د. احميده النيفر
جامعة الزيتونة-تونس
التفسير والإنسان
لقي النص القرآني منذ بداية التنزيل عناية فائقة من أجل حفظه وفهمه وتطبيقه. كان الرسول عليه الصلاة والسلام يكشف ما استغلق من الآيات ويفصّل ما أجمل من المعاني، لذلك ظلّ التفسير في مرحلة أولى لصيقا بالحديث النبوي طوال القرن الهجري الأول حتّى منتصف القرن الثاني ومع عصر التدوين تواصل التداخل بين التفسير والحديث، فظهرت في مدونات الحديث النبوي أبواب خاصة بالتفسير دون إحاطة كاملة بالنص القرآني، ثمّ تمّ جمع المتفرّق من تلك الموضوعات لتصاغ في تفاسير شاملة ومستقلة.
تحمل هذه العلاقة بالنص القرآني أكثر من دلالة: هي من جهة ذات دلالة معرفية تبين مسيرة العلوم الإسلامية وتدرجها ومرجعية الأثر النبوي في فهم النص. لكنها من الناحية الحضارية تعني أن النص كان منذ اللحظات الأولى يخاطب الوعي البشري، يواكبه ويحفزه على التفاعل معه والترقي به. هي نقلة نوعية وضعت مضامين الخطاب القرآني ومقاصده في متناول التجربة الإنسانية وأفقها الفكري جاعلة من العلاقة مع النص الموحى شاهدا على تحوّل في طبيعة العلاقة مع المقدس ومع العالم. ذلك ما أبرزه فهمي جدعان، أحد المفكرين المجددين حين اعتبروا أن الوحي القرآني خطا خطوة حداثية كبرى؛ إذ تدخل في التاريخ ليحرر العقلية العربية والفعل العربي من الميثولوجيا القديمة ومن سلطة الخرافة والتقليد وأساطير الأولين وليسلمها لسلطان السمع والبصر والفؤاد: أي إلى سلطات الإدراك الإنسانية الطبيعية لتكتمل بحكمتها وبالكتاب للإنسان أسباب العلم والفعل السديد[1]. ما تحقق مع التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية بعد العهد النبوي لم يزد هذا المعنى إلا وضوحا. بعد أقلّ من قرنين أصبح النصّ المؤسّس بحاجة إلى تفسير وإبانة عامّين، وإلى ما وراء ذلك من تأويلات دقيقة مع عتاد تنظيري ما كان ليخطر على البال في المرحلة الأولى. مثل هذا التحوّل يطرح تساؤلا هو:
كيف سمح العقل المسلم لنفسه أن يخضع النصّ المقدّس والمؤسّس إلى كلّ هذه الأسئلة والافتراضات والمناظرات؟ كيف سمح لنفسه بذلك وهو الذي كان تحرّج من جمع كامل النص؛ لأنّه صنيع لم يقع زمن الرّسول صلى الله عليه و سلم[2].
لتعليل هذه العلاقة التفاعلية ينبغي أن نذكر بأمرين هامين:
أوّلهما: أن اعتماد الرأي في التفسير ظهر مبكرا جدّا، فقد مارس الصحابة، بصفة محدودة، منذ عصر النبوة الاجتهاد في التعامل مع النص عندما لم يتمكنوا من اللقاء بالرسول، صلى الله عليه وسلم، كما وجد من التابعين من كان يفسّر القرآن برأيه[3].
ثانيهما: أن تضاريس الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عرفت منذ نزول النص القرآني من التنوع والعمق ما لا عهد للبيئة العربية به من قبل. هذا الحركة سرّعت التفاعلات المجتمعية والثقافية وأثبتت الطبيعة التي ينبغي أن تحكم علاقة المسلم بالنص منمية بصورة تطبيقية مبدأ خلافة الإنسان لله في الأرض. هي خلافة تعني أنه يتحمل مسؤولية الرسالة وأنه في ذلك ينبغي أن يبقى قارئا متفاعلا مع النص المؤسس.
لهذا أمكن أن نقول: إنّ ظهور تفسير للنص القرآني علما مستقلا وتعبيرا عن إشكالية معرفية ضمن النسيج الثقافي لم يكن حدثا عرضيا مسقَطا، فقد هيأت له تجربة متعددة الأبعاد والضغوط، وساعده خطاب قرآني قام على تداخل الغيبي والعقلي وتفاعلهما، وليس على تناقضهما وتنافيهما.
في ضوء هذه الملاحظات يمكن أن نجيب عن سؤال مركب يطرح وظيفة الوحي من جهة، ولماذا فُسّر النص القرآني؟ ولماذا ظل يفسر منذ ذلك الوقت من جهة أخرى؟
هذه الطبيعة التفاعلية تجعل للوحي وظيفة تحقيق "اتصال بين المطلق والنسبي، بين الكل والجزء للوعي بالكل". ثم بتحول الوحي إلى نص انتقل ليصبح عاملا مرجعيا توحيديا، لكنه لذات الاعتبار غدا إبداعيا تعدديا نظرا لبنائه اللغوي ومنطقه الداخلي. بذلك تحقق أهم أهداف الوحي وأبرز آلية له ألا وهي تحرير الإنسان من الاغتراب بوضعه في سياق تاريخي ووجودي أشمل، وإعادة العلاقة بينه وبين محيطه الكوني.
