُ جزئيه ثم يُــؤخَّر ... كقول بعضهم : عادات السادات، سادات العادات ... وكقول أبي الطيب :
ولا مجد في الدنيا لمن قَلَّ مَـالُه /// ولا مال في الدنيا لمن قَلَّ مجدُهُ »(2).
ولنا أن نقول إن هذا النوعَ فيه مخالفة في الوضع ومشاكلة في اللفظ ، لذلك جعله ابن عميرة المخزومي «من جنس ما يقع في التركيب من تشاكل الألفاظ»(3). وجعل منه قول الحريري : «فأسعِدوا جَدي ، و أجِدُّوا سعدي »(4).
ثانيا : تشابه الأطراف أو التسبيغ : وهو «أن يجعل الشاعرُ قافيةَ بيته الأولِ أولَ البيت الثاني، و قافية الثاني أولَ الثالث، وهكذا إلى انتهاء كلامه، ومن أحسنِ ما قيل فيه قولُ ليلى الأخيلية تمدح الحجاج :
إذا نـــزل الحجاج أرضاً مـريـضــــــــة /// تـتـبـــع أقصى دائــهـــا فـشـفــــاهــــــــــا
شفاها من الداء العـضـال الذي بهــا /// غـلام إذا هــزَّ الـقـنــــــاة سقــاهـــــــــــــا
سـقـاهـا فـروَّاها بـشُـرب سجَـالِـهــا /// دمـــاءَ رجـــالٍ يـحـلُـبـون صَــــرَاهَــــا(5)
ثالثا: التصدير: وهو أن ترد أعجاز الكلام على صدوره، فيدل بعضه على بعض. ومثاله قول الأقيشر الأسدي:
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه /// وَليسَ إلى دَاعِي النَّدَى بِسَرِيعِ(6)
فيحتمل إذن أن يكون الحيز جملة كما في العكس والتبديل، وبيتا كما في تشابه الأطراف، وشطرا كما في التصدير. والجامع بين كلها أنها قائمة على مخالفة في الوضع، يتقدم في أحد حيزيها ما أخر في الآخر.
2 . وقول حازم : «أو بأن تختلف جهات التعلق في الحيزين». فيه إشارة إلى الترديد . «وهو أن يأتي الشاعرُ بلفظة متعلقة بمعنى ، ثم يردها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه ، أو في قسيم منه . وذلك نحو قول زهير :
من يلق يومـا على علاَّتـهِ هرِمـًا /// يلق السماحة منه وَالنَّدَى خُـلُـقَـا
فعلق: «يلق» بـ«هرم»، ثم علقها بـ«السماحة»(7).
3 . وقول حازم: «أو بأن يفهم المعنى أولا من جهة من جهات الإبهام ثم يورد مفسَّرا من الجهة التي وقع فيهـــا الإبهام». فيه إشارة إلى ما يسميه البلاغيون بتمليح الاشتراك المعنوي أو المشاركة. ومن أمثلته عندهم قول كـثير :
لعمـري لقد حببتِ كـــــل قصيـــرة /// إلي ، و مـا تدري بذاك القصائــــــــــرُ
عنيتُ قصيرات الحجال ، ولم أُرد /// قصار الخطا ، شرُّ النساء البَحَاترُ(8)
وليس هذا النوع عندهم بالحسن ولا المعيب. وقد بين بعض ذلك النويري في تعليقه على هذين البيتين حيث قال : «فإن لفظة «قصيرة» مشتركة ، فلو اقتصر على البيت الأول لكان الاشتراك معيبا ، لكنه لما أتى بالبيت الثاني زال العيب ، و لم يبلغ رتبة الحسن لما فيه من التضمين»(9).
4 . و قول حازم : «أو بأن يجمل ثم يفصل ... الضرب من المقاصد». يدخل فيه بعض أمثلة الجمع مع التفريق ، والجمع مع التقسيم . و الجمع مع التفريق عند البلاغيين هو أن تدخل شيئين في معنى واحد ، ثم تفرق بين جهتي الإدخال(10). وهذا قد يكون فيه إجمال ثم تفصيل وقد لا يكون. فمن أمثلة الأول قول الفخر عيسى :
تَـشَـابَـهَ دَمْــعَـانَــا غَــدَاةَ فِـــــرَاقِـــــنَـــا /// مُـشَــــــابَــــهَـةً فـِي قِـصَّـــةٍ دُونَ قِـــصَّـــــــةِ
فَـوَجْـنَـتُـهَــا تَـكْـسُـو الْـمَـدَامِــعَ حُـمْــــرةً /// وَدَمْــعِــي يَـكْــسُــو حُـمْـرةَ اللَّــوْنِ وَجْـنَــتِــي
ومن أمثلة الثاني قول رشيد الدين الوطواط:
فَـوَجْـهُــك كَــالـنَّـــــــارِ فـِي ضَــوْئِـــهَــــــا /// وَقَـلْـبِــيَ كَـالـــنَّــــارِ فِـي حَــــــــــــــــــــــــــرِّهَا
فإنه وإن شبه وجه الحبيب و قلب نفسه بالنار، و فرق بين وجهي المشابهة، لم يورد ذلك على وجه من الإجمال والتفصيل. لأنه جعل الجمع بينهما في التشبيه و التفريق في الصفة في حيز واحد . ولو أنه جعل التشبيه في جهة والتفريق بينهما في وجه الشبه في جهة أخرى، لكان ذلك من النوع الذي يشير إليه حازم والذي عليه بيت الفخر عيسى المذكور(11).