اعتمدت هذه الطبيعة التفاعلية طريق اللغة لاختزال التوجيه الإلهي للإنسان علما أن اللغة محدودة التمكن من حقائق الوجود بشهادة آيات قرآنية عديدة منها قوله تعالى: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" [الكهف: 104]. هذا ما أضاف إلى ثنائية المطلق والنسبي بعدا ثالثا هو بعد الوجود الذي يتيح للمؤمن عند سبر أغوار الوجود بصفة موصولة أن يكشف العطاءات القرآنية التي لا تنضب. هذا الاتساع في المعنى بما يحيل عليه من التعدد في مستويات الفهم هو الكفيل بما يمكن تسميه: "وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص" وهو ما اعتنى به كاتب معاصر آخر هو أبو القاسم الحاج حمد حين ربط بين فهم القرآن في كليته وفهم طبيعة القرآن نفسه[4]. "وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص" تبرز الفرق الجوهري بين من يرى أنّ القرآن كتاب حاوٍ لسور مفصّلة تتضمن عبادات ومعاملات وبين من يرى فيه بالأخص سجلاّ إلهيا مفتوحا على التجربة الوجودية الكونية. ظاهريا ليس هناك تناقض بين الرؤيتين إلاّ أنّ الأولى مطبوعة بطابع ثبوتي لا يولي كبير عناية لما يمكن أن يعنيه أن القرآن مصدر الحكمة الشاملة أو ما يسميها الحاج حمد: قدرات القرآن في عطاءات عصورية مستقبلية. مثل هذه الرؤية لطبيعة القرآن تجعل المؤمن القارئ لا يمكن أن يكون إلا تجديديا: أي معبرا عن حاجيات الأمة المتجددة مستنيرا بـفـهم القرآن في كليته ونظريته المجسدة لحقيقة الرسالة المحمدية في لحظة تاريخية محددة.
"وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص" جزء أساس من علم النص الذي لا يرى في النص سديما متراميا؛ فلا يقتصر على القول بأن القرآن هو نص داع لعقيدة التوحيد ولمستلزماتها السلوكية، بل يرى فيه أيضا النص الذي يمكّن المؤمن في كل فترة من خلال قراءة توحيدية للنص أن يتدخّل في التاريخ ليساهم في اكتمال حكمة الإنسان ودعم أسباب علمه وتسديد فعله.
هذا التمشي التجديدي أو الحداثي، حسب عبارة جدعان، يمكّن من الانتقال من مستوى القول بأن القرآن هو نص مركِّز للتوحيد إلى مستوى يعتمد فيه على توحيد النص. هو مستوى من التوحيد يمكن أن يتحقق في كل عصر ومصر إذا انفتح المؤمنون على كامل القرآن: أي على عالمه وخطابه بكل استعداداتهم وبحسب ما تستلزمه طبيعة عصرهم من وعي جديد.
التجديد وراهنية الإيمان
يمكننا أن نسأل في مستوى أول ما تمثّله المفسرون للقرآن الكريم من تلك الرؤية التوحيدية التي تتيح للمفسر أن يستوعب جانبا من الخطاب القرآني المنفتح دوما، والمستجيب لما تستلزمه طبيعة ظروفهم من وعي جديد، ثم إلى أي حدّ تنوّعت تساؤلاتهم الفكريّة وهم يعالجون النص المؤسس للحضارة الإسلامية؟
حين نطرح هذا السؤال، فإنّنا نريد في مستوى أوّل أن نحدّد درجة التطوّر التي عرفها هذا العلم اليوم بعد أن شهد قديما مراحل تمّ له فيها نموّ انتهى به إلى تميّز نسبيّ، لكونه ظلّ مرتبطا بدرجة أولى بعلوم اللغة وبدرجة أكبر بأصول الفقه وفروعه وبعلم الكلام.
لكن اهتمامنا بهذا الموضوع له غرض ثان يتجاوز علم التفسير ذاته[5] ليطرح إشكالية الثقافة الإسلامية اليوم. من خلال بحث منهج المفسّرين المعاصرين يمكننا أن نقف على جانب من الخصوصيات الثقافية في بلاد المسلمين التي تعكس نقاط القوّة لديهم ونوع العوائق التي تحول دون تقدمهم. ذلك ما انتبه إليه بعض الباحثين المسلمين النابهين حين أكّد أن كل تغيّر اجتماعي في بلاد الإسلام يرتبط بالنزعة العقلية الموصولة بأسلوب تفسير القرآن[6].
مثل هذه الرابطة القوية الخفية تبرز عند ملاحظة وتيرة الإنتاج في هذا العلم تبعا لتنامي الأزمات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها العالم العربي الإسلامي. ما يصدر إثر الهزّات الكبرى من تآليف في التفسير وفي الدراسات القرآنية مؤشر بأن البحث عن المعنى وآفاق المستقبل يظلاّن في بلاد المسلمين قرينين بالنص المقدّس. غير أن هذا الاقتران يثير تساؤلا نعدّه حيويّا؛ لأنه غالبا ما يُعرِض عن مواجهة بحث قضية "القُدسيّة" هذه وكأنها بلغت من الوضوح درجة لا تحتاج معها إلى مزيد من النظر والحوار. ما نسعى إلى تناوله فيما يلي يمكن أن يصاغ في سؤال: هل غاية مفسّر القرآن اليوم هي الحفاظ على التراث التفسيري الضامن لـ"وحدة الأمة" المتحققة من خلال قدسية مرجعيتها، أو أنّ المقصود هو فهم النص المقدّس فهما حيّا يستوعب التراث التفسيري ويتجاوزه مستفيدا من مجالات المعرفة الإنسانية المختلفة على معنى أن تلك القدسية تستلزم الإقرار بتعذّر التوصّل إلى فهم نهائي لنص الوحي؟
بتعبير آخر: أتستلزم قدسية النص المنزَّل نفيَ كل صلة بين المعنى المراد ووعي الإنسان وثقافته أم أنها قدسية تواكب تطوّر الإنسان ونموّ فكره وفاعلية واقعه الاجتماعي والثقافي؟
في كلمة: ماذا نعني بقولنا إن القرآن صالح لكل زمان ومكان؟ أنقصد بذلك جاهزية الفهم الذي دوّنه السلف والذي يتيح مواجهة ما يستجدّ من أحوال ومشاغل في كل آن ومكان أو أن تلك الصلاحية تعني أن لغة النص المقدّس لا تتوقف عن توليد المعنى عبر السيرورة التاريخية للإنسان ووعيه وتقدّم مجتمعه؟
عندما أكّد فضل الرحمن (1919- 1988) في مطلع كتابه "الإسلام وضرورة التحديث" أنه لا سبيل لتغيير اجتماعي في البلاد الإسلامية دون إرساء نزعة عقليّة إسلامية وأن هذه الأخيرة موصولة" بأسلوب تفسير القرآن فتعثّرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة، إنّما ترجع إلى "الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه"، عندما أكّد ذلك الباحث الباكستاني[7]، فإنه كان يريد أن يثبت أمرين:
1. أن الوحي والخطاب القرآني قد تحوّلا كلاهما عند المسلمين اليوم إلى نص: أي إلى مرجعيّة توحيدية. لذلك، فإن الذي يسعى إلى تغيير تلك المجتمعات والنهوض بها دون الاعتماد على القرآن مرجعا وذاكرةً وهويةً جماعية سيُسقط إمكانية أساسية في عملية النهوض.
2. إن تعثر الجهود العديدة في التعامل مع النص القرآني منذ عقود راجع إلى أننا نقرأ النص على أنه مُتعالٍ لا ينحصر في زمان أو مكان، أو أننا نقرأه -في اتجاه مناقض-: أي على أنه لا ينفكّ مرتبطا بالقرن السابع في الجزيرة العربية.
ما عمل على إرسائه فضل الرحمن خاصة هو القول بأن الرأيين في طبيعة القرآن ليسا بالضرورة متعارضين، بل إذا قلنا إن القرآن يظلّ دوما صالحا للتطبيق، فعلينا أن ننظر كيف تمّ اعتماد خطابه و تفسير تعاليمه لتناسب الظروف المتغيرة في العصور الأولى للإسلام. إنه استيعاب للدلالة العامة للنص وإدراك لتطبيقاتها المختلفة ووعي بالظروف التاريخية التي صاحبتها ثم هو فوق كل ذلك تحقيبٌ للوعي وقدرة على المساهمة في مشاغل المجتمع وتفاعلاته.
هذا التوجه يفتح الباب لإعادة النظر في جملة من القضايا تلتقي جميعُها حول ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأول: أنّ النص القرآني ليس مجرد نص تاريخي؛ هو نص تجسّدت فيه آيات المتعالي على التاريخ، كما يعتقد المسيحي بإمكان وجود آيات المتعالي في الإنسان. لكن هذا لا يعني أن النص القرآني لا يحمل جوانب تاريخية محايثة للواقع البشري كما أنه لا يمكن أن يفهم على أنه من نوع النصوص المبنيّة على نظام سؤال-جواب.
المبدأ الثاني: كون الوحي علاقةً بين الله والإنسان يدعو إلى اعتماد صيغة تمثّلٍ للخطاب القرآني قائمٍ على فهم للنص المقدّس فهما حيّا: أي أنه بالضرورة مختلف عمّا تحقّق في الماضي، ولكنّه أكثر تحديدا إنْ هو تحقّق عبر تجربة معرفيّة وحياتيّة جديدة. إنه خطاب يستوعب النص وعالَمه وكذلك آلية الوحي ومقصده، ليكون من قبيل الاستقبال والاحتضان للقدرة اللاّنهائيّة على الدلالة ومعنى الأشياء.
المبدأ الثالث: التاريخ والهوية معطيان متغيّران: أي أننا في كل عصر نعيد فهم الماضي فهما جديدا مما يجعل للنص المقدّس والقديم وجودا مستمرا في حاضر يزداد وعيُه بالماضي من خلال تجربته الحديثة. مقتضى هذا المبدإ أن الإقرار بانقطاع الوحي واكتمال تنجيم القرآن نصًّا لا يمنع من ارتقاء فهم النص الديني باعتماد المعرفة بمجالاتها الجديدة وما يطرحه الواقع من معضلات وهو ما يطلق عليه "تنجيم المعنى".
تفضي جملة هذه المبادئ إلى أمر أساسيّ وهو أن الخلاف على دلالة القدسية لدى المفسرين المحدثين للقرآن الكريم هو في جوهره خلاف بينهم على دلالة الإنسان. هو في ذلك يلتقي مع الدلالة الحديثة للإنسان التي ترى فيه "الذات المدركة لنفسها تمام الإدراك" والقادرة على التجاوز الدائم لما عليه فعليا، فكأن أخص خصوصية الإنسان هو أنّه مدعو إلى أن يلد كيانه الخاص بصورة مستمرة وإلى جانب ذلك كيان البشرية كلها[8]. ما يفيدنا هذا التعريف هو أننا إذا درسنا العمل التفسيري تبيّن الخلاف بين مسلكين، تراثي سلفي من جهة و تاريخي تأويلي من جهة ثانية. لكن ما يتضح عند التأمّل مليّا أننا إزاء عدم اتفاق على مفهوم الإنسان وسيرورة التاريخ. ما يظنه بعض الباحثين خلافا متعلِّقا بمسألة ماورائية تجريدية فهو -وإن كان في الظاهر يبدو كذلك- في الجانب الأهم واقعي حضاري؛ لأنه يرتبط بالثقافي - الاجتماعي وهو ما يرجعنا مباشرة إلى مقولة فضل الرحمن التي ألمعنا إليها آنفا والتي تربط بين تعثّرات الحاضر والافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه.