وأما الجمع مع التقسيم فهو أن تجمع متعددا وتقسم. ومثاله المشهور قول المتنبي:
حَـتَّـى أَقَـــامَ عَـلَــى رِيَــــاضِ خَــرْشَـــنَــــةٍ /// تَــشْـقَـــى بِــــــهِ الـــرُّومُ وَالصُّـلْــبَــانُ وَالْـبِــيَـعُ
للِـسَّــبْـيِ مَـا نَـكَـحُوا ، وَالْقَــتْــلِ مَــا وَلَـدُوا /// وَالـنَّــهْـبِ مَــا جَـمَـعُوا ، وَالـنَّـارِ مَــا زَرَعُــوا
فإنه جمع أولا شقاء الروم بالممدوح، ثم قسَّم ثانيا وفَصَّلَهُ.
5 . و قول حازم: «و هذا يجتمع مع ما قبله من جهة ويفارقه من جهة». يقصد: إن هذا النوع يجتمع مع ما قبله وهو المشاركة في كون كل منهما يقوم على تعلق الحيز الثاني بالأول تعلق إيضاح وبيان. و يفارقه من جهة كون الاشتراك متعلقا بلفظ و كون التفصيل بعد الإجمال متعلقا بمعنى.
6 . و قولـه : «أو بأن يفصل ثم يجمل الضرب من المقاصد». فيه إشارة إلى ما يسميه البلاغيون : التقسيم مع الجمع . ومثاله قول حسان:
قَـــوْمٌ إِذَا حَــارَبــُــوا ضَــــرُّوا عَــــدُوَّهُـم /// أَوْ حَـاوَلُــوا الـنَّــفْـعَ فِـي أَشْــيَـــاعِــهِــمْ نَــفَــعُـوا
سَـجِــيَّــةٌ تِــلـكَ مِــنْـــهُـــمْ غَــيْــرُ مُـحْـدَثَــــةٍ /// إِنَّ الـخــَـلاَئــــقَ ، فَــاعْــلَــمْ شَــــرُّهَا الْــبِــدَعُ
قسَّم أولا صفة الممدوحين إلى ضَرِّ الأعداء، و نفع الأولياء، ثم جمعهما في قوله: «سجية»(12).
7 . ثم قال حازم : «أو بأن يورد على صورة من الجمع و التفريق كما يقال : أنت وزيد بحران، لكن أنت للعذوبة وذلك للزعوفة». وقد تقدم بأن من صور الجمع و التفريق ما يندرج تحت الإجمال ثم التفصيل ، لذلك قال هنا : على صورة من الجمع و التفريق، إشارة إلى وجود صور أخرى لـه . و قد كان يمكنه مع ذلك الاستغناء بذكره للتفصيل بعد الإجمال عن ذكر صورة من صور الجمع والتفريق ورفعها لكي تكون قسما من أقسام مراعاة اختلاف ما في الحيزين اللذين وقع فيهما التكرار. ولكن ولوعه بابن سينا جره إلى ذلك ، فقد وجد ابن سينا يقول : «والجمع و التفريق كقولهم: أنت وفلان بحر، لكن أنت للغَمارة ، وذاك للزعاقة». ووجده يجعل ذلك من أمثلة المخالفة في التركيب أو الترتيب بَعْدَ الشركة في الأجزاء(13)، فلم يخالفه في شيء ، مع علمه بأن مثال ابن سينا ليس من البلاغة في شيء . و قد تنبه ابن عميرة إلى ذلك فأعاد صياغة هذا المثال بقوله: «فلان وفلان كالبحر، لكنَّ أحدهما موطَّـأُ المهاد، والآخرَ صعبُ القياد ، وهذا عذب المذاق ، و ذاك مُرُّ الأخلاق»(14).