نحن في الحقيقة إزاء مسلكين متباينين جوهريا رغم إقرارهما معا بقدسية المصدر؛ هناك من جهة فهم تراثي للنص القرآني يسحب تلك القدسية على الفهم البشري الذي عالج النص وفق نظام فكري ومنظومة ثقافية. إنه تقديس لفهم إنساني للنص وهو في ذات الوقت تفكير بالتراث ومن خلاله فقط.
من جهة ثانية يوجد مسلك يقرّ بقدسية المصدر لكنه يعترف بأن أيَّ فهم للنص المقدّس لا يمكن أن يكون إلا إنسانيا: أي غير منفصل عن التاريخ الفكري والثقافي لمن يباشر النص. هذا التوجّه ملزم بأن يعلوَ على التراث التفسيري عندما يستوعب مسوغات إنتاجه التاريخية والثقافية، إنه تجاوز للتفكير بالتراث إلى التفكير فيه بما يمكِّن من استيعابه وإبداع تجربة أكثر اتساعا ودقّة. ثم هو باستعمال أدوات معرفية إنسانية جديدة يضع للقدسية دلالة مغايرة لدلالة الثبوتية التي يحرص عليها الفهم التراثي.
القدسية هنا تصبح مَعنيَّـةً بالسيرورة التاريخيّة للإنسان ووعيه وتقدّمِ مجتمعه، بينما هي هناك لا تتحقق إلا بغياب طاقات الإنسان ونفي فاعليّة تلك السيرورة، إنها تُحَوِّلُ حقبةً تاريخية إلى منظومة فكرية واجتماعية مرجعية.
المسكوت عنه في هذا النقاش الخافت والمكبوت بين العاملين في المجال التفسيري هو لا شك موصول بطبيعة القرآن وغاية الوحي، لكنها في النهاية تفضي إلى مسألة الإنسان أو ما يمكن أن نعبّر عنه بجدل الوحي والتاريخ.
الإنسان مركز الخطاب القرآني
عند السعي إلى تحديد موقع الإنسان في الخطاب القرآني، فلابد من استحضار ما سبق أن تناولناه من أن الوحي لم يتجاهل الشروط الموضوعية للسياق التاريخي التي واكبته مما يجعل النص متعلقا في جانب منه بالأداء الحضاري للإنسان في القرن السابع ضمن البيئة العربية الشمالية. هذا الإقرار جزء ممّا عرف قديما بجانب من علوم القرآن المتصل بأسباب النزول أو ما يسميه بعض المفكرين المعاصرين "علم النص" وهو علم يربط بين المتن وبين الواقعيات المحايثة له[9].
كيف يتبدّى لنا الإنسان في النص أولا وفي الخطاب القرآني ثانيا؟
ذُكر لفظ الإنسان في النص القرآني مرات قليلة لا تتجاوز الـ65 مرة فهو من هذه الناحية لا يعتبر من أهم الألفاظ القرآنية مقارنة بلفظة الله التي تعدّ أشد الألفاظ تواترا حيث تبلغ نسبة اطرادها الـــ2697. من جهة ثانية فإن السياق الدلالي الذي ترد فيه كلمة الإنسان يتوزعه محوران: محور الإدانة الواضحة فهو ضعيف: "يئوس" [هود: 9]، "خصيم مبين" [النحل: 4]، "عجولا" [الإسراء: 11]، "كفور" [الحج: 36]، "لفي خسر" [العصر: 1]، "أكثر شيء جدلا" [الكهف: 53]. هذا شأنه في أكثر من نصف الآيات التي تذكر الإنسان. إضافة إلى هذا نجد محورا يتحدث عن خلقه وما أودعه الله فيه من استعدادات متباينة: فهو "من حمإ مسنون" [الحجر: 26]، "من علق" [العلق: 2]، "من صلصال" [الحجر: 26]، هذا إلى جانب أنّ الله "علمه البيان" [الرحمن: 2]، وعلمه "ما لم يعلم" [العلق: 2]، و"إن الشيطان له عدوّ" [فاطر: 6].
كيف يمكن أن نعالج هذا الجانب من النص والحال أن عموم الخطاب القرآني يتجه في خصوص الإنسان وجهة أخرى؛ إذ يجعله يحظى بمكانة متميزة فهو خليفة الله وهو مخاطَب بالوحي؟
هنا لابد من العود إلى ما أشرنا إليه من "علم النص" الذي ينطلق من الوعي بخصوصية الوحي وطبيعة الخطاب الإلهي للناس. يتأسس هذا العلم من مبدأ أن الله الذي تجلّى للعالم قد تجلّى للإنسان، فخاطبه بالرسالة وجعل نصها الديني غير منفصل عن تاريخه في الوقت الذي تكون وظيفة الوحي تعاليا على ذلك السياق وتحررا من ذلك التاريخ. بعبارة أخرى علم النص يعتبر أن الوحي الإلهي حين يتجسد نصا لا يستقل تماما عن التجربة الإنسانية وإن كانت غايته مجاوزتَها.
حين ينصّ القرآن مثلا على أن الإنسان لا يسأم "من دعاء الخير" [فصلت: 48]، وأنه إذا أنعم الله عليه "أعرض ونئا بجانبه" [الإسراء: 83]، حين يقع هذا فلابد أن نتذكر أولا: أن لفظة الإنسان في اللغة القرآنية قريبة العهد بالاستعمال اللغوي العربي القديم الذي يتداول هذا اللفظ في سياق استهجاني؛ لأن الإنسان قرين الضآلة والانقطاع والخروج عن الجماعة. يساعدنا على التحقق من هذا لسان العرب ومعجم التاج الذي نجد فيه في فصل الهمزة باب السين: "الإنسان معروف والجمع الناس مذكر... والإنسان له خمسة معان أحدها الأُنُملة قاله أبو الهيثم... أشارت لإنسان بإنسان كفها... وثانيها: ظل الإنسان وثالثها: رأس الجبل؛ ورابعها: الأرض التي لم تزرع؛ وخامسها: المثال الذي يرى في سواد العين ويقال له إنسان العين...[10]". ما ورد من الآيات عن الإنسان: "لكنود" [العاديات: 6]، أو الذي "يفجُرُ أمامه" [القيامة: 5]، وثيق الصلة بالنسق المعتمد في الثقافة العربية السائدة، وهو نسق يعتبر التفرد مهلكة وخسرانا، بينما يعلي من شأن الانضواء في العشيرة والسعي المتواصل لجمع شتاتها. هذا الترسّب التاريخي المستهجِن لنزعة التفرد قائم في النص القرآني رغم أن خطاب الوحي يريد باستعماله إياه أن يزحزحه ويدفع به خارج هذا الحقل فيذكر أن الإنسان هو أيضا مصغٍ إلى النصح وقابل للتوجيه: "ووصينا الإنسان بوالديه" [العنكبوت: 7] أو "أنه على نفسه بصيرة" [القيامة: 14] أو أنه خلق "في أحسن تقويم" [التين: 4].
هذه المواكبة التي يكشفها لنا بحث الإنسان في النص والخطاب تجعلنا ندرك أن النص يتفاعل مع الشروط الموضوعية التاريخية ولكنه لا يقف عندها. من ثم كان لابد من التمييز بين نص القرآن كمتن وبين خطاب القرآن الذي هو أوسع مجالا؛ لأنه مرتبط بعالم ذلك المتن وعالم النبي الذي استوعب الوحي.
صورة الإنسان في المتن، إذن، مختلفة عنها في الخطاب القرآني، وهذا يتأكد خاصة عندما نتذكر ثانيا: أن النص القرآني يعتمد لتحقيق هذه الزحزحة الدلالية على ألفاظ أخرى يركّز بها هذا المعنى الذي يدفع إليه الوحي دفعا من خلال قوالب فكرية وتعبيرية لها ملابساتها الخاصة. من ذلك ما نجده في لفظة "نفس" ذات الاطراد الأكبر وذات التوجه المعبر عن الاستعدادات الكبرى التي يتمتع بها الإنسان لتحمّل المسؤولية في الرسالة التوحيد والاستخلاف. هي النفس الواحدة الجامعة: "هو الذي أنشأكم من نفس واحدة" [الأنعام: 99]؛ وهي النفس المكلَّفة "لا تكلف نفس إلا وسعها" [البقرة: 231]؛ وهي المسؤولة: "يوم تاتي كل نفس تجادل عن نفسها" [النحل: 111]. مع عبارة النفس التي سيستفيد منها الفلاسفة بعد ذلك في مسار آخر نجد النص قد وفّر للخطاب دائرة دلالية أرحب مما أوضحته جزئيا عبارة الإنسان.
من ناحية ثالثة أبان هذا التعدد التزامني Synchronique في الألفاظ المعتمدة المرتبطة بالإنسان ما يوجد من فروق هامة يريد الخطاب الديني أن يكشف عنها ، فروق بين دائرة النفس ودائرة الإنسان باعتبار أن الأولى تمثّل مجالا أعمق من مجال نفسّية الفرد العادّية. هذا التمايز يوحي بإمكانية اتصال الذّات الإنسانية بذات الحق العليا بما يكشف عن تفرّدها وقدرتها.
هذا الاهتمام بالجانب الدلالي للخطاب القرآني وما يستلزمه من إدراك لوعي الإنسان لاستجلاء أبعاد ذلك الخطاب يصلح ليكون معيارا لتقييم طبيعة مناهج المفسرين في العصر الحديث[11].
إن أهم ما ظهر في القرن الماضي من أعمال ودراسات تفسيرية يشهد على تعامل موضوعي مع الفجوة الكبرى بين ما تمّ إنجازه من مدوّنة تفسيرية وبين القيم والمفاهيم والروابط التي أصبحت تصوغ الواقع وتحكم العالم من حوله. لقد اعتنى عدد من الباحثين في الدراسات القرآنية بالنسق الفكري الذي يحتكم إليه كل من يتعاطى مهمّة فهم الوحي. ذلك أن المتكلمين والمفسرين والدارسين يرتكزون على نظام فكري ومنظومة ثقافية حين يباشرون فهم النص مما يجعل إنتاجهم العلمي غير منفصل عن التاريخ الفكري والثقافي: أي أنه محتاج إليه قدر من النسبية يجعله أبعد ما يكون عن الخطاب الإيديولوجي الوثوقي.
معنى التجديد الذي تبلور في القرن المنصرم ضمن الأدبيات القرآنية العديدة ينطلق من تبيان طبيعة الاختلاف بين المدونة التفسيرية الموروثة والحاجيات التي يطرحها الفكر والواقع المعاصرين. لذلك أمكن القول بأنه لا يُعَدّ مجددا من شخّص إشكالية المفسر الرئيسية خارج الموروث التفسيري وخارج البناء الفكري الذي قام عليه ذلك الموروث. هذا ما يسمح لنا أن نعتبر أي ضرب من الدراسات القرآنية التي تصدر اليوم تقليديا إن هو لم يزد في اهتمامه عن إعادة صياغة المعاني القديمة بلغة مستساغة أو عن الاعتناء بترجيح بعض أقوال المفسرين القدامى في مسائل لغوية وعقدية و تشريعية حتى وإن كان في ذلك مستفيدا من بعض الكشوفات العلمية أو التاريخية الجديدة. في هذه الحالات يظل المسعى العلمي مستندا جوهريا على الجانب الموروث؛ فهو لن يزيد في ما ينتجه من أفكار وما يعتمده من نسق عن كونه يتيح لتلك المباني الفكرية والثقافية من إعادة إنتاج نفسها مع بعض التعديلات الشكلية الطفيفة. من ثَم، فإن هذه الاستعارات لا تشفع للباحث الذي يظن أنه بصدد عمل تجديدي، في حين إنه يبقى عملا تراثيا؛ لأنه أوّلا: لم يطرح إنتاجه على محك النقد وإعادة القراءة بناء على أن تشخيصه لطبيعة عمله العلمي يظل منصبّا على عناصر "خارجية " بالأساس.