ويلاحظ أن حازما لم يستعمل التمثيل هنا إلا حيث استعمله ابن سينا، وبالطريقة التي أورده عليها الشيخ الرئيس. ويتبين هذا أوضح في قوله:
8 - «أو بأن تبان الجهتان اللتان توافى بهما الضدان على الشيء كقوله:
... ... يـخشى ويتقى /// يرجى الحيا منه وتخشى الصواعــق»
فقد ترك من بيت المتنبي مثل ما ترك ابن سينا، وهو قولـه: فتى كالسحاب الجون ... وقول حازم: «أو بأن تبان الجهتان اللتان توافى بهما الضدان على الشيء». هو من قول ابن سينا : «وجمع الجملة لتفصيل البيان»(15). ولولا هذا التعلق بالشيخ الرئيس وحسن اعتقاده فيه لكان يكفي حازما أن يذكر أن هذا النوعَ ضربٌ من التفسـيـر. لأن التفسير لا يشترط فيه توافـِي الضدين. ولكنه قد يكون فيه ذلك، ومثاله قول الشاعر:
يـحـيـي ويـردي بـجَـدْوَاهُ وَصَـارِمِــــــــهِ /// يـحْـيِـي الـعُـفَـاةَ وَيـرْدِي كـلَّ مَـنْ حَـسَـــــدَا
ومثاله مما لم يتواف فيه الضدان قول أبي مُسْهِر :
غَـيْـثٌ وَلَـيْـثٌ، فَـغَـيْـثٌ حِـيـنَ تَـسْـأَلـهُ /// عُـرْفاً، ولَـيْـثٌ لَـدَى الـهَـيْـجَـاءِ ضِـرْغَـامُ(16)
ومن معاني التفسير عند البلاغيين أن يذكر المتكلم «لفظا ويتوهم أنه يُحتاج إلى بيانه فيعيده مع التفسير»(17). فهذا نوع منه، إذ من أحواله ما ليس فيه إعادة لفظ.
9 ـ ثم قال حازم: «فعلى هذه الأنحاء وما ناسبها يقع التكرار في المعاني فيستحسن. وكثيرا ما تقع التفصيلاتُ والتفسيراتُ والتقسيماتُ في المعاني التي تكون من هذا القبيل».
وهذا حكم عام في الاستحسان . وقد مضى أن منهم من لم يستحسن المشاركة، وهي تقوم على ما ذكر.
وقد جمع في قولـه: «وكثيرا ما تقع التفصيلات والتفسيرات والتقسيمات في المعاني التي تكون من هذا القبيل». معظم الأنواع البلاغية التي أشار إليها لأن من هذه الأنواع ما يقوم على التفصيل وذلك كالجمع والتفريق، والجمع والتقسيم، والتسبيغ، والتفصيل بعد الإجمال، والإجمال بعد التفصيل، ومنها ما يقوم على التفسير، وذلك كالمشاركة، والتفسير، ومنها ما يقوم على التقسيم وذلك كالجمع مع التقسيم، وكضرب من التفسير فيه تقسيم. فكادت أن تكون هذه الأنواع الثلاثة أصولا لما ذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) هكذا في الأصل . والصواب : يرتجى.
(2) نهاية الأرب للنويري. 7/144. ون. سر الفصاحة لابن سنان.203-204، والإيضاح للقزويني. 2/497- 498.
(3) التنبيهات لابن عميرة . 110 .
(4) المصدر نفسه .
(5) الصَّرَى : دم العِرْق الذي لا ينقطع.
(6) ن . العمدة لابن رشيق . 1 / 571-575 .
(7) العمدة لابن رشيق . 1 / 566 – 567 .
(8) امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة: محبوسة في البيت لا تترك أن تخرج .ج.قصائر . والحجال: جمع حَجَلَة، و هي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور للعروس وغيرها. البحاتر: جمع بُحْتُر، مؤنثه بُحْتُرة، وهي المرأة القصيرة المجتمعة الخَلــْق.
(9) نهاية الأرب للنويري . 7 / 179 .
(10) ن . الإيضاح للقزويني . 2 / 507 .
(11) ن. في ما يتعلق بهذا البيت: حدائق السحر في دقائق الشعر لرشيد الدين الوطواط . 180.179 ، وكتاب الطراز للعلوي . 3/142 ـ 143، والإيضاح للقزويني . 2/507 .
(12) ن. الإيضاح. 2 / 508 .
(13) فن الشعر لابن سينا. 165.
(14) التشبيهات لابن عميرة. 111.
(15) فن الشعر لابن سينا. 165.
(16) ن. نهاية الأرب للنويري. 7/129.
(17) المصدر نفسه.