ثانيا: يبقى هذا المفسر أو المتكلم تراثيا؛ لأنه لم يعتبر الإنسان ووعيه قيمةً محكّمة في الفهم؛ لذلك لم يفكر هو من خلال تراثه، بل يكون قد مكّن ذلك التراث من أن يتواصل عبر عملية استنساخ ثقافي تؤكد عدم الحاجة إلى إعادة بناء الفكر وتحيينه بتغييب للعنصر الإنساني.
بتعبير آخر: يمكن القول إن المجدد في المجال الذي يعنينا هو الذي يقطع إيجابيا مع التراث التفسيري القديم عندما يباشر فهمَ الوحي الإلهي وبناءَ فهمه ذاك على وعي تاريخي يتجاوز آلية التراكم الكمي. ما يضبط لنا معنى القطع الإيجابي أو التجديدي هو أن يصير المفسر إلى ضرب من التفكير ليس بالتراث، ومن خلاله فقط لكنه تفكير يستوعب التراث التفسيري؛ فيفهمه ليتجاوزه مستفيدا في ذلك من مجالات المعرفة الإنسانية المختلفة.
تجديد المفسر، إذن، لا يسمح له أن يضحي مجرد أداة "يفكر" التراثُ عبرها، بل أن يقطع مع هذا المنهج معيدا الاعتبار إلى الإنسان الخليفة المفكر في التراث ومسوغات إنتاجه التاريخية والثقافية.
في كلمة، يُدرَك تجديد المفسر بقدر تحرّره من المدونة التفسيرية الموروثة وذلك عبر استيعابها ونقدها ناسجا بذلك قراءة متميزة للنص تستمد تميزها من معرفة أدق بتاريخ نظام الفكر الإسلامي، وخاصة في مجال تخصصه، ومن استحضارها لقضايا العصر الفكرية والاجتماعية والأخلاقية.
هذا ما يؤدي بنا إلى القول بأن ظاهرة الوفرة في إنتاج أعمال كثيرة لفهم النص القرآني في العقود الأخيرة يرجع في جانب رئيسي منه إلى جهود الحداثة العربية وما تبنته من مواقف نقدية كان لها الأثر الواضح على الدراسات القرآنية. لقد أدخلت في الاعتبار الفكر النقدي وجانب من المعارف الحديثة ضمن مجال كان يُحتكَم فيه إلى الأنساق التراثية ومبانيها العقلية المحدودة.
لذلك، فإنه يمكننا في هذا المستوى الأول أن نثبت أن رفض هذا التمشي الحديث وما يؤدي إليه من تجديد ليس في النهاية إلا تهديدا للبناء الديني نفسه الذي يُظَن أن حمايته لا تكون إلا بعزله عن مسيرة الحضارة والتاريخ. هو تهديد صريح للرسالة الدينية؛ لأنه إهمال لمبدأ خلافة الإنسان التي لا تستطيع أن تتحقق خارج الشروط التاريخية والاجتماعية والفكرية المعاصرة.
الإنسان ذلك المتجدِّد
السؤال الذي يُطرح في هذا المستوى هو: هل لفكرنا الدينيّ اليوم من التصورات والصياغات النظرية التي يمكن أن نصفها بالمعاصرة: أي التي تكون وفق شروط الوعي الحضاري الآني بما يجعلها مقبولة لدى أجيال من المسلمين، وغير المسلمين، الذين تمثّلوا بدرجة من الدرجات التطورات الفكرية والحضارية الحديثة؟
ما تؤكده عموم "الأدبيات الإسلامية" في البلاد العربية منذ ما يقرب من قرن هو أننا لم نحقق في هذه السبيل ما يمكن أن يعدَّ ربطا حقيقيا بين الوعي الديني والوعي التاريخي. ما حققّه رجال الإصلاح الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل العشرين لا صلة له بما نحن بصدده. ما واصله بعد ذلك دعاة الإسلام السياسي في مختلف البلاد العربية كان ضمن نفس الوجهة أي بعيدا عن الانخراط فيما شرع فيه بصفة واضحة محمد إقبال في الثلث الأول من القرن الماضي[12].
منذ كتب محمد إقبال كتابه عن تجديد الفكر الديني تبيّن أن السؤال الذي صاغه الإصلاحيون "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ "ليكون السؤال الإشكالي قد أصبح متجاوَزا لكونه سؤالا غير بنائي أي غير قادر على التأسيس لتجارب إيمانية وتطبيقات واقعية جديدة للخطاب القرآني".
إن أردنا مثالا نوضح به جانبا من هذا التعطّل الثقافي في الفكر العربي الإسلامي، فإننا نقول:
في القديم حين عالج المسلمون مسألة الوحي مثلا، فإنهم عالجوها سواء أكانوا معتزلة أم أشاعرة أم فلاسفة من خلال الأطر المتداولة لديهم: ابن سينا، مثلا، في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي قال عن الوحي إنه اتصال النبي بالعقل الفَعَّال، العقل العاشر، معبّرا بذلك عن تصوّر داخل المنظومة المفاهيمية التي كانت سائدة. كيف يمكن اليوم أن نقبل مقولة العقول العشرة؟ هل نعوّضها بمقولة المعتزلة بأن الوحي أصوات وحروف منظومة ومخلوقة ابتدائيا من الله في الهواء على مسامع النبيّ؟ أم ننظر فيما عبّر عنه باحثون معاصرون على أنه ارتباط communication[13].
لا تتوقّف المسألة عند حدود هذا المثال، بل تشمل مفاهيم أساسية أخرى كالدّين والإيمان والنبوّة والمعرفة والشريعة، لذلك سألنا: هل الفكر الديني عندنا له من الصياغات النظرية التي تقتضيها الأطر المعرفية المعاصرة؟
هذا التعطّل ذاتُه يجعلنا نتجاوز، عند الحديث عن علاقة الوحي بالتاريخ وتهافت الفكر الديني في الفضاء العربي، المجالَ العقدي والفكري. مسألة التجديد التي تناولها محمد إقبال وقلّةٌ قليلة من المفكرين العرب بعده لها صلة بمجال الإيمان. دلالة الإيمان هذه تجعل لسؤال التجديد: (هل الدين أمر ممكن اليوم؟) صياغةً رديفة لا مناص من الإشارة إليها هي: كيف ينبغي أن نصوغ الإيمان اليوم؟
ما نقتصر عليه في هذا السياق هو أن الإضافة العربية في هذا الجانب الخطير ضامرة جدا وهو ما يجعل رفض المسلك التجديدي في النهاية مزيدا من تعطل المنظومة الثقافية ومزيدا من تفكك النسيج الديني ذاته بعد الإطاحة ببناه التقليدية والاجتماعية.
ما نراه هو أن للقرآن الكريم قدرة عطائية مهمة في هذا المجال، لا من أجل أن يقدم إلينا معرفة علمية جاهزة، فهذا أمر لا يدعيه القرآن، وليس من مهامه؛ لأنه ليس كتاب علوم، وإنما كتاب هداية. ومهمته هي أن يحرر الإنسان من معيقاته النفسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية، ويدفعه إلى إعادة النظر في كثير من مسلماته المعرفية، الموروثة عن الآباء والأجداد، والسادة والكبراء. إنّها مهمة تعيد الاعتبار للكائن البشري، وتشغل كل طاقاته دافعة به إلى التفكير والنظر في آيات الآفاق والأنفس حتى يتسنى له القيام بالدور الاستخلافي الذي وجد من أجله.
كانت إضافة باحثين من قبيل أمين الخولي وعائشة عبد الرحمن ومحمد أحمد خلف الله وأبو القاسم حاج حمد وفضل الرحمن تؤكد وجودَ تباين جوهريّ ومنهجيّ بين المدارس التفسيرية للقرآن الكريم.
أهم ما في هذا التباين المنهجي هو ما يعنيه بالنسبة إلى البنية الثقافية ذاتها. هو مؤشر أكيد على أن الثقافة الإسلامية اليوم تحمل في داخلها صراعا لا يجوز التغاضي عنه، فهي ليست كُـلاّ أصمّ وروحا واحدة منغلقة. إنكار هذه الحقيقة ليس إلا مسايرة لمقولة: "أرواح الشعوب" المتداولة في الفكر الأوروبي التي انبثقت عنها نظرية "صراع الحضارات" المعتمدة على أن هناك حضارات تمثل الخير المحض وأخرى الشر الخالص.
دراسة الفكر الديني الحديث فضلا عن القديم يثبت حاجة مقولة المستشرق "فون قرونوباوم" Von Grunebaum إلى المراجعة، ذلك أنه يعرّف الثقافة بأنها "منظومة مغلقة من الأسئلة والإجابات تتصل بالعالَم وبالسلوك الإنسانيّ والاجتماعيّ[14]."
بذلك تبرز المفارقة الكبيرة التي يعاني منها الفكر السلفي التراثيّ من خلال ما يُثبته منهجه التفسري للقرآن الكريم الذي يعتبر أنّ الفهم الصحيح للنص القرآني سيظل مرتبطا بزمن وبإطار حضاري وأن كل خروج عنهما مُدانٌ؛ لأنه يفضي إلى إفساد العلاقة المثلى بين المفسّر وبين النص المقدّس.
عند التمعّن نجد أن هذا الفهم في جانب منه ليس سوى استشراق مقلوب. ذلك أن المستشرقين التقليديين، وهم يقرّون بأهمية التراث الإسلامي والتفسيري منه بصفة خاصة، يعتبرون أن ذلك الإرث لا يمكن أن يُفهَم إلا ضمن السياق التاريخي الذي وَلَّدَه وشهِدَ نموَّه. من هذه الزاوية لا يبدو أن هناك فرقا جوهريا بين قراءة جانب من المستشرقين وبين دعاة القراءة التراثية. هؤلاء لا يأبهون لشروط الوعي الإنساني وضرورة تجدُّدِه وأولئك لا يرون في التراث الإسلامي وخاصة في الجانب التفسيري منه أيّة فاعلية عند وضعه في سياق حضاري مغاير يتجاوز الظروف التاريخية القديمة. في كلتا الحالتين هناك تلازم لا يمكن أن ينفكّ بين النص المرجعي وبين المستوى الذهني والمعرفي الذي كان في زمن النزول وما تلا ذلك بقرنين؛ إنه إقرار بعجز الإنسان المؤمن عن إعادة اكتشاف معاني القرآن ودلالات التراث وفق شروط وعي معاصر[15].
هذه المفارقة هي التي تجعل المسلك التراثي السلفي "استشراقا من الداخل الثقافي" كما تجعل من جلّ المستشرقين الأوروبيين "تراثيين من الخارج".
كيف يتأتّى تجاوز هذه المفارقة المُضنية التي أرهقت المنهج التراثيّ السلفيّ وزجّت به في دائرة العجز والإحباط؟
لقد أعاد أصحاب المسلك التاريخيّ التأويليّ الاعتبار إلى الإنسان فرأوا فيه ذلك الكائنَ التاريخيَّ: أي الذي يحققّ ذاته عبر التجارب المتجدّدة و الموضوعيّة للحياة ذلك ما يعبَّر عنه عند تحديد معنى فهم النص القرآني بأنّه "معاناةٌ للحكمة الإلهية بمشاغل الواقع[16]"؛ ذلك يجعل كل مقاربة تجديدية للإنسان مؤدية إلى إعادة فهم وظيفة الوحي وربطها بطاقات الإنسان واتساع رؤيته الفكرية والاجتماعية.
هو في النهاية عود إلى ما كان حدده محمد إقبال حين عرّف الدين بأنّه "إيمان بمصير الإنسان مما يجعل حقيقة الحياة الدينية هي اكتشاف المؤمن رتبتَه في سُلَّم الموجودات[17]"؛ ضمن هذا التمشي يصبح السؤال التجديدي مختلفا عما يحرص عليه الخطاب السلفي الإحيائي. سؤال إقبال كان: "هل الدّين أمر ممكن؟": أي كيف يتأتّى تعقّل الدين الإسلامي اليوم بوسائل الحضارة المتاحة وبمعارفها المتجددة. بعبارة أخرى: كيف يتمّ الالتحام بشروط الوعي المعاصر وليس وفق شروط الوعي التاريخي السابق؟
على هذا ينتفي القول بأن هويّة الإنسان وإرادته ووعيه أشياء محدّدة سلفا ويتأكد اعتبار الإنسان وهويّته في حالة تخَلُّقٍ وبأنّه لا يفهم نفسه إلاّ بطريق غير مباشر. إنه وعي مختلف ينطلق من أن العالم كله يعيش حضارة واحدة وإنْ تعدّدت واختلفت المداخل والخصوصيات الثقافية؛ وهو ما يحمل على تمكين مجتمعات المسلمين من العيش على شروط الوعي الحضاري العالمي الجديد.
هوامش
1. فهمي جدعان، "أسس التقدّم عند مفكريّ الإسلام في العالم العربي الحديث"، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، د. ت.
2. انظر قصة جمع القرآن في عهد أبى بكر بعد معركة اليمامة(11ﻫ) مع عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم، في صحيح البخاري عن طريق عبيد بن السباق.
3. الشحات السيد زغلول، "الاتجاهات الفكرية في التفسير الحديث"، الإسكندرية، 1397ﻫ.
4. محمد أبو القاسم حاج حمد، "العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة"، بيروت: دار ابن حزم، 1996.
5. انظر دارستنا عن مناهج المفسرين في العصر الحديث، "الإنسان والقرآن وجها لوجه"، دمشق: دار الفكر، 2000.
6. فضل الرحمن، "الإسلام وضرورة التحديث: نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية"، تر: إبراهيم العريس، دار الساقي ط1، 1993.
7. عمل فضل الرحمن مديرا لمركز الدراسات الإسلامية بإسلام-أباد ثم غادر بلاده ليدرّس الفكر الإسلامي في قسم لغات الشرق الأدنى بجامعة شيكاغو بالولايات المتّحدة الأمريكية، لم يترجم من أعماله إلى العربية إلا كتاب واحد السابق الذكر.
8. "الموسوعة الفلسفية العربية- المفاهيم" بيروت: المعهد العربي للإنماء/ ط1، 1986.
9. انظر محمد مجتهد شبستري، "حوارات عن الكلام الجديد: تساؤلات في الموضوع المنهج"، مجلة المنطلق، عدد113 خريف 1995-1416.
10. راجع لسان العرب وتاج العروس، فصل الهمزة، باب السين.
11. إيزوتسو توشيهيكو، "الله والإنسان في القرآن: قراءة في علم دلالة القرآن"، ترجمة عيسى العاكوب، حلب: دار الملتقى 2008.
12. محمد إقبال، "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، ترجمة عباس محمود القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر ط2. القاهرة 1968.
13. انظر محمد مجتهد شبستري، م، س.
14. راجع هذه المقولة عند قوستاف فون قرونمباوم:
G.Von Grunebaum, L’identité culturelle de l’Islam, Ed. Gallimard, 1973.
15. انظر مثلا الحوار الهام الذي دار بين محمد أركون وروجي أرنالديز حول منهجية الاستشراق وآفاقه في كتاب محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، لندن: دار الساقي 1990 ص326-335؛ راجع أيضا فصل "مستشرقون" في الموسوعة الإسلامية، الطبعة الفرنسية:
J.D.J. Waardenburg, E.I..art. Mustashrikun, p736- 754.
انظر لمجموعة من المؤلفين: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج، جزءان، تونس 1985؛ الاستشراق: التاريخ والمنهج والصورة في عددين من مجلة الفكر العربي عدد 31-32 يناير-مارس 1983 وكذلك د. أحمد محمود هويدي، "الدراسات القرآنية في ألمانيا: دوافعها وآثارها"، مجلة عالم الفكر عدد 2 المجلد 31، أكتوبر-ديسمبر 2002.
16. انظر حاج حمد المذكور.
17. راجع دراستنا عن الإنسان والزمان في منظومة محمد إقبال التجديدية، ضمن أعمالنا المنشورة في كتاب: "النص الديني والتراث الإسلامي قراءة نقدية"، بيروت: دار الهادي، ط1، 2004.